الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هبة بوخمسين

هبة بوخمسين
14 فبراير 2008 00:16
أنا لست إلا مندوب الشركة! أو عفواً·· ما كنت إلاّ المندوب، وبين أن أكون وما كنت مرت ليلة باردة، كانت محتفظة بسحبها محتشدة، وحاجبة ضوء القمر· لم أدر إن كانت ستمطر أو ربما ارجأت دمعها للفجر، لكن الهواء كنس الأرض والمحتضر من أوراق الشجر، وأطار الشال الملتف حول رأسي وعنقي· لملمتُ نفسي، تمسكت به، وبقيت مراقبا· تلك ليلة حاسمة، تيقنت من خروجهما لمناسبة عائلية، الرئيس وزوجته· الجلوس المطول وبعض الانتظار، وكسر البرد لعظامي لم يثن عزمي وأنا المتأهب لما بعد ذلك من رفاهية حلمت بها· اسمي ''عفيف'' والكويت مسقط رأسي، لكن ثبوتياتي تنسبني لبلد قريب· كل ذلك لا يهم، ما يعنيني الآن هو الثقة التي اكتسبتها مع سنواتي المتفانية في العمل لديه، واتكاله المستمر علي· قربٌ، ملامحه اقتصرت على مشاوير ومهام موزعة بين شؤون العمل، وبين بيته وأسرته· يعيش وزوجته في بيت أنيق· دور واحد فقط· ياللتواضع! له ابنان، الأكبر في سنته الجامعية الأولى في بريطانيا، والصغير، في غفلة من الزمن جاءت به الأقدار· لا أعرف كيف خططا للإنجاب، لكن الصغير لا يتجاوز الخامسة من عمره· الثلاثة فقط في المنزل، وخادمتان لا غير· وتفاصيل أعرفها لأني رافقته في الانتقال للسكن الجديد، التأثيث، وتسجيل البيانات· كان يكبر، وتكبر مكانته ومنصبه، ويكبر دخله· وأنا، في مكاني أراوح! مستميت للإبقاء على الثقة وعلى الوظيفة، وعلى الإكرامية التي يحشو كفي بها بعد كل مشوار أو مهمة· إنه كريم جدا حينما يتصل الأمر بمصالحه، لكن ذلك ما عاد كافيا··· ما عاد يرضي الأبيض الذي بدأ غزو شعري ولم يتنفس الأسود قبله في حضن أي متعة! لن أجتر أكثر· فما كان قد طويته في مجلد الماضي، قريبا سيغدو وهما ولا يعدو كونه أضغاث أحلام، سرعان ما تتوقف عن التراقص كالأفعى في مخيلتي· لتلك الليلة تاريخ من المراقبة امتد لأسبوع· خططت جيدا، أرهفت السمع لأدق، أبسط، أهم، أسخف التفاصيل وما يصدر عن فاه الرئيس في العمل، وفي المشاوير التي قد أقله لقضائها· وجب أن يمر كل شيء كما أريد· علمت إذاً أنهما خارجان للسهر، وستتأخر عودتهما· لم يكن سوى الصغير نائما في هذا الوقت المتأخر، وخادمتين في ركن قصي من المنزل، ضوء خافت منبعث من احدى الغرف، وسكون مغو! هل أشعر بالندم؟ الفرح لا يمهل العقل فسحة لمذاكرة الندم· كنت مشحونا بكل قوة الاندفاع، واثقا من خطتي، متأكدا من أن سنوات صبري وفاقتي تهبني أخيرا المكافأة نظير كل هذا الانتظار والألم! تعبت! ولولا رضى الأقدار عني لما تهيأت كل الظروف، والمعلومات ما انصبت دقيقة لخطتي! سبق هذه الليلة شهر من الترتيب لها· ختمته بأسبوع المراقبة ذاك حين علمت بالمناسبة القادمة· الشهر المزدان بالكرم علي، حمل في أوله العلم إلي بأن المبلغ الطائل، سيكون مرتاحا في منزله ولن يودع في حسابه المصرفي إلاّ بعد ما لا يقل عن الشهر تقريبا· هذه المرة التمعت الأصفار المقابلة للرقم في عيني·· ذكائي المخبئ في ثنايا دماغي جاءني بضربة، ولم أرتح بعدها حتى تم اليوم الموعود! أن تكون المندوب الأمين، قاضي الحاجات، والموثوق من الرئيس، يعني في حالتي أن أكون من اختار ''الخزينة'' متوسطة الحجم لمنزله الجديد، وأنني من رافق العمال لإيصالها لمنزله·· انتهت المهمة دون فرصة لمعرفة أين سيرتكز هذا الصندوق الحديدي الذي وضع فقط على قطعة مربعة بعجلات متراصة لتحمله متحركا بسهولة! اهتممت قبيل رحيلي بضبط القفل له، نسخت المفاتيح وسجلت الأرقام، وقدمتها له مع أصل المفتاح حين عدت مقر الشركة· اقتربت الساعة من التاسعة، حين رأيتهما مغادرين بكل تأنقهما المعتاد· ابتسمت له بالمحبة المعهودة، والامتنان العظيم ككل المرات التي يكرمني بها· وكنت اشتقته فعلا! قد مرّ يومان منذ نهاية عملي لديه، وهو يظنني وقتها في أرض الأجداد أحرث وأتنعم بخيراتها· موعد سفري المزيف قد مرت عليه ثمان وأربعون ساعة· بقيت لبعض الوقت قابعا مكاني، قبل أن أترجل للمهمة· أين يمكن أن يكون؟ أعرف المنزل شبرا شبرا· لا مخابئ فيه حسب علمي، ولا أماكن سرية· إنه متسع وسرح، ودماغي الذي تصالح معي أوحى لي بأن مكانين لا ثالث لهما قد تقع في أحدهما ''الخزينة'': غرفة النوم الرئيسية، أو المكتب! من نافذة هيأتها لدخولي منذ بضعة أيام، عبر حمام الضيوف، كان اختراقي لمنزله· بعد قليل وجدتني في وسط الصالة· كان معي متسع من الوقت لأجرب الارتماء على الأرائك، وأختبر ملمس الأغطية المرمية على المقاعد الطويلة والطاولات· تمعنت ببعض التحف الموزعة في أرجاء المنزل حتى مللت ، ورحت أتهادى بزهو إلى غرفة المكتب· غرقت بعرقي وانفعالي وأنا أبحث وأحاول حتى انتزاع الحائط من هذه الغرفة وغرفة النوم، لكن ما من فائدة في اصطياد مكان الدب الحديدي ذاك· رحت بعصبية عصيّ لجمها أبحث في بقية أركان المنزل، حتى أنهكني التعب وارتميت بفكر محتقن وغير مستقر على الأريكة الهزازة· ياه كم كانت مريحة حتى كدت أغفو! لا أذكر أنني أثرت صوتا في المكان· كنت رغم الانفعال محتفظا بحرصي الشديد، ومستعدا في كل لحظة للاكتفاء بمكافأة نهاية الخدمة وما زادها الرئيس من مبلغ لأغادر الكويت· لكن اليأس لم يكن ليطال إصراري لولا غير المتوقع من عدم إمكانية ايجاد المال هنا! كنت على وشك تدخين سيجارة من فرط القهر الجاثم على صدري· أحسست أن أنفاسي ما عادت وحيدة في المكان· رفعت رأسي ببطء والتفت بتردد ناحية اليمين·· كانت ظلال الستائر، والتحف والمكتبة الكبيرة والأرفف، وبجانب المقعد الطويل كان ابن الخامسة واقفا، يلفه صمت مفتت للأعصاب، ويلاحقني بنظرة خاوية! عاصفة أفكار تلاطمت في رأسي! إنها الحادية عشرة وعودة أبيه قد يحل موعدها بعد ساعة· ما الذي أيقظ هذا الجني الصغير·· هل رآني فتعرف إلي؟ لا يمكن فالضوء الساقط من الخلف يلفني بالغموض ويقع عليه فأراه وملامحه بوضوح مربك· كان يقف دون حراك·· يالأبناء الأثرياء! أي بلادة تسري في دمائهم! كيف لعيون الأطفال كل هذا الاستفزاز! كنت أفقد المتبقي من رباطة جأشي، ولم أنتبه لكوني أصك أسناني ببعضها حتى ناداني: ـ عمو عفيف! لا شك أن فاعل خير من الجن لاحقني· وجدتني أجيب الطفل: ـ نعم يا صغيري، أنا عمو عفيف، وأنت الآن في حلم جميل! وأكملت: أنا هنا لأضعك مجددا في السرير لتنام كالملائكة! ابن الخامسة، وحقيقة نسيت اسمه، بادرني: لا، أنت هنا لتعيد إليّ لعبتي·· إن تورطي في المحاورة معه ما لبث أن انتهى بالصغير ممسكا بكفي، واقتادني لمكان لعبته التي حرمه منها أبواه كعقاب لمدة أسبوع لأنه خالف أمرا لهما! اللعبة كانت بالخزينة، والخزينة كانت في خزانة لا يمكن أن يشك بها أحد، الخزانة في غرفة الصغير· فتح باب خزانته، ومن خلف الملابس سحب الباب الخشبي وكانت الخزينة· نعم كانت هناك، والمفتاح بحوزتي، ورئيسي العبقري كما توقعته لم يغير رقم القفل، بصراحة ندمت لإحضاري عدة لكسرها! لكن لا يهم· فتحتها، وأعدت للطفل المسكين لعبته، وضعته في سريره، وغنيت له أيضا حتى غفا! ليتهم فقط يدركون حجم الطمأنينة التي أعدتها للصبي! ثم كان زمن جميل تطل عبره الأوراق النقدية وكأني بها تنادي يديّ طمعا بطمأنينة مماثلة، صحبتها معي في الحقيبة الصغيرة، سرنا بحذر مغادرين المنزل بعد طمس أي دليل في المكان··· نعم، إن ذلك شمل أيضا إعادة لعبة الصغير للخزينة، هناك ظروف تحتم عليك قرارات حاسمة كهذه· حين خروجي بدأت تمطر···
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©