الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصائم ليس الذي يقبع كامل نهاره في بيته أو يقضيه في النوم

الصائم ليس الذي يقبع كامل نهاره في بيته أو يقضيه في النوم
24 يوليو 2012
أبوظبي (الاتحاد) ـ قد يذهب في اعتقاد البعض إلى أن شهر رمضان شهر الاتكال والتكاسل والتقاعد، وأنه بالصوم يتراخى الإنسان، وليس له تأثير في نفسية الصائم، واعتقاد مثل هذا خاطئ، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، فهُناك العديد من العوامل التي نجدها كامنة في الإسلام والتي تدفع بالمؤمن الصائم إلى النشاط وإلى الجهد وإلى الإنتاج. ولما كان شهر رمضان شهر العبادة والعمل، والتعامل مع العالم الخارجي في جميع مجالاته، حوطه الإسلام بجملة من الضوابط والأخلاق حفاظاً على الرصيد الروحي من الاختلال، قال صلى الله عليه وسلم: “الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم “. فالصائم ليس الذي يقبع كامل نهاره في بيته أو يقضيه في النوم، ولكنه الذي يتعامل مع الناس وينتفع وينفع، ويعمل لغيره ويعمل غيره له، وهو في كل ذلك منضبط أخلاقياً. فديننا الحنيف جعل من العمل واجباً، بل عبادة مؤكدة، لأن العمل هو بمثابة همزة وصل بين مختلف عناصر الإنسان المادية والروحية ومختلف مستويات الوجود ومختلف أطوار التاريخ، فالعمل واجب على كل مسلم ومسلمة ولا سبيل إلى التخلص منه إلا بالتخلص من جوانب هامة من الذاتية البشرية. العمل عبادة إن العمل في الإسلام عبادة وقيمة حضارية، بها ترقى الشعوب إلى أفضل مستويات التقدم والرقي، وإن ترسيخ العمل كقيمة حضارية في المجتمع مسؤولية كل الأطراف الفاعلة وعمل دؤوب تتضافر فيه مجهودات كل من العائلة والمدرسة والمجتمع المدني. والواجب يدعونا جميعا إلى مزيد من العمل ومضاعفة الإنتاج وإلى توظيف كل الجهود الممكنة وإحكام استخدام الإمكانات المتاحة حتى تتحقق أهداف التنمية ونضمن للمجتمع استدامة العيش الكريم. وعلى هذه المفاهيم والقيم انطلق المسلمون ليحققوا التقدم ويسهموا في بناء الحضارة الكونية مع غيرهم من الشعوب وساروا في موكب يرسم للبشرية طريقها نحو حياة أرقى وعيش أرغد، انطلاقاً من الإسلام الذي يدعو إلى تأسيس الحياة السعيدة الفاضلة، حاثاً على تقديس العمل الذي هو مناط التكليف وعليه يدور الثواب والعقاب وبه يتحدد مصير الإنسان، قال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)، “النجم: الأيتان 39 - 40). إن أصحاب التواكل يركنون إلى التقاعس عن العمل ويتركون الأخذ بالأسباب ويتمنون على الله الأماني، ولكن ليس المطلوب في الإسلام العمل فحسب، بل المطلوب أيضاً جودة العمل التي هي ركن أساسي من أركانه، لأنه بالإتقان تكتسب الأشياء قيمتها ويكتسي العمل نبله وشرفه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ” (الطبراني: 3/382)، والعمل المتقن وحده يمكن صاحبه من الكسب الحلال الرابح، وهو الذي تكون أهم مرتكزاته التخصص والتخطيط ونجاعة أساليب الأداء، بحيث لا يؤول إلى إهدار للوقت والمقدرات، ولا يؤول إلى فساد أو إفساد، سواء عن سبق نية أو عن تسرع وغفلة، ومن تمام الإتقان أن يخلو العمل من كل غش، قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا” (مسلم :1/99). العمل أمانة هكذا يكون العمل أمانة تؤدى في صنع الأشياء وتكييفه، طبقا لنواميس وقواعد مضبوطة، ليس للفرد أن يتصرف فيها حسب أهوائه، فالعامل يتحمل مسؤوليته أثناء العمل، والمسؤولية هنا لا تكتفي بوجوب مراعاة معادلة الحق والواجب، بل تتجاوز ذلك إلى المناداة بوجوب أن يثمر العمل صلاحا، ولذلك تواتر في القرآن الكريم ملحظ الملازمة بين العمل والصلاح، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، “النحل: الآية 97”، ولقد أعلى القرآن الكريم من مقام العمل الصالح لارتباط ذلك بصلاح الكون، حيث إن الكون بطبيعته صالح والمهم أن تبقى يد الإنسان صالحة، وأن يبقى ضميره طاهراً وحينها فلن يفعل إلا خيراً، وستكون نتيجة العمل إيجابية للإنسان والحيوان والنبات والجماد أي لعناصر البيئة الكونية كلها. ولئن كانت كلمة التنمية تعني في جملة ما تعنيه العمل على بذل الجهد لتحسين الإنتاج وتطويره كماً وكيفاً، تحقيقاً للتقدم والازدهار، فإن الإسلام يعتبر رائداً في هذه المجالات كلها وهو الذي يدعو إلى العمل والاعتماد على الذات، ولكون القصد من الصوم التطهير الباطني والانضباط في السلوك، فإن هذا لا يتحقق إلا إذا جمع الصائم بين عبادة الصيام وعبادة العمل، لأن العمل يلزمه اقتـدار خاص، إذ من لوازم القوة أن تكون قدرة العامل أكثر عطاء مما هو المعتاد، ولذلك يحسن بنا أن نخطط لأعمالنا وأن نبدأ فيها ونتمها من دون تراخ ووهن، فاليوم الواحد من أيام رمضان يعد حلقة تدريب على مثل هذه الفوائد. المفهوم الواعي بهذا المفهوم الواعي للصيام ندرك أن رمضان شهر عبادة وإنجاز وإتقان يجمع فيه الصائم بين عبادة الصيام وعبادة العمل الصالح، يجمع فيه بين الصبر على ألم الجوع والصبر على العناء والتعب والمشقة الملازمة للعمل، والله تعالى يريد أن يرى عباده الصائمين وهم في مواطن العمل يبدعون ويجتهدون في تقديم النفع للآخرين دون تكاسل أو تخاذل أو إخلال بالواجب، فالعمل من هذا المنطلق قيمة حضارية ثابتة في الدين، فمن الواجب على كل مسلم العمل، والعمل في رمضان أوكد وأفضل، لأن الجزاء عليه يضاعف، ولأن المؤمن يثاب عليه أضعافاً مضاعفة، وعلى قدر الجهد يكون الجزاء، وعلى قدر الحذق يكون الفلاح في الدنيا والآخرة. فالعمل في الإسلام يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي ومساعدة الآخرين، قال صلى عليه وسلم: “لو خرج يسعى على أبوين فهو في سبيل الله، أو خرج يسعى على صغار يعولهم فهو في سبيل الله”. فالصيام الحق هو الذي يزيد في حدة شعور الصائم بانتسابه إلى المجتمع، وأنه مسؤول عن إسهامه في نشر الخير وبذل المعروف وإنفاق المال، تيسيراً لحاجة المعسرين والمعوزين، ولحاجة المجتمع في إنجاز مؤسساته العمرانية. د. سالم بن نصيرة أفضل مظهر لمجتمع صالح لو عملنا بما جاء في ديننا، لكنا في هذا الشهر نمثل أفضل مظهر لمجتمع صالح تقي ناجح في حياته، لو أخذنا بهذه السنة فعجلنا الفطر، ثم أخذنا حظنا من النوم بعد صلاة التراويح، ثم قمنا قبل طلوع الفجر وأخذنا حظنا من السحور، وانتظرناه ثم صلينا الصبح، لو تركنا هذه السهرات الملونة بألوان الغيبة والنميمة والقيل والقال، وأقبلنا على الصوم في الحدود التي وجهنا إليها الشارع الحكيم، لكان الصوم لا يمنعنا من أي عمل، ولا ينقص شيئاً من إنتاجنا، بل بالعكس، يزيد في الإنتاج بدعوته إلى الإقبال على العمل، وترك فضول الكلام والاشتغال بعورات المؤمنين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©