السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إختراع وليست فطرة

إختراع وليست فطرة
24 يوليو 2013 21:59
رسخ العصر الحديث ان الحرية حق طبيعي للإنسان، وان هذا الحق موجود دائما ومسلم به ومن ثم يصبح الانسان سيد افعاله وتصرفاته، هنا تكون الحرية مثل الهواء الذي نتنفسه، وعادة لا نتوقف لنتساءل عن هذا الهواء ولا عن مكوناته، ان لم نكن في مكان مزدحم أو خانق، واذا وجد الفرد والانسان الحر يكون البلد حرا. هكذا جاءت افكار فلاسفة العصر الحديث روسو وجون لوك وتوماس هوبز وجان بول سارتر وغيرهم، لكن الكتاب الذي بين ايدينا “الحرية” ومؤلفه بومان يقوم على نقض تلك الفكرة تماما وهدمها، هذا التصور الذي قدمه الفلاسفة الكبار اكتسب مصداقيته من التكرار والإلحاح عليه دوما، ويترتب على هذا التصور والالحاح عليه الكثير من التصورات والمفاهيم المغلوطة، مثلا نحن نؤمن ان الفرد يكون حرا في ان يفعل ما يشاء من دون تدخل او عقاب من سلطة، حرية الفعل بلا قيود، حتى لو كان خطأ، ولكن ليس هناك يقين بأن ما يقوم به الفرد سوف يجلب له الفائدة التي يتوقعها بشأن هذا الامر، وقد يكون الفرد حرا في ان يسافر ويترك بلده، لكن هذه الحرية مرتبطة بأن يكون لديه ثمن تذاكر السفر وان يجد الوظيفة التي يحبها وتريحه. هذا التصور للحرية مرتبط عند المؤلف بالمجتمع الغربي في العصر الحديث وبتطور الرأسمالية والسوق، ومن ثم فهي حرية لشراء المنتجات الجديدة والتوسع في الاسواق، وهذا يؤدي إلى ان يعمل الافراد اشياء محددة وكأنها دستور أو قانون إنساني خاص، الحرية عند “بومان” ليست كذلك، هي ليست حقا طبيعيا هي منتج اجتماعي وانتاج مجتمع، ومن ثم تصبح حقا تاريخيا واجتماعيا، الحرية ترتبط بالمجتمع كله وتعبر عنه، وحرية المجتمع غير حرية الافراد، وفي مجتمع ما يمكن ان تكون هناك طبقة وأفراد احرار، ولكن هذا لا يعني ان المجتمع كله صار حراً، وبهذا المعنى فإن الفرد الحر ليس ظاهرة عالمية وانسانية، لكنه ظاهرة محلية انتجته ظروف خاصة جدا، أي انه خلق اجتماعي وتاريخي، وبهذا المعنى تصبح الحرية شرطا ضروريا لتحقيق التكامل الاجتماعي. ان الحرية الآن صارت “حرية المستهلك” وهذا المعنى الخطأ والخطر، بنظر المؤلف يتم تسويقه عالميا، لانه يرتبط بالرأسمالية والسوق. الخطأ كما يراه المؤلف يمتد إلى السياسة المعاصرة، فمع استقرار الحرية في الشكل والنمط الاستهلاكي وامتداد السوق، تتجه الدول الى التخلص من ادوارها التقليدية او ما يجب ان تقوم به من اعادة تعديل رأس المال والعمل والبناء التشريعي ومن ثم تتجه الدولة إلى التلاشي. “الحرية” هنا تصبح حقيقة وضعا اجتماعيا في زمن محدد ومكان معين، ولذا لم يكن لها معنى ثابت طوال التاريخ، ففي العصور القديمة كانت فكرة الحرية تشير إلى العمل واقرار سلطة الفرد وقوته على من يعملون لديه من عبيد ومع تحرير العبد يظل تابعا لسيده فترة، وساد هذا الفهم لقرون وكان جوهر نظرية التبعية التي اعتبرت من لا سيد له غير منتم وغير تابع ومصدرا للقلق الاجتماعي. وفي العصور الوسطى ارتبطت الحرية بصراعات القوى داخل المجتمع، وهذا ما يبدو في وثيقة الماجنا كارثا حيث اذعن الملك للبارونات، وصار اسم الرجل الحر مرادفا لاسم الشخص صاحب الاصل النبيل والتربية الارستقراطية، وبعد ذلك صار امتياز الحرية ليس إلى الأفراد وانما إلى المدن والنقابات وتطور الامر وصولا إلى العصر الحديث ومن ثم الحرية الحديثة القائمة على الفردية والرأسمالية. وعلى العكس من الرأسمالية تأتي الشيوعية لتؤكد مجتمع الدكتاتورية، حيث غياب الاستقلال الذاتي والحرية الفردية وتقوم الدولة والبيروقراطية أو الحزب بتحديد حاجات الافراد ونوعيتها ومدى الاستهلاك وكل شيء بواسطة الدولة، أما الأفراد فيكون عليهم ان يتحدثوا بلا صوت معبر وبلا خروج عما هو محدد لهم ومتاح امامهم، ويتحدث المؤلف مطولا عن آراء عدد من المفكرين في المجتمع والدولة في النظام الشيوعي، والانتقادات الحادة والقاسية لذلك النظام. المؤلف في تصوره للحرية ينحاز إلى ما يسميه “الشكل الاشتراكي للمجتمع الحديث” الذي يضمن الحرية العامة بتوفير احتياجات اكبر عدد من الفئات والافراد، بما لا يسمح بسيادة النزعة الاستهلاكية، حيث يوازن بين حرية الفرد ودور المجتمع او صلة هذه الحرية بالشكل الاجتماعي. صدر هذا الكتاب عن جامعة ميتسوتا عام 1988 أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع الحديث عن المجتمع الاشتراكي ثم ظهور العولمة وتأثيرها على حرية الافراد والمجتمعات . المشكلة بالنسبة إلينا مختلفة والكتاب يناقش افكارا لاتزال مطروحة على مجتمعاتنا بقوة، حيث التصارع على السيطرة السياسية والمذهبية وارتفاع معدلات الفقر التي لا تجعل الحرية هي القيمة الاولى لدى شرائح اجتماعية كاملة فلاتزال الاولوية الاولى هي حق الحصول على لقمة الخبز وفرصة عمل متواضعة، ولعل هذا ما يفسر بيع الاصوات الانتخابية في عدد من البلدان العربية، صحيح ان هناك شرائح اجتماعية تمتلك رفاهية التعامل بعقلية الاستهلاك والسوق، لكنها محدودة العدد ويمكنها التأثير اكثر واكثر بتقديم بعض الهبات للفقراء. وفي هذا السياق علينا ان ننظر إلى معنى الحرية ودورها في هذه الحالة، فمازلنا ندور في فلك افكار ورؤى عبدالرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده ولطفي السيد ورشيد رضا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©