الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كأنّها... مَنام!

كأنّها... مَنام!
22 يوليو 2015 22:00
كانت الرحلة إلى طنجة أشبه باستجابة لدعوة حضور حفل زفاف في الحلم، عرس من طيف ومنام، هكذا كانت حفلة هروبنا الجميل ذات صباح ربيعي إلى ساحل تلك العروس الشمالية المتأملة في استرخائها العميق على البحر الأبيض المتوسط. وهاأنذا أحاول من خلال الكتابة أن أمسك بالحبل السحري الخاطف الذي بعثر اشراقات دائمة في الذاكرة، وسويعات مدهشة توغلت في التفاصيل البعيدة في الروح، وانحازت في الذرات القصية للمخيلة، فكونت في اللاوعي رؤى إيحائية تبوح، في لحظات تجلي الحنين، بركضي السريع الذي كان بين رائحة أزقة طنجة وساحلها الوديع الأخضر وصخب مقاهيها في يوم واحد فقط. برفقة ساق النبات الصعود مرهق دائماً إلا أنه يصير عذباً حين يشغلنا الفضول وإلحاح الاكتشاف، تراودنا أمنية التشرّد في أزقة قديمة تأخذنا بعيداً في الزمن؛ فبعد جولة صعود داخل دروب طنجة العتيقة حيث سلسلة من المباني والبيوت والمقاهي القديمة الشهيرة، تستوقفك متاهاتها الضيقة المزدحمة بالمشاة والباعة المتجولين في الأسواق المليئة بالصناعات الشعبية من عطريات وحلي وأوان نحاسية وفخارية ولوحات فنية وأثواب نسائية مطرزة باحتراف عال، أزقة ملتوية ومتاهة تخال أنها لا تنتهي إلا بمتاهات جديدة داخل قلب المدينة الأسطورية. (هنا كان يمشي محمد شكري) قالها الكاتب المبدع عبد الرحيم جيران، الذي كان أبرز المصاحبين لنا في رحلة الملتقى، الرجل المدهش الذي يحمل في جسده روح النهار والنهر، رجل في هيئته يشبه ساق النبات الوليد الجديد في الحقل العتيق، كان يهرول في الشمس والهواء المتسلل بين فراغات الأزقة، ويستحثنا على ضرورة الحفر عميقاً في ثنايا تلك المتاهات للتعرف الجدّي على جوهر طنجة وسرها العجيب. في محبة وألفة وضحكة دعانا جيران للتسابق، مؤكداً على ضرورة إيقاظ الحماسة كيما يكون الركض أخف وطأة على النفوس المرهقة، فثمة دهشة عارمة تنتظرنا في الأعالي. ركضنا جميعاً على توقع مسبق بأن نصيب الوصول الأول سيكون لجيران وحده، الرجل الذي يشبه ساق النبات في فتوّة الروح وشبابها. وكانت الدهشة في الانتظار، حين استراحت أقدامنا المتعبة عند حافة السهل الأزرق.. العريس الذي على حافة الماء حافة على هضبة خضراء عالية، تبتسم باطمئنان للبحر على مد البصر، يلاطفك رذاذ الموج، وتسبح عيناك بعيداً إلى لجة مياه البحر الأبيض المتوسط المعانقة للمحيط الأطلسي.. مضيق جبل طارق يواجهك، ويفاجئك مصب التاريخ فجأة، نقاط شاحبة في ذاكرتك المعلوماتية تقفز أمام الوعي، حروف مبعثرة درستها يوما في كتاب التاريخ الدسم تواصل ترابطها وتكونها وإعادة تجذرها لتكوِّن سهماً رشيقاً مصوّباً إلى ذاكرتك (.. ها هو إذن مضيق حبل طارق)! وفي حي مرشان أحد أقدم أحياء طنجة يقع (مقهى الحافة)، مقهى الشمول والتسامح والإنسانية والإبداع والفن والحكمة، حيث تتمازج الأجناس المختلفة الأديان والأصباغ البشرية. وُضع أول كرسي في هذا المكان سنة 1921، تحول مع مرور الأيام والسنوات إلى قبلة لسكان المدينة وزوارها، يسحرك المكان بما يحمل من دلالات وجدانية متأصلة ويثير تساؤلك ذلك التقابل العجيب ما بين فخامة البحر وعراقة المكان الجغرافي المتأصل في العروق التاريخية وبين تواضع المقهى وبساطته الممتدة في منظر بانورامي يرتكز في عمق ميدان الزّرقة. مقهى الحافة بمظهره السوريالي الخفيف يشبه عريساً يلبس حلّة بيضاء تراثية عتيقة معشّقة بصوت البحر وأصدافه، يقف مزهواً على حافة البحر بانتظار عروسه التي تأخرت أزمنة كثيرة إلى أن بلل البحر ملابسه وتآكله الهواء في الفراغ البعيد. هكذا هي صورة المقهى وهو في حالة ترقب لأمل مجهول، وفوضويته الغريبة وجدرانه القديمة المصبوغة بالأبيض والأزرق وطاولاته الإسمنتية، وكؤوس الشاي الأخضر بالنعناع السابح على سطحها، ولا أنسى طبق «البيصر» - بلهجة أهل شمال المغرب أي حساء الفول بزيت الزيتون والكمون، أهم وأقدم ما يقدمه «الكاماريرو» كما يسمى باللغة الاسبانية التي يتحدث بها أهل شمال المغرب بطلاقة، وتعني الكلمة نادل المقهى -، (البيصر) ذلك المشروب الدافئ الذي يحضَّر في أوان نحاسية قديمة، ويحرص زبائن المقهى على احتسائه بانتشاء، كل ذلك يغري رئتك المرهقة بعد لهاث الصعود في الأزقة، لتمدها أكثر في جنون الأزرق، يحتويها ذلك النسيم المتدلي من الأشجار المبثوثة بتناسق على حواف الطاولات الحجرية الزرقاء، تلك الأشجار تتدلى بهدوء لتصل أغصانها إلى مستوى رأسك وكتفيك، ولعل من الملفت أكثر ذلك النحل الذي يستدير في حلقات رشيقة بأريحية وألفة حول كؤوس الشاي بالنعناع ! (ثمة الكثير من الحكايات التي سُردت هنا على الحافة) تقول أوراق الأشجار المتساقطة في الشاي، ويقول أيضاً طريق النحل المسافر في رحيق الشاي (ثمة الكثير من الذكريات هنا، مازال يسافر رنينها المقلوب في المحيط الأطلسي العميق). رواد المقهى تجدهم منشغلين بتركيز النظر على أبعد مركب في البحر أو الحديث مع أنفسهم أكثر من الحديث مع الآخرين، يجر المكان خلفه سحراً غامضاً آسراً جداً، تتساءل: (هل البحر الممدود بأريحية دون حد هو السبب؟ أم أنه المضيق الذي يشبه جدولاً كبيرا يدخل في عمق البحر دونما قلق؟). (إن المشهد يكمن سحره في التناقض)، قد تصل أخيراً إلى هذا الاستنتاج، فالمقهى صاخب في الحضور، عميق في العزلة والغياب، متكلّم بتكاثف أعداد رواده، صامت بصمت رواده. صخب المقهى مرتبط بالكثافة العددية (الجسدية)، وصمته متعلق بالكثافة التأملية (الروحية). البحر والمقهى يتبادلان الصخب الحركي وسكون التأمل، كل منهما يتأمل الآخر ويتبادلان المحبة والسلام، بينما تبدو لك علاقة البحر بالمضيق مختلفة، ثمة علاقة دخيلة مادية بين الاثنين، والأمر طبيعي بعد أن أقحم البشر أنفسهم في حبس أنفاس الأرض والماء بحدود حاسمة حازمة، الطبيعة تكره الحزم المُصطنع، تكره المعايير البشرية، وتعشق الانعتاق دائما وفق معايير إلهية أزلية. البحر والمضيق صارا يتبادلان المصالح، لينجبا تدفقاً مستمراً آمناً للتاريخ، ويمنح كل طرف جزءا من مستقبله للطرف الآخر وفق مهادنات محسوبة. في حين أن مقهى الحافة يجلس بصمت في الزمن، متأملاً ذلك التبادل التاريخي والمستقبلي في المصالح، هكذا يبدو لك مذ أول جلسة في قلبه، وما أن يحتويك المقهى أكثر ويغمسك في ذرات اللحظات الزرقاء حتى تبدّل قناعتك وتمطر عليك أفكاراً أكثر باطنية، فالمقهى أيضاً في عمقه منشغل باللحظة الراهنة، بمتعة اللحظة الحالية، منشغل بالآن، لذا تجد رواده يشبهون نوافذ مفتوحة على المطر، أو كهوفاً بحرية مضيئة بالمصابيح القلقة، ففي كلا الحالتين ثمة حافة في روح الرواد تستدعي العزلة مليّاً، وتحقيق الصلة مع السماء البعيدة. يعتبر مقهى الحافة أيضاً مؤسساً للأشعة الأولى لصباح الحب ورمزاً لذاكرة الأزواج العشاق، الذين تنعكس موجاتهم العذبة على فضاء الحافة، فالحافة أيضاً تعني أنك صرت على حافة وليد جديد يكاد يشبه الموت في فلسفته وشعريته العميقة، إنه الحب.. الحافة تعني أن عليك الآن أن تحسم اللحظة، والحسم يقتضي أن تترك الماضي وتاريخه، وألا تعبأ بتبعات انجرافك في الرياح القادمة، وإنما فقط عليك أن تفكر بالآن، باللحظة الفاصلة، قدّم نفسك للمجهول بكل بساطة، وكن حبة قمح مسافرة في الرياح لا تفكر بمآلها، الحافة تعني حلاً واحداً لوجودك، الحل يكمن في شجاعة القفز، القفز بعيداً في الدهشة، في المفاجأة المغايرة، في الصمت العالي، في التركيز على ذرة بعيدة وحيدة ضائعة في داخلك، هناك ذكريات بعيدة غامضة تنشأ في أفكارك، فاتبعها، اقفز إليها واكتبها، الحافة تعني أنك إذا قفزت بطريقتك المعتادة فإنك لن تعبر البحر، وستختفي في الرياح سريعاً..وإنما عليك أن تسمح أخيراً للذرة المختلفة الوحيدة الضائعة في داخلك أن تقوم بدورها، لتثبت لك قدرتها على إطلاقك في التحولات غير المتوقعة، وحملك بكل ثقة إلى قفزة واثقة نحو ضفة أحلامك. مغناطيس المبدعين بقي مقهى الحافة لقرن من الزمن عامل جذب للكثير من الكتاب والروائيين والفنانين والمتأملين والمشاهير في الفن والسياسة والأدب والفلسفة والباحثين عن الصمت والتأمل والدهشة، مثل محمد شكري، والطاهر بن جلون، والكاتب الأميركي بوول بولز الذي اختار الإقامة في طنجة منذ عام 1935.. وفي هذا المكان أيضا ً جلس الممثل الأميركي الشهير شون كونري.. والمؤلف الأميركي تينسي ويليامز، أما الكاتب الإسباني لويس إدواردو فقد قال: (مقهى الحافة جنة الباحثين عن التأمل، إنه مكان للراحة ونسيان الهموم أمام بحر يتمدد بين الشواطئ الإفريقية المغربية والشواطئ الأوربية الإسبانية). جذور الحافة يُجمع رواد المقهى القدماء على أن جذور بناء مقهى الحافة تعود إلى ما قبل عام 1921، كان المكان مجرد خلاء ولا أثر فيه للحياة، ليس به إلا غابات من الأشجار والأيكات الملتفة ومتاهات الشعاب الجبلية والمنعرجات الوعرة، لا يزورها ولا يمر منها أحد، لكن (با محمد)، وهو اسم مؤسس هذا المقهى عمل لشهور طويلة في اقتلاع الصخور العملاقة وبعض الأشجار وتمهيد الدروب، حتى حوَّل ذلك المرتفع في المكان الموحش والمقفر إلى مدرجات خضراء وحقل صغير شيد عليه مقهاه الذي سُمي منذ ذلك الحين بـ (مقهى الحافة)، في حين أن طنجة كانت تخضع في ذلك الزمن منذ أوائل القرن العشرين، لحماية دولية، وكانت بلدان مثل إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها تتقاسم السيادة على المدينة، وهذا ما جعلها مستقراً للكثير من الجنسيات، والأديان التي أعطت لوناً واحداً للمدينة. صار مقهى الحافة المكان المفضل للسياسيين والسفراء والقناصل والكتاب والفنانين والمشاهير والعاطلين والأغنياء والفقراء والباحثين عن عزلة والباحثين عن الصخب أيضاً. *** هبة اليوم الواحد التي قضيناها في طنجة تكاد تكون كمن يمنحك هبة النظر إلى كل شيء في الحياة خلال زمن لا يتجاوز يوماً واحداً أو أقل، ثم يُطلب منك أن تسرد كل شيء رأيته، وبإيجاز واختزال وسرد يكاد يتناسب مع سرعة الضوء، إن صح تخيّل أن لسرعة الضوء عين تسرد ما ترى وهي راكضة. يخيل إليّ الآن وأنا أتذكر نداءاتنا وصخبنا الطفولي في شوارع طنجة أننا كنا في زمن الرؤية في المنام، مجرد ظلال أشباح جميلة تلهث خلف جاذبية غامضة للماء والغابات والجبال والمدينة الساحلية، وكأن لحظات اليوم الواحد لنا في طنجة قد انفلتت من الزمن الفيزيقي، فسبحت في اللازمن، خارجة عن الزمن الكوني، داخلة في الزمن الحلمي، زمن الرؤية والطيف العابر، زمن الروح. .................................................................. من رحلة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إلى طنجة (مقهى الحافة) على هامش ملتقى السرد الإماراتي المغربي في عام 2014 يكمن كمال الانبهار بالمدن حين تكون ساعات الإثارة المتاحة لك فيها ضئيلة مقارنة بالمسافات الشاهقة التي تبعدها عن بلدك، وقياساً بمقامها السوريالي النادر والعميق في الجاذبية، فالمتعة فيها ناقصة نظراً لحرمان امتلاكك الزمن الضئيل والمحدود جداً، والمحصور في يوم واحد لا أكثر، يوم واحد لزيارة مدينة جبلية مائية بحرية كبرى، عريقة في التاريخ، عميقة في النسب، وأسطورية في الأثر العربي، ساحرة في التضاريس المتناقضة. كادر داخل موضوع لولوة طريق النحل مقهى الحافة في مظهره السوريالي الخفيف وترقبه وفوضويته الغريبة وجدرانه القديمة وطاولاته الإسمنتية وكؤوس الشاي الأخضر بالنعناع السابح على سطحها و«البيصر» الدافئ الذي يحضَّر في أوان نحاسية قديمة، ويحرص زبائن المقهى على احتسائه بانتشاء، كل ذلك يغري رئتك المرهقة بعد لهاث الصعود في الأزقة، لتمدها أكثر في جنون الأزرق، يحتويها ذلك النسيم المتدلي من الأشجار المبثوثة بتناسق على حواف الطاولات الحجرية الزرقاء، تلك الأشجار تتدلى بهدوء لتصل أغصانها إلى مستوى رأسك وكتفيك، ولعل من الملفت أكثر ذلك النحل الذي يستدير في حلقات رشيقة بأريحية وألفة حول كؤوس الشاي بالنعناع ! (ثمة الكثير من الحكايات التي سُردت هنا على الحافة) تقول أوراق الأشجار المتساقطة في الشاي، ويقول أيضاً طريق النحل المسافر في رحيق الشاي (ثمة الكثير من الذكريات هنا، مازال يسافر رنينها المقلوب في المحيط الأطلسي العميق).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©