الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين التهميش السياسي والتشويه الشعري

بين التهميش السياسي والتشويه الشعري
1 أغسطس 2013 14:55
الدكتور عارف الكنعاني الشعراء الذين يحترقون وهم يزهرون قليلون.. ولكنهم على قلتهم، تركوا لنا آثاراً خالدة، لم يعبها على الإطلاق صغر سنهم وعدم بلوغهم من العمر عتياً كزهير بن أبي سلمى الذي قال: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أب لك يسأم وابن هانئ الذي أوردنا في الحلقة السابقة مأساة نهايته، واحد من أولئك الشعراء الذين لم يتح لهم أن يعمروا طويلاً والذي قال عنه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي قولته المشهورة: هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا. لم نستطع في الحلقة السابقة رغم محاولتنا الجادة لاختصار حياة ابن هانئ الأندلسي وشعره أن نقدم الصورة الكافية والوافية لهذا الشاعر، والذي لم تضع حياته فقط بل ضاع معظم شعره ولم يصل إلينا منه إلا القليل، ولكن القليل الذي وصل كثير جداً، ولم يلقب بمتنبي الغرب إلا لقوة شعره ولكونه مجدداً يحمل شعره رسالة واضحة وقضية جلية. وحينما يكون الشاعر سياسياً أو محسوباً على تيار دون آخر فمن الطبيعي أن يتعرض للتهميش في الأطراف الأخرى، وهذا ما حدث لابن هانئ. يقول الدكتور عمر فاروق الطباع في مقدمة ديوان ابن هاني الأندلسي الصادر عام 1998: ولعل الشبهات التي حامت حول مذهبه وعقيدته الدينية هي التي حملت الرواة على طمس معالم شعر صباه سوى القليل مما قاله متغنياً بلذات الخمر ومجالسها، كي لا يبرز منه سوى ملامح الشاعر الماجن المستهتر الذي لا يحسن إلا وصف الشراب والساقي ونشوة السكر. ولم يشتهر شعر ابن هانئ إلا عندما خرج في وطنه (الأندلس - إشبيلية) بتشجيع أو بأمر من ملكها آنذاك، ليدخل في تجربة النفي والضياع ومشاعر الغربة. كانت الأندلس في ذلك الوقت الذي عاش فيه ابن هانئ أموية، بل آخر معاقل الحكم الأموي، بينما كانت الدولة العباسية تعيش في أيامها الأخيرة وبدأت تنخر عظامها دويلات الطوائف وتخرج عنها ممالك ودول دون أن يكون لدولة بني العباس القدرة على إعادة الخارجين وضرب المنشقين، ولم يكن لابن هانئ وهو يمر في تلك التجربة الصعبة إلا أن يزداد تشبثاً بعقيدة الفاطميين وعداءً للحكم الأموي في الأندلس، وهكذا أدخل نفسه وشعره في المعترك السياسي ودفع حياته ثمناً لهذا الاختيار. وإذا كنا في الحلقة السابقة قد أشرنا إلى قصيدته التي دافع فيها عن أبي الطيب المتنبي الذي كان معاصراً له، والذي كان يقارن به، فإننا اليوم نرى لزاماً أن نلقي الأضواء على جوانب أخرى من شعر ابن هانئ الأندلسي فهو حتى في شعر المديح الذي كان ينظمه في الفاطميين، نجده يبدأ بالغزل وعلى درجات سلم الحب يصل إلى الممدوح ببراعة قلّ نظيرها. لنأخذ مثالاً على ذلك قصيدته “أصلحوا الأيام”، وهي قصيدة طويلة تزيد على السبعين بيتاً وفيها يمدح الأميرين طاهراً وأبا عبدالله الحسيني أبناء الإمام المنصور بالله وهما أخوا المعز لدين الله الفاطمي. امسحوا عن ناظري كحل السهادْ وانفضوا عن مضجعي شوك القتادْ (1) أو خذوا مني ما أبقيتمُ لا أحب الجسم مسلوب الفؤادْ من تجيرون محباً من هوى أو تفكون أسيراً من صفادْ أسلوا عنكمُ أهجركمْ قلما يسلو عن الماء الصوادْ(2) لم يزدنا القرب إلا هجرةً فرضينا بالتنائي والبعادْ وإذا شاء زمانٌ رابنا برقيب أو حسودٍ أو معادْ فهداكم بارق من أضلعي وسقيتم بغمام من ودادْ وإذا انهلت سماء فعلى ما رفعتم في سماء وعمادْ وإذا كانت صلاة فعلى هاشم البطحاء أرباب العبادْ هم أقروا جانب الدهر وهم أصلحوا الأيام من بعد الفسادْ ولكن ابن هانئ الأندلسي لا يستخدم المقدمات الغزلية كدرجة في سلم، بل إن الغزل كان هو السلم من بعض قصائده القليلة التي بقيت بعد خروجه من الأندلس. لنصغ إلى ابن هانئ وهو يقول: ما با له قد لج في اطراقه ما باله قد ذاب من أشواقه ما ذاك إلا أن معشوقاً له قد مال منحرفاً إلى عشاقه ونتعرف إلى رقة الشاعر وخضوعه للمحبوب عندما يخاطب حبيبته نعمى بقوله: ايها لكِ النعمى عليّ فأنعمي وبرئتِ من حرج السلام فسلِّمي لله موقف عاشقٍ ومعشَّق من ظالمٍ منا ومن متظلِّمِ بادرت موطئ فعله حتى إذا عفرت خدي في الثرى التنسمِ أمثل من وجناته فأجال في صحن العقيق جداولاً من عندم أجرى على ذهبيها عصبيها ودنا لسفك دمي بوردٍ من دمِ ولكن.. مع ذلك تظل قصائد المدح التي نظمها في المعز لدين الله الفاطمي والأمراء والقادة الفاطميين الآخرين.. تظل تلك القصائد هي المخزن الرئيسي لغزل ابن هانئ ومشاعر الحب إلى درجة تجعل الناقد يصل إلى نتيجة وهي أن تلك المقدمات كانت تجارب حب حقيقية استند أو توكأ عليها ابن هاني للوصول إلى ممدوحه فجمع بين الغزل والمديح في نسيج محكم قوي. ففي قصيدة يمدح فيها الخليفة المعز لدين الله يقول: قامت تميس كما تدافع جدولُ وانساب أيم(3) في نقا(4) يتهيَّل(5) وأتت تزجّي(6) ردفها بقوامها فتأطر الأعلى وماجَ الأسفلُ ووراء ما يحوي اللثام مقبَّلٌ(7) رتلٌ بمسواك الأراك مقبَّلُ وهي البخيلة أو فيال طارقٌ فيها أو الذكرى التي نتخيَّلُ طرقت(8) تحيد عن الصباح تحفزاً(9) فوشى الكباءُ(10) بها دنمَّ المندل(11) قل للتي أَصْمَتْ فؤادي خففي وقع السهام فقد أصيب المقتلُ وذهبتِ عني بالشبيبة فارددي ثوبي الذي قد كنت فيه أرفلُ جارت كما جار الزمان وصرفه وكلاهما في صرفه لا يعدلُ أهون علينا بالخطوب وصرفها فالدهر يدبرُ بالخطوب ويقبلُ ونكتفي بهذا القدر من القصيدة لنتحول إلى قصيدة مدح أخرى ونكتشف أن معظم قصائد هذا الشاعر هي قصائد ما دمه وأن معظم قصائد المدح هذه تبدأ بمقدمات غزلية يمكن اقتطاعها من القصيدة لتشكل ديواناً غزلياً قائماً بذاته لا علاقة له بالمدح وأغراضه السياسية. يقول في قصيدة فتى الملك التي يمدح فيها يحيى بن علي الأندلسي: تظلَّمَ منا الحبُّ والحبُّ ظالمُ فهل بين ظلاَّمينِ قاضي وحاكمُ وفي البين حرف معجمٌ ما قرأتُه على خدها لو أنني منه سالمُ وقد كان فيما أثرَ ألمكُ فوقه دليلٌ ومن خلف الحداد المآتمُ لياليَ لا آوي إلى غير ساجع ببينك حتى كل شيء حمائمُ ولما التقت ألحاظنا ووشاشنا وأعلن سرِّ الوشي ما الوشي كاتمُ تأوَهَ إنسيّ من الخدر ناشجٌ (12) فأسعد وحشي من السدر(13) باغمُ وقالت: قطاً سار سمعتُ خفيفةُ فقلت: قلوب العاشقين الحوائمُ وما عَذُبَ المسواكُ إلا لأنه يقبلُّها دوني وإني لراغمُ وقلت له صف لي جني رشفاتها فالثمني فاها بما هو زاعمُ إذا خلَّه بانت لهونا بذكرها وإن أقفرت دارٌ كفتنا المعالم(14) وقد يستفيقُ الشوق بعد لجاجهِ وتعدى على البهم العتاق(15) الرواسمُ المفردات: (1) القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر (2) الصواد: جمع صاد، العطاش (3) أيمٌ: حية أو ثعبان (4) النقا: الرمل (5) يتهيل: ينحدر وينهال (6) تزجي: تسوق (7) مقبَّلٌ: الثغر (8) طرقت: جاءت ليلاً (9) تخفراً: حياءً (10) الكباء: البخور (11) المندل: ضرب من العيدان يستخدم كبخور (12) ناشج: الغاص بالبكاء (13) السدر: شجر النبق (14) المعالم: الآثار (15) البهم العتاق: الخيل الكريمة (16) الرواسم: الإبل التي تسير سيراً سريعاً المراجع 1 - معجم الأدباء/ ياقوت الحموي 2 - ديوان ابن هاني الأندلسي/ شرح وتقديم الدكتور عمر فاروق الطباع 3 - وفيات الأعيان/ ابن خلكان 4 - شذرات الذهب/ ابن العماد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©