الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عفريت القتيل

عفريت القتيل
28 أكتوبر 2010 21:01
المشهد مؤلم حتى لرجال المباحث الذين اعتادوا على مشاهد الدم والحوادث والجرائم، والتعامل مع الجثث، هذه المرة الوضع مختلف فالقتيل طفل في العاشرة على مشارف الصبا، مذبوح بطريقة انتقامية بشعة، كاد القاتل يفصل رأسه عن جسده بعدما وجه إليه طعنة قوية بسكين حادة، المؤكد أن الحقد يملأ قلبه من هذا الصغير، والجثة مازالت عليها علامات براءة الطفولة رغم أن الدماء سالت على الوجه، كانت ملقاة على جانب الطريق بشكل مؤسف، لا أحد يتحمل رؤيته مهما كانت قسوة قلبه وسيصيبه الألم والحزن والأسف، دارت الدنيا بأحد الرجال الذين تصادف وجودهم في المكان ووقعت عيناه على مشهد المأساة، بينما تلك المرأة سقطت مغشياً عليها، وحاول بعض الحضور إفاقتها، الجميع يرددون سراً وجهراً سؤالاً واحداً: من الذي قتله شر قتلة. ولماذا؟ ويكادون يجيبون عن أنفسهم ويجزمون بأنه قتل غيلة وبلا ذنب. وتشتد الأحزان أكثر عندما يتم التوصل إلى شخصية القتيل فهو وحيد أمه وعائلها، يتيم فقد أباه منذ كان عمره ستة أشهر، وعاش هذا العمر القصير يتيماً بجانب الفقر المدقع، تحمل مسؤولية نفسه وأمه منذ أربعة أعوام وهو يعمل أجيراً هنا وهناك، ليلبي احتياجاته من مصروفات دراسية وإن كان لا يتمتع مثل أقرانه بمصروف أو ملابس جديدة، حتى الكتب كانت هي الأخرى قديمة يبحث عنها مع التلاميذ الأكبر منه، وشهد الجميع بأنه خلوق وديع، لا يعرف شقاوة الأطفال ربما لأنه يعاني قسوة الفقر واليتم معاً، ملتزم بأمور دينه كلها حتى أطلق عليه أقرانه وزملاؤه لقب «الشيخ مصطفى»؛ لذا لم يصدق أحد ما يسمعه بأن هذا الصغير ذبحته يد الغدر بهذه الخسة، أما أمه فقد أصابها الشلل فور سماعها الخبر المشؤوم، أصبحت مصيبتها ثلاثاً، فمن قبل فقدت زوجها الشاب في حادث سيارة وحينها جاءها الخبر المفزع أيضاً، وتحاملت وقفزت فوق أحزانها عسى أن يعوضها هذا الرضيع الصغير عن فقد أبيه، وما كادت تلملم أثواب الحداد وتودع الحزن على زوجها حتى جاءت الصاعقة التي أفقدتها الأمل في الحياة كلها، ومعها فقدت أطرافها كمداً على فلذة كبدها. القتيل الصغير قرر منذ عام أن يعمل سائقاً على «توك توك» تلك المركبة الحديثة التي هي عبارة عن دراجة نارية مطورة يقودها الصبية في المناطق الشعبية لتوصيل الأشخاص، وهي وسيلة تنقل للفقراء، هو لا يملكه وإنما يعمل عليه أجيراً، فمن أين له أن يملكه وثمنه يفوق اثني عشر ألف جنيه؟ في مثل هذه الجرائم لا تكون مهمة رجال الشرطة سهلة، لأن الضحية بلا خلافات مع أحد، والجريمة وقعت في منطقة صحراوية غير مأهولة بالسكان إلا قليلاً، علاوة على أنها حدثت في وقت لم يرها فيه شاهد واحد يمكن أن يدلي بمعلومات قد تساعد في الإمساك بخيط يدل على الجاني ويوصل إليه؛ لذا فإن البحث سيكون مهمة شاقة تتطلب خطة جديدة سريعة قبل أن يختفي الجاني ويذوب وسط المدينة التي وقعت الجريمة على أطرافها وكلما مر الوقت بلا تقدم تزداد المهمة صعوبة. «التوك توك» مازال هناك في مسرح الجريمة، وهذا في حد ذاته دليل على أن الحادث لم يقع للسرقة وهذا مؤشر غير مرغوب فيه لأن ذلك هو الاحتمال الأقوى والأرجح وما دونه ضعيف بعد جمع المعلومات عن القتيل، لكن يظل الاحتمال قائماً إلى أن يثبت العكس، لذلك تم رفع الجثة ودفنها وترك «التوك توك» في مكانه مصيدة للمتهم لعله يعود إليه مرة أخرى، فهناك قاعدة عند رجال الشرطة تؤكد أن الجاني لا بد أن يعود إلى مكان الجريمة بأي شكل لأنه يريد أن يقف بنفسه على ما يحدث طالما أنه لم يتم القبض عليه وكشفه. ارتدى الضباط زي عمال النظافة وراحوا ينظفون المكان ويحملون الأتربة والقمامة والمخلفات على أكتافهم وظهورهم وهم شعث غبر حتى لا يشك أحد فيهم ولا يعرف حقيقتهم، أحدهم ارتدى الملابس الرثة وجلس يشعل النار في قطع من الأخشاب ليعد كوباً من الشاي إمعاناً في التخفي، بل إن أحدهم جلس هناك كحارس للبيت القريب من المكان.. أربع وعشرون ساعة مضت على الجريمة وهؤلاء مرابطون في أماكنهم لا يبرحونها انتظاراً للإيقاع بالصيد في الشباك، اقتربت الشمس من المغيب، وجاء من يترجل من بعيد، يترقب ويتفحص الوجوه التي تقابله، تبدو عليه الريبة، انهمك العمال في أعمالهم، يرنون إليه بأطرافهم، يرصدون كل حركاته. اقترب من «التوك توك» كأنه يشاهد شيئاً غريباً، وعندما اطمأن إلى أن المكان خال من الشرطة مضى على بُعد خطوات ثم حفر حفرة صغيرة وقام بردمها بسرعة، لحظات وجاءت سيارة نقل صغيرة توقف سائقها وتبادل أطراف الحديث الذي وصل إلى أذان رجال الشرطة ومفاده أن هذين الرجلين يتفقان على تحميل «التوك توك» على السيارة، وكان هذا هو الخيط الأول للكشف عن لغز الجريمة، هجموا على الرجلين في ثوانٍ والقوا القبض عليهما، كان الدليل الأول هو تلك الحفرة التي حفرها الأول ثم ردمها، تبين أن بها السكين التي ارتكبت بها الجريمة، والثاني أن المتهم جاء ليحصل على الغنيمة التي من أجلها ارتكب فعلته. لم يكن المتهم صيداً سهلاً، رغم هذه الأدلة القوية فقد انكر تماماً صلته بالجريمة، وقال إنه شاهد «التوك توك» بالمصادفة وأراد أن يسرقه ولا يعلم شيئاً عن صاحبه، حاول أن يستجمع قوته في البداية ويتمسك بأقواله، راوغ قدر ما استطاع، رغم أنه لم ينل أي قدر من التعليم، لكنه كان لديه كثير من المكر وأيضاً الجهل والغباء، فعندما اختلى به أحد الضباط وهو يحاوره ليصل معه إلى الدليل، وهو الاعتراف، سمح له بتدخين سيجارة وجاءه بكوب من الشاي، اعتبر الشاب الأحمق أن هذا دليل براءته ومقدمة لإطلاق سراحه، وإذا بالضابط يخبره أنه قد عرف الحقيقة كاملة من القتيل أو بالأحرى من عفريت القتيل، حيث إنه من الشائع عند سكان المنطقة التي ينتمي إليها أن كل شخص يموت قتيلاً أو في حادث يكون له عفريت يؤذي كل من يقترب من المكان بل إنه قد ينتقم من قاتله يوماً ما وينغص عليه حياته ويحرمه من النوم، قال له الضابط إنه يريد أن يحميه من العفريت لأنه توجه إليه في مركز الشرطة وأخبره أنه سيقتل قاتله فلاناً، ولكن ليس قبل أن يعذبه عذاباً أليماً لم يره في حياته، فقد يخلع أظافره، أو يجرده من ملابسه في الطريق العام ويفضحه ويجعله يسير عارياً أمام الناس، هنا احمر وجه الشاب وبدت عليه المخاوف وارتجف بشدة كأن شيئاً ما يهزه ويزلزله، شعر ببرودة شديدة تسري في أوصاله، كأن العفريت اقترب منه ومس جسده وتملكه الرعب الظاهر على وجهه وأطرافه وراح يستنجد بالضابط من العفريت ويطلب الحماية مقابل الاعتراف بكل تفاصيل جريمته. جلس الشاب وقد تغير شكله واسود وجهه يروي تفاصيل جريمته البشعة، قال: لقد سلب الشيطان عقلي في لحظة ضعف شديدة، أغراني بالمال والوهم عندما شاهدت هذا الصغير قبل الحادث بيومين، تجاذبت معه أطراف الحديث، علمت منه المناطق التي يتردد عليها للعمل، انتظرته في اليوم التالي وقد تذكرني عندما رآني، رحب بي وطلبت منه توصيلي إلى هذا المكان البعيد عن العمران مقابل مبلغ كبير فرحب وفي الطريق كنت أفكر في كيفية شل حركته والإجهاز عليه بضربة واحدة، بينما هو أعطاني تمرات كانت معه وزجاجة ماء دون أن أطلب، لكن ذلك لم يثنن عن هدفي، وبضربة قوية عاجلته بها في رقبته سقط مثل الطائر الجريح، تنهمر منه الدماء، الضربة كادت تفصل رأسه عن جسده وعندما تأكدت من موته تركته واختفيت حتى اليوم التالي، وبعدما اعتقدت أو توهمت أن الأمر انتهى، وخشيت أن يستولي أحد على «التوك توك» ذهبت للحصول عليه بعدما اتفقت مع سائق على نقله لأبيعه لاحد تجار الخردة، لكن ضاع كل شيء.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©