الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كوكتيل إجرام

كوكتيل إجرام
21 أغسطس 2014 20:10
تلقى الأب رسالة بريدية على عنوان منزله من المدرسة التي يدرس فيها ابنه، تنذره بفصله من المدرسة وهو في الصف الثالث الابتدائي، ولم يتجاوز العاشرة من عمره بعد، قرأها بصعوبة رغم أنها مكتوبة على الكمبيوتر، لكن المشكلة فيه هو، حيث بالكاد يجيد القراءة والكتابة، وبعد ذلك ألقى بها جانبا ولم يفتح الموضوع لا مع ابنه الذي تخصه الرسالة، ولا حتى مع زوجته التي استفسرت منه عن مضمونها، بل إنه لم يجبها عن تساؤلها عندما أرادت أن تعرف ما بها وماذا تحتوى، أشاح بوجهه عنها تعبيراً عن تعبه وإجهاده من عمله، وليس انزعاجا مما في الرسالة، فلم يكن ذلك ذا أهمية كبرى عنده، وأيضا ليس مهما إن تعلم الصبي أو ترك المدرسة، ولا فرق كذلك إذا تركها باختياره أو تم فصله بقرار رسمي. ثلاث رسائل لم تكن هذه هي الرسالة الوحيدة التي وصلته بهذا المعنى تخبره بمصير ابنه التعليمي، وإنما تلتها رسالتان أخريان حتى إنه لم يفتح الأخيرة لأنه توقع ما تحويه، ولم يكلف خاطره بما فيها، ومن جانب آخر لم يسأل ابنه عما فعل بالمدرسة لتكون تلك عقوبته ولم يعنفه لأنه وضع نفسه في هذا الموضع وذلك جعل الصبي يشعر أنه في مأمن تماما مما يحدث، وقد اطمأن قلبه عندما علم ما في الرسالة، وأن أباه لم يتخذ أي إجراء ولو بالكلام، ليس هذا فقط بل إنه شعر بالسعادة لأنه لن يتم اتخاذ أي خطوة إجبارية ليلتزم بالدراسة، فهو يشعر بالملل والقيود في الفصل، كأنه عصفور حبيس في القفص، الاستيقاظ في الصباح الباكر يعتبره عقوبة، إنه يريد أن يعيش حياته بالطول والعرض. المرة الأولى التي أرسلت فيها المدرسة رسالتها كانت بسبب أن عدداً من التلاميذ يقومون بتدخين السجائر في دورات المياه، في أثناء اليوم الدراسي وكذلك أثناء «الفسحة» ولم يكتفوا بأنفسهم وإنما يجرون أرجل بعض زملائهم معهم، يقدمون لهم إغراءات تبدأ بسيجارة مجانية، ثم السبب الأهم أنهم يجب أن يشعروا أنهم بلغوا مبلغ الرجال، فهم ينظرون على أن التدخين علامة الرجولة، ويقلدون بعض الفنانين الذين يبتلعون الدخان ثم يخرجونه من خياشيمهم وأفواههم، المشهد بالنسبة لهم مدهش، والرسالة الثانية كانت تتعلق بكثرة غياب الصبي من المدرسة، وقد أصبح لا يتوجه إليها أصلا، فليس لديه وقت يضيعه في المذاكرة ومع الكتب التي لا يجد فيها أي نوع من المتعة، أما الرسالة الثالثة التي لم يفتحها الأب فقد كانت القاصمة والضربة القاضية إذ كانت تحمل القرار الحاسم بفصل «سليم» نهائيا من المدرسة. نحو الهاوية كانت هذه نهاية الصغير المتمرد ونهاية علاقته بالدراسة والتعليم، بينما كان الوضع مختلفا عند الآباء الذين اهتموا بالرسائل المماثلة التي وصلتهم وهرولوا إلى المدرسة منزعجين مما فيها، وبداية تعهدوا بمتابعة أبنائهم والمشاركة في مراقبتهم وتقويمهم وأيضا مع قليل من العنف وكثير من الترغيب نجحوا في تفادي المشكلة وتجاوز أبناؤهم تلك العقبة وواصلوا مسيرة التعليم، وانفصلوا عن أصدقاء السوء الذين كانوا يتجهون بهم نحو الهاوية والضياع. شعر «سليم» بمتعة الحرية، فليس هناك أي نوع من الرقابة على تصرفاته، ينام ويستيقظ حسبما يحلو له، لكن المشكلة الكبرى التي تواجهه الآن هي المال الذي يحتاج إليه يوميا لشراء السجائر التي أصبحت ضرورة لمزاجه، ولم تعد مجرد سلوك تقليدي كما كانت لقد أصبح مدمنا للتبغ ولا يمكنه التوقف، بل لا يمكنه التقليل من الكمية التي يدخنها كل يوم، ولا يعرف من أين يأتي بالمال، فراح يقلد بعض أقرانه من الذين يتسولون في الشوارع لكن لم يجد من يستجيب معه ولا من يعطيه إلا قليلا من الفتات لا يكفي، علاوة على أن الكثيرين ينهرونه لأنهم يعرفون أن أمثاله مشردون بإرادتهم وبما صنعت أيديهم وبإهمال ذويهم، فلا يتعاطفون مع هذه النوعية من أطفال الشوارع، فقرر أن يغير أسلوبه في التسول ليأخذ شكل العمل فحمل قطعة من القماش القديم ووقف في إشارة مرور مزدحمة يقوم بتنظيف زجاج السيارات، وجاءت النتيجة على عكس ما يريد، فمن ناحية وجد من يطرده من المكان لأنه يعمل فيه بنفس الأسلوب، ومن ناحية أخرى كانت كلمات النقد والتجريح والطرد هي البديل عن المال الذي يسعى للحصول عليه. فرصة ضائعة جاءت لحظة النجاة والإنقاذ، عندما وجد رجلا يعرض عليه العمل لديه في محل لبيع الخضراوات والفاكهة كل ما سيفعله أنه يقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل، أو يحمل بعضها لمعاونة الزبائن، وقد شعر أن الدنيا تبتسم له وقد جاءه الفرج وسيكسب من المال ما يريد ولن يكون بحاجة إلى التسول مرة أخرى، ومن الآن فصاعدا يستطيع أن يشتري السجائر كما يحب وفي أي وقت، إلا أن صاحب العمل فوجئ به يدخن أثناء العمل، وقد كانت صدمة للرجل أن يرى هذا الصغير وهو يدخن بشراهة ويخرج الدخان الأزرق من فمه وخيشومه في نفس الوقت كأنه «شكمان» سيارة أصابه العطب، فقام بتوجيه النصح له بالحسنى لكي يتوقف عن التدخين، لكن الصغير لم يستجب وأصر على ما هو عليه، فحذره، وأيضا لم ينفع معه التحذير، إلى أن جاءت الشكاوى من معظم الزبائن بأنهم يرفضون التعامل مع هذا المتمرد الذي يسيء الأدب ولا يقوم بمهمته، فكانت النتيجة أن تم طرده ليعود إلى الشارع يبحث عن عمل. مثل هذا الفتى، لا يعدم حيلة في التعرف على من هم على شاكلته، والغريب انهم يتآلفون رغم انهم ينكر كل منهم تصرفات الآخر، وهم يعرفون انهم يسوقون بعضهم إلى الانحراف ولا يتراجعون، يلعبون القمار ويخسرون ويتشاجرون ولا يتوقفون، لهم أماكن محددة يتجمعون فيها، وتبدو صداقتهم المدمرة قوية متينة، وكان هدفهم واحداً وهو البحث عن المال بلا عمل وكان تفكيرهم واحداً أيضاً ولم يتجه إلا إلى الحرام. سهرات منحرفة هذه المرة كان الحل في السرقة، وجد «سليم» من يدربه ويعلمه كيف يسرق، وكيف يستولي بكل خفة على ما في الجيوب أيا كان موقعها وشكلها، ولأول مرة في حياته تجري الأموال الحرام بين يديه سهلة، بلا عناء عمل أو جهد، وفي نفس الوقت وجدت هذه الأموال منفذاً كبيراً لكي يتم إنفاقها فيه، إنه المخدرات، فقد كانت السهرات تجمعه بتلك الشلة السيئة المنحرفة كلها، جميعهم بين الثانية عشرة والخامسة والعشرين، قليلون منهم من تجاوزوا هذا العمر، يتجمعون كل مساء في أوكارهم ويقضون ليلهم مع هذه السموم التي يتوهمون أنها سبب متعتهم في الحياة، أو هي الوسيلة الوحيدة للاستمتاع، وكذلك هي التي تعينهم على نسيان ما هم فيه، ولا يخلو الأمر من إحساسهم بالوجاهة في تلك الجلسات، وهكذا يأتي المال الحرام نهارا ليضيع ليلا في الحرام أيضاً، وعندما يأتي الصباح لا يجد أي منهم ما يمكن أن يشتري به طعام الإفطار، فينتشرون بحثا عن ضحايا جدد. لم يعد لسليم -وأمثاله كذلك- علاقة بذويهم ولا بأسرهم، ولا يترددون على منازلهم، فرضوا على أنفسهم قطيعة واعتبروها استقلالا يشعرهم بالرجولة الوهمية كما يتصورونها في أذهانهم، ولم يفكروا يوما في الرجوع إلى الفضيلة والحياة المستقيمة، ولم يرد على أفكارهم أبدا انهم يرغبون في بيت مستقر وزوجة وأطفال، بل يعتبرون ذلك قيودا فيرفضونها ولا يتمنونها من الأساس فالحرية أهم من ذلك كله، ولماذا يتحملون مسؤوليات هم في راحة منها، بل قد يذهب تفكيرهم إلى أن من يتزوجون ليسوا عقلاء. يقظة متأخرة في تلك الليلة توجه «سليم» كعادته لشراء ما يحتاجه من المخدرات فكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أن التاجر قام برفع الأسعار، والسبب أن البضاعة ارتفعت أسعارها من المنبع، ولأن ذلك سيكون قاصما لظهره فقد احتد في الحوار مع التاجر رافضا بشكل قاطع تلك الزيادة، وبالمقابل رفض الآخر أي حوار في الموضوع، مهددا بنبرة حاسمة بأن من لا يملك المال لا يأتي إليه، وتبادلا الكلمات النابية والشتائم، ثم التشابك والاقتتال، وأخرج «سليم» المطواة التي لا تفارق جيبه وطعنه بها طعنة واحدة في قلبه كانت كافية لأن تودي بحياته ويسقط صريعا في الحال. وهكذا كان سليم «كوكتيل إجرام»، من طفل متشرد إلى صبي لص، إلى شاب قاتل، ألقت الشرطة القبض عليه ولأول مرة يجد نفسه ملتزما بكل ما يملى عليه وينفذ الأوامر التي تصدر بلا نقاش وهو مكبل بالقيود الحديدية، ليتوقف عن كل ما كان يعتقد انه متعه من السجائر والمخدرات، ليكتشف أن كل ذلك كان وهما يسيطر عليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©