الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على من يكون البكاء؟

على من يكون البكاء؟
20 أغسطس 2014 20:00
الطغيان يُخضِع الدين ولا يخضَع له * خرج القديس أوغسطين على العالم بمصطلح "الحرب العادلة" بحجة "الحرب في سبيل الله" وجعلها الحرب الشرعية الوحيدة * عندما اختارت روسيا في القرن العاشر المسيحية ديناً طاردت مواطنيها الذين "يعبدون" الشمس وقضت عليهم * أبادت المسيحية في مصر كل الأديان والملل السابقة حتى باتت العالمة هيباتيا بطلة لروايات وكتب في العصر الحديث * ظل أكثر من نصف سكان بلاد الشام مسيحيين حتى بداية الحروب الصليبية وردة الفعل السلجوقية * الذين قاموا بالنهضة الأوروبية مسيحيون بل رجال دين في معظمهم من أمثال أراسموس وجون كوليت وتوماس مور ورابليه * طه حسين وضع برنامجاً للتعليم في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أوسع بكثير من برنامج رابليه * غير النهضويين لم يحاربوا البستاني ورئيف خوري وأمين المعلوف وحدهم. . . بل حاربوا أيضاً طه حسين وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبدالرازق وتوفيق الحكيم. . وكفّروهم في القرن العشرين تكاثرت الأحداث العنيفة في الشرق الأوسط، الذي تشكل فيه المسيحية أقلية من جملة أقليات أخرى، فتعالت معها البكائيات، التي تعلن استهداف المسيحية، مع أن أحداثاً أعنف مرت بأمريكا اللاتينية، ذات اللون الواحد، ولم تظهر بكائيات، كأن اضطهاد المسيحية لأبنائها مسموح! معظم الدراسات المتاحة لنا، تصطنع الحيادية وتؤكد حرصها على الوجود المسيحي، كأن الوجود المسيحي كتلة موحدة بلا انتماء وطني ولا موقف ثقافي. وقد كثرت الدراسات والبكائيات بعد الربيع العربي فكتب المسيحيون اللبنانيون والشاميون الكثير في هذا الموضوع، ولم يقصر في المساهمة دارسون من أميركا وكندا وبلجيكا وفرنسا، بعضهم من المهاجرين المجنسين. ويكاد القارئ يظن أن المسيحية وحدها مستهدفة! كأن الأنظمة في الدول الإسلامية حققت العدالة والإنصاف للجميع عدا المسيحية! تسويغات تدليسية قبل المتابعة نقول: إننا نقصد بالمسيحية تصرفاتها العملية، ولا نقصد موعظة المسيح على الجبل ولا أمثولاته ولا مواقفه في الهيكل أو أمام بيلاطس. . . ولا علاقة لكلمة المسيحية بأي مبدأ مسيحي: لا الإيمان ولا الرجاء ولا المحبة. . . والحكم على الأعمال ينطبق على كل أقلية وأكثرية، وعلى كل عربي وأجنبي من قبائل أستراليا حتى الوول ستريت، ومن إسلام جزر القمر حتى إسلام الولايات المتحدة. . . الاتهامات كثيرة وتوزع على أطراف عدة، كأن المسيحية تتحمل عبء الاضطهاد وحدها، وكأن المسلمين يرتعون في بحبوحة الحرية. وتوجه الاتهامات أولاً إلى الإسلام، ويصوّر كأنه يضيق ذرعاً بالمسيحية، ويريد الخلاص منها من دون تعليل: لماذا الآن بعد كل هذه القرون من التعايش، وليس قبل ذلك؟ وتُتهم أميركا ودول الغرب أحياناً بأنها تريد الخلاص من مسيحيي الشرق الأوسط، لأنها لا تحميهم أثناء الحروب الأهلية أو الحروب الإقليمية والدولية، كغزو العراق. ولو أرادت بقاءهم لحمتهم. أو حدّت من هجرتهم. . . مع أن أرقام هجرة المسلمين أكثر بكثير. وتصل الاتهامات إلى حكام الدول العربية، فحتى حسني مبارك اتهم باضطهاد المسيحيين. . . وتضيق دائرة الاتهام حتى تطال مديري الأقاليم المحليين وتتسع حتى تصل إلى المنظمات العالمية كالماسونية والصهيونية والروتاري. . . ولا يلصقون في المسيحية أي شائبة سلبية، فأبناؤها ودعاء ومسالمون قاموا بدور حضاري على مدى التاريخ، ونقلوا الثقافة اليونانية في العصر العباسي. . . والأوروبية حديثاً. . . أشياء كثيرة إيجابية لا حاجة إلى تعدادها، فكلها- كما بدت لنا- مقدمات لاستدرار التعاطف، من دون التساؤل إن كانت المسيحية فقط مستهدفة من دون بقية الأقليات كاليهودية والدرزية والاسماعيلية. . . ومن دون إدراك أن المستبد يستغل الدين ويبدأ بالتطويع والتركيع لأبناء هذا الدين قبل أن يحرك أتون الفتنة الطائفية لتمتين سلطته، وتأبيدها الخ. . النظر إلى الوراء لا بد من النظر إلى الوراء بحثاً عن موازين أكثر عدلاً وأشد دقة، فلم يعرف تاريخ العالم ديناً (نعود ونقول إننا نقصد المسلك العملي وليس المعتقد الروحي) أباد كل الأديان السابقة مثل المسيحية، فقد أبادت جميع الوثنيين. والقديس أوغسطين بريشة قلمه خرج على العالم، ولأول مرة، بمصطلح "الحرب العادلة" التي شرعها بحجة "الحرب في سبيل الله" وجعلها الحرب الشرعية الوحيدة، لأنها لا تبتغي كسباً ولا ربحاً ولا غنيمة، سوى رضا الله وحده، لنشر دينه، الذي لا دين بعده. وهكذا أبيدت الوثنية في كل أوروبا. وعندما اختارت روسيا في القرن العاشر المسيحية ديناً، طاردت مواطنيها الذين "يعبدون" الشمس وقضت عليهم بحملات عسكرية منظمة، كما فعل من قبل ملك بريطانيا في مطادرته الدريود، كهنة الديانات الطبيعية، الذين لم يتدخلوا في سياسة ولم يتقدموا بمطلب. كل ذنبهم- حسبما ورد في موسوعة بولفينش الميثولوجية- أنهم كانوا يجتمعون في كل عيد من أعيادهم تحت شجرة كبيرة ويضعون الخطط لمساعدة المعوزين، ولحماية الأشجار من عبث الصغار. أرادوا الحفاظ على "رونق الحياة". وقد اعتبر ملك بريطانيا هذا كفراً وأصدر مرسوماً بإبادة "الكفار" وأشرف على الحرب بنفسه. وهكذا التهمت المسيحية تابعيها مثلما التهم كرونوس أبناءه. وأبادت المسيحية في مصر كل الأديان والملل السابقة، حتى باتت العالمة هيباتيا بطلة لروايات وكتب في العصر الحديث. وبالذريعة ذاتها بوركت جرائم كريستوف كولومبس المريعة في العالم الجديد، الخ. . وما حدث في الغرب حدث في الشرق، فقد أبيدت شعوب وشعوب، وأزيلت من الوجود ديانات كثيرة لم يعرف أحد عنها أنها آذت بشراً أو أفسدت طبيعة. كما أبيدت أعداد هائلة من اليهود في أسبانيا، كما أبيد المسلمون هناك على يد الجيش الإسباني- البرتغالي "المسيحي". . . الطغيان يُخضِع الدين ولا يخضَع له. ولماذا كل هذه العودة إلى الماضي؟ يكفي ذكر محكمة التفتيش وصكوك الغفران، وما نجم عن ذلك في كل أوروبا الغربية، حتى يعرف القارئ إلى أي مدى وصل فيه الاضطهاد المسيحي للمسيحيين. إن الطغاة يظهرون في كل الأديان. وهكذا أبادت المسيحية كل الأديان السابقة، كما اضطهدت المسيحيين أنفسهم، بالطريقة ذاتها. أما في ديار الإسلام فقد ظلت الأديان قائمة، فمثلاً ظل أكثر من نصف سكان بلاد الشام مسيحيين حتى بداية الحروب الصليبية وردة الفعل السلجوقية. وفي الأحقاب السابقة تسلم المسيحيون واليهود مناصب عليا. في العصر الحديث الذين قاموا بالنهضة الأوروبية مسيحيون، بل رجال دين في معظمهم، من أمثال أراسموس وجون كوليت وتوماس مور ورابليه. . . بل حتى سرفانتس كاد يصبح كاهناً. ولكن ما هي النهضة؟ إنها عودة إلى حضارة الأديان الأدبية التي حاربتها المسيحية، إلى درجة أن رابليه يعرض في كتابه "غارغانتوا وبنتاجرويل" برنامجاً تعليمياً منسوخاً نسخاً عن البرنامج اليوناني، القائم على حرية التفكير والحوار، ويجعل البرنامج ينفذ كما كان الإغريق ينفذونه. ووصلت به الدعوة إلى مطالبة رجال الدين بتغيير زيهم الكئيب وارتداء الأرجوان، اللون المفضل عند الإغريق. وقد حدثت النهضة العربية (أي العودة إلى آداب الإغريق) قبل نهضة الأوروبيين، في زمن المأمون. لكنها تأخرت حديثاً عن الأوروبية أكثر من أربعة قرون. ولا معنى للنهضة سوى هذا المعنى. وشعار النهضة العربية: الدين لله والوطن للجميع، يشير إلى الحرية التي يجب أن يتمتع بها الفكر. وكما ساهم مثقفو المسيحية الأوروبية في وقف القمع الفكري الأوروبي، كذلك ساهم مثقفو المسيحية الشرقية في العصر العباسي في وقف القمع الفكري الشرقي، والعودة إلى التراث الحضاري اليوناني، وهي محاولة لم يقم بها المسيحيون وحدهم، بل الحرانيون أيضاً. ولكن هل كان المسلمون بعيدين عن السير بمبادئ النهضة؟ إلى جانب اليازجي والبستاني وجرجي زيدان وأديب اسحق وفرح أنطون. . . نجد الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين وتوفيق الحكيم وعلي عبد الرازق وأحمد أمين، بل إن طه حسين يضع برنامجاً للتعليم في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أوسع بكثير من برنامج رابليه في كتابه. وهو يدعو صراحة إلى الثقافة اليونانية، تماماً كدعوة النهضويين الأوروبيين، من غير نكران لدور الآداب الوطنية، التي بذل جهداً كبيراً لإحيائها، وبخاصة الأدب الجاهلي. وعندما نرى كيف كرس أحمد لطفي السيد قلمه لترجمة أرسطو، ندرك كيف أن المثقفين المسلمين يعرفون ماذا يريدون، ويسيرون في طريق النهضة، كما خطط لها الإنسانيون الأوروبيون، كمثقفي المسيحية القدماء والجدد. وعندما دارت المعركة الكبيرة حول كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" انقسم الكتاب، من مسلمين ومسيحيين، إلى قسمين كبيرين، قسم معه والآخر ضده، أي أحد الطرفين ضد فكر النهضة والآخر مع فكر النهضة. وحتى اليوم لم يتغيّر الوضع، مع مرور ما يقرب من نصف قرن على رحيل طه حسين. وما واجهه طه حسين من مواقف متشددة لم يواجهه مثقف مسيحي، إلا إذا كان الخلاف دينياً وليس ثقافياً، كقضية أسعد الشدياق. فالاضطهاد في جوهره فكري وسياسي. حتى الاضطهاد الديني كان ولا يزال يشمل أبناء الدين الواحد ذاته إلى جانب الأقليات الأخرى. ولنتذكر هنا الصراع المرير في المسيحية حول الخريستولوجيا والروح القدس ومريم العذراء والأيقونات، وماذا جرّ من قتل واضطهاد وتشريد على المسيحيين من المسيحيين. إن الاضطهاد العثماني الذي يدعي المسيحيون أنه وقع عليهم، شمل في الواقع كل أطياف الدين الإسلامي، بل شمل الأتراك أنفسهم، وإلا كيف نفسر موقف ولي الدين يكن ـ وهو تركي ـ المعارض لسياسة السلاطين العثمانيين؟ وبالمناسبة، هل كان موقفه يختلف عن موقف خليل مطران؟ وهل يختلف موقف فرح أنطون عن موقف مصطفى كامل، فيما يتعلق بجامعة الشعوب العثمانية؟ الآداب والفنون مقياساً تقاس الحضارة بالأدب والفنون الجميلة، فبلاد اليونان الصغيرة جداً لم تقدم لنا الأبنية الشاهقة ولا العلوم المذهلة ولا الصناعات المتقنة ولا الأوتوسترادات العريضة ولا قلاع الإقطاعيين ولا آلات الحرب والقتال، بل قدمت الأدب والفلسفة والفنون الجميلة. ومن هنا صارت لا غنى عنها وهي التي حددت التقدمي والرجعي، فالتقدمي يتمسك بكل ما هو أدبي وفني، والرجعي يتمسك بكل ما هو بعيد عن الأدبي والفني، بغض النظر عن الزمن، حاضراً كان أم ماضياً. ولو كان ماضي اليونان رجعياً لما قامت النهضة الأوروبية وغير الأوروبية عليه. وبهذا المقياس لا يصعب تصنيف أحد، مسلماً كان أو مسيحياً. من الممكن أن يضع كل امرئ مقياساً لذاته، فالمسيحي في العصر الوسيط كان يسقط من مقياسه كل ما هو غير مسيحي باتخاذه الدين مقياساً للثقافة، وهذا شأن كل تكفيري من أي دين كان وفي أي زمان ومكان. وما المقياس الديني سوى مقياس مصطنع لمحاربة الأدب والفنون الجميلة. ولأن العصور الوسطى خلت من النشاط الأدبي والفني والفلسفي، أطلقوا عليها اسم "عصور الظلام" وقامت حركة بدأت تقريباً في القرن الثالث عشر للعودة إلى اليونان وبعث تراثها وتفعيله، لا لجعله صنماً بل لاستلهامه والاستفادة من هذه التجربة الأدبية الفنية العالمية الفريدة والمتميزة. ومعظم أفراد هذه الحركة التي سميت "الحركة الإنسانية" كانوا من الكهنة ورجال الدين. وهذا ما شكل "النهضة". وفي كل بلد عندما نقرأ كلمة "نهضة" نفهم منها على الفور إحياء التقاليد الأدبية والفنية والفلسفية للإغريق. وقد حاول المسلمون والمسيحيون في الشرق القيام بهذه النهضة مرتين: الأولى في العصر العباسي والثانية في القرن التاسع عشر ولا تزال مستمرة، مثلما كانت ولا تزال مستمرة في كل أنحاء العالم. وبناء على هذا المقياس فإن الإنسان واحد من اثنين: نهضوي أو غير نهضوي. وقد اضطهد النهضويون في العصر العباسي، كما اضطهدوا في هذه العصر. فهناك معسكران متعارضان ومتحاربان ثقافياً. فغير النهضويين لم يحاربوا البستاني ورئيف خوري وأمين المعلوف وحدهم. . . بل حاربوا أيضاً طه حسين وأحمد لطفي السيد وعلي ومصطفى عبد الرازق وتوفيق الحكيم ومحمد أحمد خلف الله. . . وكفروهم. وفي الشبكة العنكبوتية تجد الكثير من المواقع المهتمة بتوفير الكتب على أنواعها. ومن الكتب التي اختارتها تلمس مباشرة موقفها. فموقع فيه عشرات الآلاف من الكتب التراثية النفيسة والمفيدة، والكتب الحديثة المعادية لمفهوم النهضة، لا تجد فيه اسماً لطه حسين أو العقاد أو المازني أو أحمد فؤاد الأهواني أو عبدالرحمن بدوي أو زكي نجيب محمود أو أحمد أمين أو فؤاد زكريا أو يوسف كرم. . . وكل من اشتغل أو يشتغل أو ينوي أن يشتغل بالفلسفة. . . فتلمس موقفه واتجاهه مباشرة. إنه يحارب هؤلاء في الفضاء الآن، بعد امتداد ساحة الحرب من الأرض إلى الفضاء. فالقضية ليست قضية مسيحية أو إسلام. . . إنها قضية نهضة أو غير نهضة. وبهذا المقياس يعرِف الباكي على من يكون البكاء. . . ويعرف أنه يُدفع دفعاً مع غيره من الأقليات والأكثريات في الشرق الأوسط إلى العصور الوسطى، عصور الظلام. فطوبى لمن رحل وله سجل في ملكوت الفن والأدب، لأنه يظل مع الأحياء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©