الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

"غودو" العراقي ونزهته في شوارع مهجورة

"غودو" العراقي ونزهته في شوارع مهجورة
1 نوفمبر 2018 00:37

أربعة وأربعون عاماً مرت على صدور «نزهة في شوارع مهجورة»، المجموعة القصصية الأولى للعراقي أحمد خلف. أربعة أربعون عاماً مرت. أتساءل وبحق: هل حقاً أنها مرت؟ وبهذه السهولة؟ بالنسبة لي، ولكي أكون صريحاً على عادتي، أقول: إن ذكرى تلك السنوات ما زالت طرية، شاخصة أمامي، كأنها حدثت يوم أمس، لم يمحها لا تنقلي عبر بلدان ومدن العالم، سنوات منفاي اللعين بجماله أو الجميل بلعنته، بكل ما حمله من عذاب، لكن بكل ما حمله من حرية واستفزاز راق أيضاً... ولا نجاحي كما تمنيت كإنسان قبل كل شيء قبل أن أكون كاتباً باقتحام العالم!

أربعة وأربعون عاماً مرت، وها أنا أتذكر وبمناسبة صدور طبعة جديدة من المجموعة المذكورة، كما قرأت قبل أيام، أتذكر كيف أنني جئت للتو من الجنوب «المنسي»، الجنوب «الملعون»، من مدينة «الشروكية» (كما أطلقوا عليها)، العمارة إلى بغداد للدراسة في جامعة بغداد كلية الآداب قسم اللغات الأوروبية. وكم كنت فرحاً، أنني مع دخولي إلى بغداد (جئت مثل نابليون يفتح مدينة!)، أتسلم المجموعة التي صدرت تواً من «كاتبها» أحمد خلف شخصياً!
كنت أعرف أحمد خلف قبلها، الذي بالإضافة إلى إعجابي بالقصص التي نشرها في ذلك الحين، فإنني سبق وأن تعرفت إليه في زيارة سابقة له (1972) للعمارة جاء إليها بصحبة شخص عماري عرفني إليه، زميل لأحمد اسمه حسين عجة (يسكن اليوم في باريس على ما أظن؟ وأرجو ألا أخطئ بالظن!)، وهي الزيارة التي كانت البداية لصداقة شخصية ستربطني بأحمد خلف رغم فارق السن بيننا (أحمد يكبرني بثلاثة عشر عاماً). كيف أنسى تلك السنوات؟ جاحد من ينسى الصداقات.
كان أحمد خلف إلى جانب محمد خضير، بالنسبة لي أكثر كتّاب القصة القصيرة العراقيين في حينه معاصرة، وكنت أقرأ قصصه القصيرة التي كان ينشرها في المجلات العراقية (الأقلام، ألف باء)، حتى قبل صدور مجموعته القصصية الاستثنائية هذه بهذا العنوان الجذاب «نزهة في شوارع مهجورة»، أقول كنت أقرأ قصصه بفضول ومتعة، وأتذكر كم أعجبتني تلك القصة التي حملت هي الأخرى هذا العنوان الجذاب: «المحطة»، والتي نشرها أحمد خلف أولاً في مجلة الأقلام في بداية السبعينات، قصة سارت على خطى صاموئيل بيكيت حقيقة، أو تلك القصة الأخرى التي حملت هذا العنوان الغريب والجريء إن لم يكن المستفز لزمانه «ليل القتلة، أو الليلة الأخيرة لأمرئ القيس»، قصة غريبة بالفعل بكل ما حملته من كابوس كافكوي وإدانة للسلطة آنذاك، القصة نشرتها آنذاك مجلة الطريق الشيوعية اللبنانية ضمن ملف عن القصة العراقية القصيرة أعده فيها رئيس تحريرها الناقد الشيوعي اللبناني محمد دكروب (بعد زيارته لمهرجان المربد الشعري الأول الذي أسسته سلطة البعث في بغداد في البصرة عام 1970).

مجموعة فارقة
مهما كُتب وقيل عن تاريخ القصة القصيرة في العراق، إلا أن مجموعة أحمد خلف القصصية «نزهة في شوارع مهجورة»، تظل مجموعة خاصة في تاريخ الأدب العراقي المعاصر وتاريخ أحمد القصصي نفسه أيضاً، وهي مع المملكة السوداء، المجموعة القصصية الأولى للقاص البصري الأسطة محمد خضير التي صدرت قبلها بسنتين، لا أظن أن مجموعة قصصية عراقية أخرى لفتت الأنظار عند صدورها، كما فعلت تلك المجموعتان، قد أجرؤ وألحق بهما مجموعة قصصية أخرى للقاص عبد الإله عبد الرزاق «لأوفيليا جسد الأرض» التي صدرت بعد مجموعة أحمد بسنتين. وما يشجعني على ذلك هو عمل المتوالية الحسابية التالية: «المملكة السوداء» لمحمد خضير (صدرت 1972)، «نزهة في شوارع مهجورة لأحمد خلف (صدرت 1974)،»لأوفيليا جسد الأرض» لعبد الإله عبدالرزاق (صدرت 1976)، أي مفارقة؟ كل سنتين مجموعة قصصية استثنائية، آمل أن تسنح الفرصة في وقت قريب لكي أعود للحديث عن المجموعتين، مجموعة محمد خضير، ومجموعة عبد الإله عبد الرزاق، الذي للأسف لم تربطني به علاقة شخصية، مرة واحدة رأيته أو التقينا بشكل عابر في مقهى البرلمان في الحيدرخانة شارع الرشيد في بغداد (قبل أن تغلقه السلطات البعثية وتحوله إلى مطعم للدجاج)، وأقول للأسف، لأنه لم يتسن لي الحديث معه طويلاً رغم احترامي لشخصه الكتوم، كنت لحظتها مشغولاً بترتيب أمور سفري للمنفى الأول، إلى باريس في 14 تموز مايو 1976. لكن لنبق مع الكاتب أحمد خلف نشاركه في مجموعته القصصية الاستثنائية هذه «نزهة في شوارع مهجورة»، ليس لأنها مجموعته القصصية الأولى وحسب، وأنها حملت صوتاً خاصاً بها، أو لصدورها في وقت كان أصلاً نشر مجموعة قصصية في حد ذاته يشكل حدثاً كبيراً، أو ليس لأنها لم تصدر عن وزارة الثقافة بشكل رسمي مباشرة كما حدث مع كتب أخرى «المملكة السوداء» مثلاً، إنما صدرت بتعضيد ودعم بسيط من وزارة الثقافة عن مطبعة الغري في النجف، بل أكثر لأن أحمد خلف نفسه وبكل ما كتبه من قصص قصيرة لاحقاً حاول عمل تنويعة إبداعية على قصصه تلك، حاول أن يبقى أميناً لنزهته القصصية الأولى، أو لحبه القصصي الأول، إذا استخدمنا مفردات العشاق.

انعطافة في السرد
أربعة أربعون عاماً مرت على صدور «نزهة في شوارع مهجورة»، وحسناً فعل أحمد خلف وأعاد طباعة المجموعة ونشرها بعد اختلاط الحابل بالنابل في المشهد الأدبي في العراق، والذي لا يختلف في فساده كثيراً اليوم عن فساد المشهد السياسي، أقول حسناً فعلاً، لأنه بهذا الشكل منحني الفرصة لكي أوضح خصوصية هذه المجموعة القصصية ولماذا شكلت انعطافة في تاريخ السرد القصصي في العراق، في تاريخ القصة العراقية من ناحية وفي تاريخ أحمد خلف الأدبي من الناحية الأخرى. ولكي أكون أكثر وضوحاً لابد لي من التأكيد هنا ومنذ البداية: أن قوة القصص هذه، جاءت بما حملته من جديد على مستوى الشكل الفني وطريقة السرد الجديدة المعاصرة التي أسست لها.
أغلب قصص المجموعة القصصية حوت عوالم سوريالية صادمة، خاصة قصة «نزهة في شوارع مهجورة» التي حملت المجموعة عنوانها. نرى في القصة ما يشبه المشهد السينمائي: بطل القصة يسير في الشارع وفجأة يرى مجموعة من الناس تشيع جنازة وتسد عليه الطريق. الجموع تنعى وتسير بحماس، وبطل القصة يسير لوحده بمواجهتها، لا يريد الالتحاق بالجموع»القطيع».
الإنسان مشروع باتجاه المستقبل، تلك هي مقولة الفرنسي مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة الفرنسي جان بول سارتر، أما الشاعر التشيكي المولود في بوهيميا التشيكية الناطق بالألمانية، ماريا راينر ريلكة فيكتب في «مراثي دوينو» عن «المخلوق الذي يحدق بعالم مفتوح»، على سعته. بطل مجموعة «نزهة في شوارع مهجورة» المصر على تمرده، النموذج في مشروعه الخاص به، لا يريد أن يُربط إلى مكان، ولا يريد أن يكون جزءاً من الجموع/‏‏ القطيع. إنه يرمي بقدمه دائماً إلى الأمام. إلى عالم «دوينو»، بكل ما يحمله من أفق مفتوح. بكلمة واحدة: إنه خارج طائفته«البشرية»، ليس من الغريب أنه يتنزه لوحده، يتجاهل الجموع التي تحتفي بجثة، بجنازة. وهو في هذا مثل غودو. الآتي بالنسبة له، هو الأهم، حتى إذا كان مجهولاً، بل لأنه، هو أكثر غواية لمن ينتظر. أليس ذلك ما يفعله أيضاً زميله، بطل قصة«خوذة لرجل نصف ميت»، عندما يقرر إطلاق النار على الزمن، على ساعة الحائط المنتصبة أمامه؟ ماذا يعنيه زمن مقنن؟ إنه جريح ويجلس على الفراش، معوق جسدياً، لكن عقله يقظ وحواسه متوثبة لا تريد الارتباط بزمن!. «آه أيها الماضي ماذا فعلت بحياتي؟»، صرخ شاعر وجودي آخر عاصر أحمد خلف إذا لم يكن زميلاً له، وقرر الخروج من المقبرة العراقية مبكراً، ومات في منفاه الأصلي وحيداً، شاعر اسمه سركون بولص (منفاه كان سان فرانسيسكو وكان يهرب منها دائماً إلى برلين التي مات فيها!).

غودو العراقي
أربعة وأربعون عاماً مرت على نزهة بطل أحمد خلف في شوارعــه المهجورة... والحصيلة؟ لا زال غودو «العراقي» هو نفسه. لا يزال ينتظر، كما أنتظر في قصة أحمد «المحطة»، أو ينتظر رفاقاً لا يأتون في«الصالة» (قصة نشرها أحمد خلف وقتها في مجلة الحزب الشيوعي العراقي الثقافة الجديدة)، لكن تنقذه في الأخير امرأة هي الأخرى متمردة (في الحقيقة بداية جيدة لرواية، للأسف لم يشأ تكملتها أحمد!)، أما في ليل القتلة، أو الليلة الأخيرة لأمرئ القيس، التي نشرها في مجلة الطريق اللبنانية، فقد ألقى فيها غودو «أحمد» بكل قيئه بمواجهة سلطة القطيع، وهو غودو هذا نفسه الذي سيتحول في خمس قصص قصيرة جداً (نشرها أحمد خلف لاحقاً في مجلة ألف باء)، مرة إلى هاملت يحلق ذقنه في الصباح ويجرح نفسه، لأنه يفكر بخيانة أمه لأبيه مع عمه، أو على شكل فارس يركب على صهوة مهرة مثل«سهم في غابة» (كما كان عنوان القصة القصيرة جداً)، أو إلى المهدي بن بركة، السياسي المغربي الذي أُختطف في باريس ولا يُعرف مصيره حتى اليوم. أربعة وأربعون عاماً مرت على نزهة أحمد خلف في شوارعه المهجورة، وغودو العراقي الخائب ما زال يجر أذياله في ليل العراق الطويل «ليل طويل»، عنوان رواية قصيرة لم تُنشر لأحمد خلف... أو مثل قادمين/‏‏ عابرين يهبطون على «المدرج» (عنوان رواية قصيرة أضاعها أحمد للأسف).
أربعة وأربعون عاماً، نتذكرها ويتذكرها أحمد خلف بالتأكيد، وأعرف أي حزن يلفه الآن هو ابن الشنافية الغافية على تخوم مدينة الديوانية، لكن المواطن العالمي الذي يجرجر ألمه وسط ليل طويل، بل أعرف أي ألم يكويه وهو يحدق حواليه، ويجد الخراب يحيط به من كل جانب. ليس الخراب الجميل، كما شاء تزيين عنوان رواية له صدرت في الثمانينيات، بل الخراب المدمر الذي يجر أذياله هذه المرة في نزهة في أرواح مهجورة في مدينة صحيح أنها تضيق بسكانها، لكنها مهجورة ومنخورة الروح... تضيق في هوائها الملوث بالبارود وسخام الحروب.
أربعة وأربعون عاماً مرت، وما زالنا ندور، نطوف مع غودو العراقي... مع أحمد خلف نفسه في«نزهة في شوارع مهجورة» لا يحدها زمان ومكان.. في مدينة تحاول استعادة مجدها القديم، تستيقظ من ليلها الطويل، تنزع عنها الحجاب وتزين قمرها بجمال نسائها اللواتي ينتظرن في صالة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©