الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

100 عام على مولد انغمار برغمان.. سينما الظلال الصامتة

100 عام على مولد انغمار برغمان.. سينما الظلال الصامتة
25 أكتوبر 2018 00:13

ماري نويل ترانشان

ترجمة: أحمد عثمان

يا للإنسان! شرس وجموح، يسكنه الشيطان والعبقرية. انغمار برغمان واحد من عارضي الصور الخرافيين خلال القرن العشرين. لقد أبدع برغمان حكمة استثنائية عن الرجل والمرأة، الضائعين في عالم الجروح والخطايا، في ثنايا الرغبة ومعاناة عدم التفاهم.
منذ عام 2003، استقر في بيت ريفي بجزيرة فار، ومنح العالم نتاجاً باهراً «ساراباند» الذي يعد سيرة ذاتية روحية.
مستعيداً ذكرى ثلاثين عاماً على طلاق ماريان (ليف أولمان) ويوهان (ارلند جوزيفزون) - بطلي فيلم «مشاهد من الحياة الزوجية» - عاد المعلم العجوز إلى نتاجه وإلى حياته في آن معاً، بإلقاء الضوء عليهما. العنف، القسوة، الكبرياء، القلق، ثيمات عزفها بمهارة على الشاشة، ودائماً حاضرة في أعماله. غير أن آنا، امرأة يوهان المتوفاة (انغريد برغمان، آخر زوجاته)، ترشد خفية مشاعره الجافة نحو منابع الحب. هذا الفيلم وصية، لاذعة وقوية، مدون على مذكرة أنيقة. كأن العبقري وجد السلام والثقة، وأدرك التناغم الخارق الذي لم يجعله يكف عن الإعجاب بجون - سيباستيان باخ: «موسيقى باخ تعزي ضعف إيماننا».

طفولته.. جذر الإبداع
في سنواته السينمائية الأخيرة، رجع انغمار برغمان الذي توفي عن عمر يقارب التاسعة والثمانين (30 يونيو 2007)، إلى عالم طفولته. إذ رأى فيه «الجذر الأساسي للإبداع». ما أعطى مزيجاً شمالياً مبهراً ومنزلاً دافئاً صارماً، حفلات وتناقضات، ألعاب وخوف. حكى السينمائي في سيناريو «نوايا حسنة» (أخرجه بيل آوغست، الحائز سعفة مهرجان كان الذهبية في 1992) حكاية والديه؛ راعي غنم فقير وحاد الطباع، وفتاة مجتمع من علية القوم. زواج حب، ضد إرادة عائلة الفتاة. زواج بائس. «أرى – هكذا باح برغمان - أن عائلتي مكونة من ذوات تمتلك إرادة قوية، تخضع إلى ارث كارثي من الحاجة الكبرى، من الوعي التعس والجرم».
حينما ولد انغمار برغمان، الطفل الثاني للعائلة، في 4 يوليو 1918، مرضت والدته بشدة، وكان الطفل هزيلاً لدرجة أنه عاش شهوراً بين الحياة والموت: «لم أصل بالضبط إلى أن أقرر إذا كنت أريد الحياة أو الموت»، ذكر برغمان في بداية كتابه «المصباح السحري». صغيراً، حساسيته تصطدم بالاستبدادية الصارمة للتربية الأبوية. كل شيء خاطئ وتلزمه العقوبة، المسافة والثبوتية. ومع ذلك، كان طفلاً وديعاً مثلما استدعاه الفنان بروعة في «فاني وآلكسندر»: «كان المناخ في منزل طفولتي مرحاً على وجه العموم... نمثل، نعزف الموسيقى».
لما بلغ الطفل العاشرة من عمره رأى فيلماً لأول مرة، وأصيب بحمى لن تتركه أبداً. ومن الآن فصاعداً، استقر في مملكة الصور. نظم عروض السينما العائلية في العلية، وأدار آلة العرض والشرائط بمعية عمه كارل، منشطاً «هذه الظلال الصامتة» التي تتكلم عن «المشاعر الأكثر سرية». بعد ذاك، اكتشف سحر المسرح لما أخذ يتردد إلى كواليس عرض «الحلم» لآوغست شترندبرج، مواطنه المفضل الذي توفي قبل مولده بستة أعوام.

مسرح الشتاء.. سينما الصيف
في سن التاسعة عشرة، وبعد خلاف مع والده بسبب انتقاداته له، قاطع انغمار العائلة بعنف، ولم يعد إلى رؤيتها لسنوات. متابعاً دراسته للآداب، بدأ في العمل المسرحي، كتب اثنتي عشرة مسرحية ونتاجاً أوبرالياً، جميعها معتمة، مستلهمة (إلى حد أنها تبلغ أحياناً مرتبة الانتحال) من شترندبرغ (بعد فترة، سوف يضيف موليير). وجد المؤلف الشاب مشاهدة لطيفة: شتينا برغمان، مديرة مكتب خدمة السيناريو بـ «سفينسك فيلم أندَسْتري». ارتبط بها لعام واحد، عام 1942. أول سيناريو له كان «آلام»، الذي يقص حكاية طفل يخضع لمضايقات معلم سيكوباثي، وحققه السينمائي الكبير آلف سغبرغ. في 1943، أدار مسرح هلزنغبورغ، وفي 1946 مسرح غتبورغ، حيث عرض عليه «كاليغولا» لآلبير كامو. ومثل هذا العام أيضاً أولى بداياته مع الشاشة مع «أزمة».
من الآن فصاعداً، وزع وقته بين الإخراج المسرحي شتاء، وفي الصيف يحقق أفلاماً. آنذاك، تزوج للمرة الثانية، وهو الزواج الثاني الفاشل. يرحل إلى باريس، يحيا علاقة قصيرة، محكوم عليها بالفشل سريعاً، ذكرها بكآبة في «المصباح السحري».
«الرجل الملتحف بالنساء»، وقع انغمار برغمان ثانية في الزواج (لديه ست زيجات شرعية)، وسينمائي النساء الذي يعرف وصفهن بدقة عن وصف الشخصيات الذكورية، كان يملك موهبة الإفساد أو إفساد العلاقات. ووجد في تجربته الحياتية موضوعاً من الموضوعات الكبرى في نتاجه: الثبوتية، القدرة على رؤية وجه الآخر.

ملجأه.. شبه وطنه
الحدة والعدوانية، بالتأكيد، ملمحان من ملامح شخصيته. نشعر به مضطرباً وغاضباً، ذا كبرياء وغير صبور إزاء الحياة المعاصرة. ذكرها من دون تساهل في كتاباته. لا أحد راض بنفسه. واعياً بعبقريته. دائماً، تم النظر إلى برغمان بوضوح نقدي ونزاهة نادرة.
منذ الخمسينيات بات سينمائياً معروفاً، بعد أن حقق فيلم: «ألعاب الصيف» في 1951، ثم «انتظار النساء» و«مونيكا»، في العام التالي مع نجاح جماهيري هائل، بالإضافة إلى تكريمه من قبل مهرجان كان في 1956 عن «ابتسامات ليلة صيف». وهكذا تمت معرفة أكثر مع فيلم إلى جانب الكبيرين «الختم السابع»، و«الفروالة البرية»، الحائز جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، 1958.
في عام 1960، بعد علامات «عبر المرآة» اكتشف جزيرة فار التي ستصبح ملجأه وشبه وطنه: «إذا سألوني عن جنسيتي، ستتملكني الرغبة في الإجابة: مواطن جزيرة فار... هنا أرى أصدقائي والأطفال، هنا أيضاً لدي أرشيفي السينمائي المكون من ثلاثمائة فيلم التي أفخر بها. قبلني سكانها الأربعمائة كواحد منهم، وجدت فيها حياتي الطفولية، القراءة، اللهو، النزهات والحلمية. اكتشفت، لن أقول الحكمة، وإنما شيء من الصفاء».
كان عام 1963 عاماً برغمانياً نمطياً من ناحية العمل والإبداع المكثفين في المجالات كافة. أصبح برغمان مديراً للمسرح الملكي الدرامي بستوكهولم، حيث قام بعرض: «من يخاف فرجينيا وولف؟» (لادوارد البي) واستعاد «حكمة» هنريك برغمان التي عرضها على مسرح الأمم في 1959. في الوقت نفسه، عرض له فيلمان «متناولو القربان» في فبراير، و«الصمت» في سبتمبر اللذين حققا نجاحات سريعة. وكذا حقق للشاشة الصغيرة عملين من إبداع مبدعه شترندبرج «الحلم» و«سوناتا الكواكب». استقال في عام 1965 من مسرح ستوكهولم، غير أنه لم يلبث أن عاد إليه في عام 1969. خلال هذا الصيف، صور «برسونا» الذي أدخل ليف أولمان إلى حياته حتى تزوج من انغريد كارليبو. شهد العامان 1972 و1973 نجاح «مشاهد من الحياة الزوجية» و«صرخات وهمسات» الذي حاز أوسكار الفيلم الأجنبي في 1974، وهو العام نفسه الذي اكتشف المشاهدون السويديون فيه فيلم «الناي المسحور» قبل عرضه في مهرجان كان 1975.
الغرفة المعتمة لروحنا
مثل عام 1976 لبرغمان عاماً رهيباً: في 30 يناير، تعرض لأزمة حادة بينما يدير بروفة مسرحية. هذه اللحظة العنيفة والجماهيرية التي عرفت أسبابها تالياً، أصابت السينمائي إصابة عميقة. معالجاً من الاكتئاب، لجأ إلى ميونيخ، حيث عرض «بيضة الثعبان» وأخرج «الحلم» على المسرح. حتى بعد عودته إلى السويد، في العام التالي، استمر برغمان في العمل في ميونيخ، حيث قدم في 1981 تحديداً نقلاً مسرحياً «لمشاهد من الحياة الزوجية».
في أعياد ميلاد العام 1982، عرض «فاني وآلكسندر» كآخر أفلامه على الشاشة. بينما عرض «بعد البروفة» الذي أخرجه للتلفزة، على الشاشة الكبيرة. مذّاك، كرس برغمان وقته للمسرح والتلفزة، وعلى وجه الخصوص الكتابة: سيناريو «نوايا حسنة» وكتابة مذكراته. ظهر الرجل في تعقيداته كافة، مخيلته القادرة، جسده المتألم من المرض، الذكاء المتعجرف الذي يخدم التوهم، الحلمية، لكي ينتصر على الحقيقة القاسية المدمرة. لكن من يبحث أيضاً عن الحقيقة المثلى للفنان: الحلم، أي الكشف، عبر التوهم، عن الحياة الحقيقية للروح.
..........................................
(*) Le Figaro، 31 Juillet 2007.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©