الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العد العكسي للمد الأحمر

العد العكسي للمد الأحمر
27 يوليو 2011 19:26
في حلة أنيقة أصدرت دار توبقال في الدار البيضاء، الترجمة العربية الأولى لكتاب “فشل اليسار”، لمؤلفه المفكر والفيلسوف الفرنسي المعروف آلان باديو المولود في الرباط سنة 1937، والمعروف في العالم الفرانكفوني بكتابه الشيق والذي ينتقد فيه سياسة الرئيس الفرنسي ساركوزي. ويعتبر هذا الكتاب، (162 صفحة من الحجم المتوسط) من أهم الكتب التي تفكّك وتسلّط الضوء على أسباب تراجع المد الاشتراكي في العالم بترجمة ممتعة من توقيع عزيز لزرق ومنير الحجوبي. أخلاقيات يقول المؤلف إنه منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، بدأ العد العكسي “للعقد الأحمر”، الذي تم تدشينه بتضافر أربعة عوامل حددها المؤلف في: الكفاح من أجل التحرير الوطني (الفيتنام وفلسطين)، والحركة العالمية للشباب الطلابي (في ألمانيا، اليابان، الولايات المتحدة الأميركية، المكسيك...) وتمردات المعامل (في فرنسا وإيطاليا)، والثورة الثقافية في الصين. لقد تجلى هذا العد العكسي ـ حسب المفكر ألان باديو ـ في شكله الذاتي، من خلال الارتداد الخاضع، المتمثل في العودة إلى العادات، بما فيها العادات الانتخابية، واحترام النظام الرأسمالي/ البرلماني أو “الغربي”، والاقتناع بأن ليس في الكون أفضل مما هو كائن. لقد اتخذ هذا العد العكسي شكله الثقافي من خلال ما سمي في فرنسا، باسم غريب جدا، ألا وهو “الفلسفة الجديدة”، وتحت هذا الاسم نجد نفس الترسانة الثابتة تقريبا والمتعلقة بالنزعة الأميركية المضادة للشيوعية في الخمسينيات، والتي كانت تروج لما يلي: إن الأنظمة الاشتراكية عبارة عن أنظمة استبدادية مشينة، وديكتاتورية دموية، لذا يتعين على مستوى الدولة معارضة هذه “الكليانية” الاشتراكية بالديموقراطية التمثيلية، والتي هي من دون شك غير تامة، ولكنها تبقى شكل السلطة الأقل سوءا، والذي يبتعد كثيرا عن باقي الأشكال الأخرى، وعلى مستوى أخلاقي، الأهم فلسفيا، يجب أن نعمل على تبجيل قيم “العالم الحر”، والذي تمثل الولايات المتحدة الأميركية مركزه وضامنه. إن الفكرة الشيوعية عبارة عن يوطوبيا مجرمة، فشلت في كل مكان، لذا كان يتعين عليها أن تترك مكانها لثقافة “حقوق الإنسان” التي تجمع من جهة بين عبادة الحرية (بما في ذلك، وبشكل أساسي، حرية المبادرة، والتملك والاغتناء، باعتبارها الضمانة المادية لكل الأنواع الأخرى من الحريات)، ومن جهة ثانية بين تمثل أضحوي للخير. فالخير في الواقع ليس أبدا سوى صراع دائم ضد الشر، الشيء الذي يدفعنا إلى القول بأنه يتعين علينا أن لا نأخذ بعين الاعتبار إلا ذاك الذي يقدم نفسه، ويظهر باعتباره ضحية الشر. أما بالنسبة للشر فهو كل ما يحدده الغرب الحر، إنه ذاك الذي سماه ريغان “إمبراطورية الشر”. ها قد عدنا لنقطة الانطلاق: المثال الشيوعي، إلخ.. دعاية ويرى المؤلف إن “أجهزة الدعاية هذه، لا محل لها من الإعراب اليوم، وذلك لأسباب متعددة، أولها أنه لا توجد الآن أية دولة قوية تستند على الشيوعية، أو حتى على الاشتراكية. بالتأكيد، لقد أعيد إنتاج العديد من الألاعيب البلاغية في “الحرب ضد الإرهاب”، والتي اتخذت في فرنسا شكل حرب صليبية ضد النزعة الإسلامية. ومع ذلك لا أحد يمكن أن يعتقد عن جد بان إيديولوجية دينية، خصوصية، متخلفة في رؤيتها الاجتماعية، وفاشية في تصورها للفعل وفي نتيجتها، يمكن أن تأخذ مكان الوعد بالتحرر الكوني الممتد طوال ثلاث قرون من الفلسفة النقدية، والأممية واللائكية، والتي تعتمد على مرجعيات العلم وتعبئ في قلب العواصم الصناعية الحماس العمالي وحماس المثقفين كذلك. إن الخلط بين ستالين وهتلر، مرجعه أساس فكرة ضعيفة جدا، وهي التي ترى أن القاعدة المتحكمة في كل مشروع جماعي هو عدد الضحايا. أما بالنسبة للإبادات الجماعية والمجازر الكولونيالية الضخمة، وملايين ضحايا الحروب المدنية والعالمية، والتي من خلالها تمكن غربنا من بناء صرح قوته، فقد كان يجب أن تعمل على إسقاط حظوة الأنظمة البرلمانية في أوروبا وأمريكا، في أعين “الفلاسفة” أنفسهم الذين مجدوا منظومتها الأخلاقية. ماذا تبقى لبيروقراطيينا المختصين في الحقوق، لكي يقرظوا الديمقراطية البرجوازية، باعتبارها الشكل الوحيد للخير النسبي، هم الذين يتحاملون ضد النزعة الكليانية، انطلاقا مما خلفته من عدد الضحايا؟ على كل حال، إن الخلط الحاصل اليوم بين هتلر وستالين وبن لادن، مرجعه هذه التمثيلية الكئيبة. وهذا يعني أن ديموقراطيتنا الغربية، لا تأخذ بعين الاعتبار المحروق التاريخي المكلف بتحريك آلتها الإدعائية. صحيح، أن للغرب في الأزمنة الحالية، أمور تشغل باله، فبعد عقدين صغيرين من الازدهار، غير عادلين بكل وقاحة، ولأن الغرب كان مرتعا لازمة تاريخية حقيقية، كان يتعين عليه أن يكف عن غروره بصدد ادعاء “الديموقراطية”، من جراء ما فعله في الأزمنة الأخيرة وذلك بوضع الحواجز والأسلاك الشائكة المضادة للأجانب، وباستعمال وسائل إعلام مرتشية وخاضعة، وبملء السجون عن آخرها، وبوضع قوانين آثمة. إذ لم يعد للغرب الوسائل الكافية لإرشاء عملاءه المحليين، ولشراء عن بعد الأنظمة الشرسة، المكلفة بحراسة قطيع الفقراء. استهبال يتسائل ألان باديو قائلا: ماذا تبقى من عناء “الفلاسفة الجدد”، الذين نورونا، نقصد استهبلونا، طوال ثلاثين سنة؟ ما هي في نهاية المطاف الأنقاض الناجمة عن الآلة الإيديولوجية الكبرى للحرية، حقوق الإنسان، الديموقراطية، الغرب وقيمه؟ كل ذلك يختزل في لفظ سلبي، وضيع كحالة مثبتة عارية مثل اليد: في القرن العشرين، يمكن القول بأن الأنظمة الاشتراكية، وهي الأشكال الملموسة الوحيدة للفكرة الشيوعية، منيت كليا بالفشل، بل هي نفسها عادت لتتبنى العقيدة الرأسمالية الظالمة. إن فشل هذا المثال يتركنا عرضة لعقدة التنظيم الرأسمالي للإنتاج وللنظام الدولتي البرلماني، في غياب أي حق في الاختيار: يجب أن نقبل ذلك طوعا أو كرها. هذا فضلا عن أنه لهذا السبب علينا اليوم أن ننقد الأبناك دون أن نصادرها، وأن نعطي الملايير للأغنياء ولا شيء للفقراء، وأن نروض ما أمكن الوطنيين ونعبئهم ضد العمال الذين يأتون من الخارج، وباختصار أن نعمل عن كثب على تدبير كل الويلات، لكي نحافظ على بقاء القوى العظمى. لا خيار، أقول لكم! لا، ليس ـ كما قد يسلم بذلك بعض إيدولوجيينا ـ لأن تسيير الاقتصاد والدولة من طرف بعض العصابات الجشعة، وليس لأن الملكية الخاصة الجامحة هما الخير المطلق. لكنه الطريق الأوحد الممكن حسب تصور “ستيرنير” الفوضوي، فالإنسان فاعل شخصي في التاريخ، يتعلق الأمر بـ”الكائن الفريد من نوعه وبملكيته”. أما اليوم فالأمر يتعلق بـ”الملكية باعتبارها الشيء الفريد من نوعه”. أمثلة يضيف ألان باديو في توطئة الكتاب قائلا: “من هنا يجب أن نتأمل مليا لفظة الفشل. ماذا تعني بالضبط عبارة “الفشل”، هل يتعلق الأمر بمرحلة من مراحل التاريخ، حيث يتم تجريب هذا الشكل أو ذاك من الفرضية الشيوعية؟ ماذا نعني بالضبط عندما نؤكد أن كل التجارب الاشتراكية التي توجد تحت لواء هذه الفرضية، قد “فشلت”؟ هل هذا الفشل جذري؟ نعني بذلك: هل يقتضي التخلي عن الفرضية ذاتها، والتخلي عن مسألة التحرر ككل؟ أم أنه ليس سوى فشل نسبي حسب الشكل أو الطريقة التي سبر أغوارها، والتي تبين، من خلال هذا الفشل، أنها لم تكن الطريقة الأنسب لحل المشكل الأصلي؟”. يستعرض ألان باديو أسباب فشل المد الشيوعي من خلال ثلاثة أمثلة (مايو 68، الثورة الثقافية، كمونة باريز)، ويرى المؤلف أن “أنواع الفشل التي قد تبدو أحيانا دامية، ومليئة بالأحداث المرتبطة بشكل عميق بالفرضية الشيوعية، كانت وستبقى عبارة عن مراحل تعكس تاريخ هذا الفشل. على الأقل بالنسبة لأولئك الذين لم يعميهم الاستخدام الادعائي لمصطلح الفشل. وهذا يعني: أولئك الذين لا زالوا كفاعلين سياسيين يؤمنون بالفرضية الشيوعية، سواء استعملوا أم لم يستعملوا كلمة “الشيوعية”. فالمهم في المجال السياسي هو الأفكار والتنظيمات والأفعال. في بعض الأحيان نستخدم بعض الأسماء الأعلام كمرجعيات، مثل روبسبيير، ماركس، لينين... أما الأسماء العامة (الثورة، البروليتاريا، الاشتراكية...) فهي الأكثر عرضة للتأثر بنفس الدعاية. والسبب هو أن لا حاجة للكونية، وهي الخاصية الفعلية لجسد الحقيقة، بالمحمولات. إن سياسة حقيقة تجهل الهويات، حتى وإن تعلق الأمر بهويات دقيقة ومتغيرة، كهوية “الشيوعيين”، هي سياسة لا تعرف سوى هذه المقاطع من الواقع التي تحيل على مثال هو في طور بناء حقيقته”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©