السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجمالية أولاً.. وأخيراً

الجمالية أولاً.. وأخيراً
19 يوليو 2012
لا بدّ من الإفضاء بأن ما دفعنا إلى هذه الدراسة المقارنة بين شاعرٍ عربي معروف كعمر أبي ريشة (1908 ـ 1990) في قصيدته “إلى معبد كاجوراء الهندوسي”، وبين شاعرٍ إنجليزي هو جون كيتس (1795 ـ 1821) الذي يعد الأشهر من بين شعراء القرن التاسع عشر في قصيدته “أنشودةٌ إلى أيقونة إغريقية”، هو الوقوف عند الفن الوثني، وماهية الرسائل التي يزجيها هذا الفن إلى التاريخ من بعده، بل إلى العوالم التي تقرؤه وهي ترى فيه عوالم مفتوحةً أيضاً، تنفتح بقدر أدوات القراءة، وتتجاوز الانفتاح النصي إلى التأويل إن قُرئ النص مرتبطاً بتاريخية الأعمال الوثنية الكبرى وأحلامها في الانتقال من طور المباشرة إلى أطوار الانعتاق والتواصل مع أحلام البشر التي لا تقف عند حد. لم تغب عن كيتس في أنشودته التي نحن نتدارسها في هذا المقام قضية رسالة الفن على أنها الحقيقة. الحقيقة كلها، لا حقيقة التاريخ، فالتاريخ كتبه المنتصر، والقوى التي أزاحت القوى المعارضة، ومن هنا لم يكن يمتلك التاريخ ولا المؤرخ الحقيقة، إنما يمتلكها الفن، وتأسيساً على مقولة أرسطو: الشعر أهم من التاريخ، فإن كيتس ارتأى أن تنقطع الأشكال الرخامية الفخارية والحجرية التي أرخت للعالم القديم ـ رغم أهميتها التاريخية ـ لتنوب عنها الأشكال اللغوية، وبالاستتباع الشكل الأرقى، وهو الشعر. ومما نراه رافداً لمحاولة كيتس ما علقته الباحثة الناقدة هيلين بندلر على الشاعر كيتس قائلةً: “الحقيقة هي خاصية عقلنا الواعي”، ذلك العقل الذي يرى مناحي الحياة كلها لكنه لا يتطرف، ثم يتوسط بينها، يتوسط مفاهيمياً، وقد أشارت إلى عقل آدم الذي وعى الحقيقة. حقيقة حواء وهي الجمال، والجمال هنا هو الحقيقة، والحقيقة مستغرقةٌ في هذا الجمال، فلقد حافظت تحفة كيتس الشعرية “الأنشودة” على وعدها وعلى جيل الشاعر وجيلنا. فنياً، بنى كيتس الأنشودة على هيئة الآبوستر، وفي خطاب الوجه للوجه شيءٌ لا يجيب، إنْ حيوانٌ أو جماد، أو أي شخص... فثمة حوارٌ بينه وبين المادة الفنية، إذن الحوار يبدو صامتاً، لكنْ هناك رسالةٌ معلنةٌ بذاتها. ومن الصور التي حملتها الأيقونة ـ كمادةٍ مشخّصة ـ صورة العجل فقد جعلت تلك الصورة الطقس قابلاً للامتداد، كرمزٍ، ولكن غير قابلٍ للاستمرار كفعل، وهذا ما يراه الشعراء... لكن ما يراه المؤرخون والمفكرون أمرٌ مختلف، فقد رأى إنجلس: “أن ما بقي على قيد الحياة بصورة مستقلة من كل الفلسفات السابقة هو علم الفكر وقوانينه، أي المنطق الصوري والجدلية، أما الأشياء الأخرى فقد ذابت في العلم الإيجابي للطبيعة والتاريخ”. أما عند الشاعر كيتس، فما يبقى هو الفن لا التاريخ ولا القوانين. الشعر والفلسفة ولكن لماذا اختلف المفكر الفيلسوف والشاعر المتفلسف؟ رغم أن الخلاف يبدو واضحاً في المنهج إلا أنه لا يثير اختلافاً في النتيجة، والطريقتان في التفكير، هما المادية والمثالية، والمقولتان تلك ازدوجت بهما الثقافة الغربية من أفلاطون وأرسطو إلى هيجل وماركس، وماركس لا ينفصل عن إنجلس، وهذا ما نراه نوعين من الجدل: جدلٌ مادي يشخصه الاقتصادي والفيلسوف، وآخر مثالي يدعو إليه الشاعر والنحّات والموسيقي، وكلاهما ضروريٌّ وتاريخي. وفي المقطع الأخير امتد كيتس إلى خارج الشعر. إلى الأسطورة اليونانية، ورام إعادة الأسطرة، إذ وجد في الأيقونة صورةً لتاريخٍ لا ينبغي أن يأتي عليه الدهر، وقد لا يأتي عليه دهرٌ جغرافي أو زماني أو فكري، ومن هنا أثار فكرة الأبدية، وهي الهمُّ المحموم القائم لدى الإنسان في بحثه عن الخلود والبقاء... ورغم البعد الزمني المعيش. زمن الشاعر عن الأسطورة من حيث هي حنينٌ إلى ما لا يمكن أن يعود أبداً، ولا ينبغي أن يعود، فللتاريخ قوانينه، وللطبيعة قوانينها، وكلاهما لا يقبل في العودة إلى نقطة البدء، إلا أن شعرية كيتس قد جعلت الأسطرة تلك قابلة للتعايش مع كلّ قراءةٍ معاصرة في الأنشودة، رغم كثافة العصر المادية. وهذه الأنشودة حدٌّ جامع بين الأسطورة والملحمة، أما من حيث مقاربتها الأسطورة فهي محاولةٌ لتفسير الظاهرة الطبيعية بكلمات دينية، بل بنظام جملةٍ شعريةٍ مبنيّةٍ على نظام الشعرية الأسطورية، وهي ذات حدثٍ ميتافيزيقي... والميتافيزيق ـ هنا تحديداً ـ ليس الأيقونة وما نُقش عليها أو حفر، وليس كذلك طبيعة الرسوم أو الكتابة، إنما هي عملية القراءة الشعرية. وأما أنها تتاخم الملحمة في سردها للأحداث ـ وليس تضرعاً للمساعدة في إنشاء الأحداث، أو البناء عليها ـ فهي قراءة فردية تبتعد عن طلب الإلهام، لأنها صورةٌ عيانيةٌ ماثلة، وأما أنها استحضارٌ لتاريخٍ حاضرٍ فإنها فعل بشرٍ من العصر الوثني، يقوم بقراءته شاعرٌ من العصر الحديث. عصر الانقلاب على المرجعية اللاهوتية، والانقلاب على العصر الوسيط، واستلهام ما يمكن استلهامه من إنسانية الأدبين: اليوناني والروماني. وأما الملحمة في طورها الشفوي ـ أو البدائية ـ فتقوم على تحطيم حضارةٍ بعينها وإزاحتها من سلّم المرجعيات، أو إلغاء سلطتها الروحية، وبالمقابل إحلال حضارةٍ يمكن لها أن تقوم محلّ الحضارة المزاحة، أي إن الصراع فيها هو جوهر المسألة، كالإلياذة مثلاً، وأما الملحمة في طورها الآخر أي ـ المكتوبة ـ كالإنياد لفرجيل أو فردوس المفقود لملتون فالعمل الملحمي فيها، كغيرها، مزيجٌ بين فعلٍ إنساني وبين عملٍ إلهي هو بالأساس مستعلٍ وعلوي، ومن هنا وبناءً على هذا التأسيس كان الإنجليزي عيزرا باوند يؤكد على أن “الملحمة قصيدةٌ تحتوي التاريخ” أي إنها تؤرخ كما فعلت الإلياذة لعصرٍ ما أو لطورٍ من أطوار التاريخ الفكري للبشر وهم على مدرج الارتقاء. الوظيفة الجمالية ذلك كله يمكن أن يحدث من خلال عملية المتغير والنسبي في المعارف الإيجابية الموافقة التي يوفرها الاستقصاء كظاهرةٍ منهجية، ولقد غادرت الوظائف الاحتياجية للعوالم القديمة الشعر، ليكتشف الشعراء من خلال تعاملهم مع الجدل التاريخي وقراءتهم لجدل الطبيعة وظائف أخرى، أهم تلك الوظائف هي الوظيفة الجمالية، ويعد الأديب والفيلسوف الفرنسي ديني ديدرو (1713 ـ 1784) مؤسساً لعلم الجمال، بعد أن نأى عن تفسيرات أفلاطون الميتافيزيقية، على حسب انعكاس الجمال الأزلي في الأشياء وتفاوتها في حظها من الجمال بمقدار هذا الانعكاس، ودلالة الجمال في الأشياء على مثالية الجمال الخالق، وقد استعرض ديدرو مسألة الجمال واختلاف الناس فيه على حسب عصورهم ودرجات المدنية منذ أقدم عهود الإنسانية، وفي هذا أدرك إدراكاً غير محدد المعالم تأثير العصور الحديثة ودرجات المدنية فيها في إدراك الجمال وتحديد معناه”. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الناقد الروسي تشيرني تشيفسكي (1889 ـ 1828) في أطروحته: “علاقات الفن الجمالية بالواقع” يؤسس لمشروعٍ يقع نقيضاً لما سيعرف في القرن العشرين بمثالية الفن (الفن للفن)، ولقد ميّز الناقد المذكور بين النافع والجميل، لكنه ربط بينهما من حيث إن النافع هو احتياجٌ أولي للبشر، يسبق الاحتياجات الجمالية، وبما أن الإنسان لا يقف عند إشباع الحاجات المادية أو الأساسية، فقد رأى تشيفسكي أن كل جميلٍ متطورٌ من النافع، وأن تاريخ المادية للبشر يذهب بعيداً بالقيمة الجمالية كلما ارتقت حياته المادية، ومن هنا كان يرتب المستويات الجمالية من النافع إلى الجميل إلى الرائع، والرائع عنده هو متفوّق في جنسه، إن كان الجنس قابلاً للارتقاء، ثم وضع الجليل في المرتبة العليا، والجليل هو الحلم البشري في أن يصبح الإنسان إلهاً. وقد تبنى النقد الماركسي في النصف الأول من القرن العشرين آراء تشيفسكي ثم استشاط النقاد السوفييت في نظرية علم الجمال على مستويين: الأول هو الرد على النظرية الجمالية في الآذاب اللاتينية والأنجلوسكسونية، والثاني هو توثيق الروابط بين علم الجمال ونظرية التقدم الاجتماعي ضمن الشروط الاقتصادية للنظرية الماركسية، لكن الناقد المجري جورج لوكاتش (ت 1971) في أطروحته “تحطيم العقل” قد عقلن النظرية الجمالية للواقعية الاشتراكية، وحاول أن يجد طريقاً لها ضمن استقلالية الفن عن الحتميات الاقتصادية والتحولات السياسية، رامياً إلى توسيع آفاق الواقعية الاشتراكية، في سلسلةٍ من الإنجازات المهمة (الرواية التاريخية 1933 ـ دراسات في الواقعية الأوروبية 1950 ـ معنى الواقعية المعاصرة 1957) وكان يرى أن جويس: “لا يقوى على قراءة التاريخ، وأن لديه فشلاً في إدراك الوجود الإنساني في نظرته الساكنة، من حيث هو جزءٌ من مناخٍ تاريخيٍ متحرك”. وعلى الجبهة الأخرى، كان النقد الإنجليزي يعايش النقد الماركسي، فيعترض عليه أو يجافيه أو يتبنى بعضاً منه، لكنه ظل صوتاً متميزاً له خصوصيته في قراءة التاريخ الفني والأدبي، ويعد رامان سلدن رائداً في هذا المجال، فيبدي برأيه حول الأيقونات القديمة: “أما الوظيفة الدينية للأيقونات المسيحية والوظيفة المنزلية للآنية الإغريقية والوظيفة العسكرية للدرع الرومانية فهي وظائف أصبحت ثانوية بالنسبة إلى الوظائف الجمالية الأساسية في الأزمنة الحديثة، وكذلك فإن ما يختاره الناس على أنه “فنٌ جاد أو ثقافة رفيعة” إنما هو أمرٌ خاضعٌ بالمثل للقيم المتغيرة، فموسيقى الجاز كانت فيما مضى موسيقى المواخير والحانات، لقد أصبحت فناً جاداً بالرغم من أصولها الاجتماعية الدنيا، مازالت تثير الخلاف حول قيمتها”. لا يبتعد سلدن كثيراً عن أطروحة تشيفسكي رغم البعد الزمني النسبي بين الناقدين، فالوظائف التي تكلم عنها للأيقونات القديمة تنتهي من حيث قيمتها النفعية عند انتهاء عصرها، واقتناء عصرٍ متقدمٍ عليها، لكن قيمتها ـ كما تصور الشاعر كيتس ـ من حيث دلالاتها الجمالية أي إن الإنسان يرى إلى تاريخه السابق عليه بشيءٍ من الانبهار والحميمية، وهذا ما كان قد أكد عليه الشعر، الشعر الإنجليزي الفيكتوري، وعلى الأخص جون كيتس. طرافة الرومانسية وأما في قصيدة الشاعر العربي عمر أبي ريشة معبد كاجوراء الهندوسي. فإنها قصيدةٌ غنائية على طريقة الشعر العربي المعاصر في طور الإحياء، ولم يكن عمر أبو ريشة إحيائياً بالمعنى المباشر للكلمة، ولم يكن رومانسياً الرومانسية كلها، إنما كان يمتلك لغةً شعرية تتوسط بين طرافة الرومانسية وتماسك الإحياء. وربما كان لدراسته في المملكة المتحدة العلوم الدقيقة أثرٌ كبيرٌ في امتلاكه خصوصيةً في الثقافة، وما يمكن أن يكون فاعلاً عنده في تكوينه الشعري، وقد أردف دراسته في الغرب بالعمل الدبلوماسي كسفيرٍ في الولايات المتحدة والهند، مما جعله يوسع اطلاعه على ثقافة الآخر الغربي التجريبية، والشرقي الأسطوري، وخلال عمله في الهند وجد ما لا يمكن أن يجده في البيئة الصحراوية العربية كمصدرٍ أولي للشعر العربي، ولا يمكن أن يجده أيضاً في البوادي الشامية والعراقية، لكنه كان شديد التعلق بتراثه القومي بجانبيه: الديني والعروبي ، وهذا التعلق كان جلياً واضحاً في معظم ما أنتجه من الشعر حتى في الشعر الوجداني. انبهر أبو ريشة بالمعبد الهندوسي (كاجوراء)، ولم يكن الشاعر الوحيد المنبهر بهذا المعبد، فلقد قرأه الإنجليز والفرنسيون والألمان والروس ودونوا عنه مذكراتهم نثراً وشعراً، لكن اللافت هنا في قصيدة أبي ريشة هو انطباعه كعربي مسلمٍ عن المعبد الوثني الهندوسي، فإذا به منقسماً على ذاته باتجاهين: الأول هو رفضه النفسي والقيمي الأشكال الجنسية المريبة المدونة نحتاً على جدران المعبد، والاتجاه الثاني هو إعجابه بالمعبد على المستوى الفني، وهذا ما سنراه في القصيدة التي لم يستطع من خلالها أن يقدم رسالةً يمكن أن نقول عنها: إنها قراءة الشاعر العربي للعالم الوثني، كما فعل كيتس في الأيقونة اليونانية. إنها قصيدةٌ غنائية خلت أو تكاد تخلو، من الرسالة الجمالية ـ كما أوردنا ـ أو التاريخية، ولن نكون في موقفٍ تعسفي لو ارتأينا أنها لا تحمل فلسفةً خاصةً بالشاعر عن الفن، ولا عن الشعر العربي لو حاول أبو ريشة أن ينوب عنه، وعلى الرغم من أن الشاعر حاول أن يغادر رعوية الشعر الإحيائي، إلا أنه وقع تحت تأثير هيمنة اللغة الإحيائية، واللغة الإحيائية صحراوية المنبع لأنها قامت على فكرة الاستعادة، استعادة الزمن الشعري التأسيسي (من الجاهلية حتى نهاية العصر العباسي الأول) على أنه المرجعية المثلى، وقد أسس هذا المشروع محمود سامي البارودي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو يواجه التركات المتآكلة للعهدين: المملوكي والعثماني، ثم استشاط به شوقي في مصر، والرصافي والزهاوي في العراق، إلى أن وضع بدوي الجبل بوفاته 1981 نهايةً له، بعد أن رسّخ الرواسخ من سلطة المعنى إلى سلطان اللغة، واللغة الإحيائية كلغةٍ شعرية قتلت عند الشاعر العربي الرؤيا الفردية للعالم، خاصةً العوالم الوثنية، وأسهمت في تركز الشاعر العربي حول ذاته وقراءته للتاريخ والحاضر قراءةً حسية، وقد بلغ تأثيرها الشعراء المعاصرين من غير مدرسة الإحياء، فليس من اليسير أن يتخلص الشاعر العربي الحديث من عبء الإحياء؛ لأنه عبء التاريخ السياسي والفكري والديني، وهذه الأعباء بنظر الثقافة العربية مرجعياتٌ مقدسة، وهنا نستثني تجربة الشاعر أدونيس الذي راد الحداثة مؤسساً لمشروع الانقلاب على تلك المرجعيات. فقد أشار الشاعر أبو ريشة في المقطع الأول وهو أربعة عشر بيتاً، إلى مشكلة الخلود، خلود المعبد على مرّ الزمان، لكنه لم يغادر فكرة الخلود. من خلود الحجر إلى خلود الفكر، وعلّة ذلك برأينا أن الشاعر العربي أبا ريشة لم يتمكن من استملاك الثقافة الأسطورية، لأنه وقع تحت تأثيرين: تأثر الموروث العربي، وتأثير المكتسب العلمي من العلوم التجريبية في الغرب، إلا أنه نجح كشاعرٍ في رسم الحراك الحسي للصور المنقوشة على رخام المعبد، ويظهر هذا واضحاً في البيتين الثالث عشر والرابع عشر، وفي المقابل كبح الشاعر الجموح الجنسي الموجود نحتاً على المعبد، نقلها إلى القصيدة بحياء الإنسان المسلم الذي اعتاد ألا يسمي الأشياء مباشرةً، وقد أسس لهذا الذكر الحكيم في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا لامستم النساء فاطهروا)، والذكر الحكيم كان واضحاً عندما استدعيت الضرورة أن يسمي الأشياء بمسمياتها “وانكحوا من النساء ما طاب لكم...” إنهما لغتان: لغة النفع المباشر، ولغة الأداء الجمالي غير المباشر، والشاعر هنا إذ لم يستطع أن ينقل إلى القارئ العربي هذه الإباحية في المعبد كما رآها فعلاً، إنما نقلها انطباعاً خجولاً بلغةٍ شعرية عالية. مشكلات وتصورات الجموح الجنسي والإباحة الجنسية على جدران المعبد تفصح عن مشكلات المجتمع الوثني وعن تصورات العالم الوثني لحلولٍ لتلك المشكلات، فالبغاء المقدس في العالم الوثني كان شكلاً مهماً في الدفاع عن بقاء النوع البشري، إذ كان الفناء يهدد هذا الوجود النوعي، والفناء عوامل الطبيعة، الوحوش المفترسة، الأمراض، الحروب... فكان البغاء المقدس وسيلةً للحفاظ على العدد حتى لا ينقرض النوع البشري، مثل هذه المحاولات في العالم الوثني يجدها الشاعر وغير شاعر اليوم بعيدةً لا يمكن الاقتناع بها بسهولة، ولذلك وجدنا الشاعر لا يواجه المسألة مباشرةً إنما نقلها إلى القصيدة بالمداورة والالتفاف من دون أن يواجهها كحالٍ نطق بها التاريخ، وما تزال الرسوم تلك على جدران المعبد تنطق بذلك التاريخ طالما هي قائمة، وطالما أن الشاعر العربي لم يقدم الرسالة الحقيقية عن المعبد، فإنه لم يؤرخ له ولم يخلده لو أصاب المعبد عاملٌ من عوامل الفناء، إذاً نحن أمام صورة للوحتين: الأولى لوحة المعبد العيانية، وهي تبدو غير سليمة الانتقال كصورة إلى القصيدة، واللوحة الثاني هي القصيدة والثانية ليست أمينة على التاريخ الوثني ولا على المعبد، وبالاستتباع نحن أمام حراك الإنسان الوثني في دفاعه عن وجده، ونحن أمام سكونية الشاعر العربي كقارئٍ للمدونات تلك، وهنا نستذكر صور الجنس المكيوت التي تتراءى عند DH لورانس “نكران أحقية الجنس”، إنما هي ـ قصيدة أبي ريشة ـ أمينةٌ على انطباعات الشعر، والانطباعات لا تكون تاريخاً، أو تروي عن حدثٍ تاريخي. لم يكن في القسم الأول من القصيدة سوى الانطباعات لشاعرٍ مندهشٍ بعالمٍ لا ينتمي إليه، منبهرٍ بما رأى سلباً من حيث قناعاته الدينية وتربيته الشرقية وثراؤه اللغوي المنقطع عن غيره، القابعة خلف القصيدة، بعالمٍ يغترب عنه كلما ازداد له مقاربةً، ويفصله عنه أيضاً فواصل اللغة كما فواصل العقيدة، فلغة الرسوم الوثنية والمنحوتات الأسطورية بعيدة المتناول عن الشاعر العربي وهو متركزٌ حول ذاته التاريخية، ومن الغريب أن أبا ريشة قارب العلم التجريبي (الكيمياء)، إلا أنه لم يتملك ثقافة الغرب العلماني، ولم يتاخم أطوارها في الشعر ولا في الفلسفة ولا في العلوم الدقيقة، وبغياب هذا وذاك غاب عن العوالم الغربية التي كانت يمكن له أن يوظفها في قراءة العوالم الوثنية، ومما ساهم في تغييبه عن الدخول إلى العوالم الداخلية إلى تلك اللوحات هو غياب الفلسفة الفردية للشاعر. والشاعر هو نفسه لا يملك إلا فلسفة غيره، وغيره هو تاريخه المنبهر به. وفي القسم الثاني من القصيدة من البيت الخامس عشر إلى البيت الخامس والأربعين دخل الشاعر في الجزئيات والتفاصيل التي تناظر جزئيات اللوحات الرخامية وتفاصيلها متاخمةً ظاهرية. أي صورةٌ حسيةٌ تقابلها صورة لغوية، من دون تأويلٍ أو إعادة قراءة، وكأن القصيدة. إنما هي خلعٌ لمفاهيم الشعر العربي الذكورية على المعبد، ويظهر هذا في البيت الثلاثين، لكنه في البيت الذي يليه ربط بين الجسد الأنثوي وبين دورة الطبيعة، فدورة الطبيعة ينتج عنها الحياة الحية التي تسمح للبشر بحياةٍ قابلةٍ للارتقاء عليها، والجسد الأنثوي جسدٌ معقد كما الطبيعة، هو المسؤول عن استمرار النوع البشري، لكن الجسد الغائب اسماً وماثلٌ ضمناً هو القصيدة قصيدة الشاعر أبي ريشة التي لم تستطع أن تكون جسداً غير حسّي، على عكس الشاعر الإنجليزي كيتس الذي جعل من قصيدته جسداً حياً مؤرخاً. ورغم إطالته في الوصف والسرد وتتابع الصور الجنسية العديدة إلا أنه لم يقو على الخروج من ربقة النص الرخامي المهيمن على النص الشعري، أي إنه ظل يقع خارج الظاهرة، فلم يكن بقـــادرٍ على الانتقال من تراكم الجزئيات إلى ترتيبها ترتيباً احتمالياً. من خلاله تقوى القصيدة على التأويل، ولا آخر منطقياً يقوى على توليد الفكرة مع الحركات تصاعدياً، ويبني من خلال الترتيبين الوحدة العضوية للقصيدة، إنما ظلت اللوحة الرخامية ظاهرةً تدهشه، ولكنها لا تثير حدسه التاريخي. وفي القسم الثالث من البيت السادس والأربعين إلى الواحد الخمسين، خصص الشاعر الأبيات لصورة النشوة الجنسية التي تحملها صورة الحراك الذكورية على المعبد، وقد رأى أن الحراك الذكوري ليس حراكاً ذاتياً، إنما هو استجابة لمؤثر الإثارة الأنثوي، على أنه أفعل في الصورة من الفعل الذكوري، ورغم إدراك أبي ريشة لهذه الصورة. ورغم تصويره لها بدقة إلا أنه لم يستطع أن يعيد صورتي الحراك: الذكوري والأنثوي إلى مصدرهما في الطبيعة، وإلى مسوّغ وجود اللوحات الرخامية على جدران المعبد، باختصار.... حضر أمامه الفن الجمالي حسياً وغاب عنه التاريخ الثقافي وثنياً. وفي القسم الرابع أي من البيت الثاني والخمسين إلى السابع والخمسين يقع الشاعر تحت هيمنة الذاكرة البعيدة، ونعني معلقة امرئ القيس ت 565 في جانبها الإباحي، ونقول إباحي على المجاز، إذا ما قسناها بلوحات المعبد، إنما المسألة هي مغامرة شاعرٍ فردي مغامرةً فردية، والقصيدة معروفة بالذهنية العربية، والمسافة بين حديث امرئ القيس عن النساء اللاتي قاربهن وبين حديث اللوحات الرخامية عن الإباحية الجنسية مسافةٌ تقع بين مؤسسةٍ وبين فرد، بين عصرٍ حصر همه في الحفاظ على النوع، وبين فردٍ شاعرٍ حصر همه في المتعة على مستويين: المتعة الجنسية، والمتعة السياسية التي رامها فيما بعد. ويوم دخلت الخدر خدر عنيــزةٍ فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وأرخي زمامه ولا تبعديني من جناك المعلل فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعٍ فألهيتها عن ذي تمائم محول ومما توحي به القصيدة في هذا المقطع أن الشاعر أبا ريشة نسي عامل المكان لحظة ولادة القصيدة، نسي أنه أمام المعبد الهندوسي، فحضرت صورة المعلقة بما تحمله من مكان وزمان، والفارق بين المعلقة الجاهلية والمعبد الوثني فارقٌ بين حقبتين مختلفتين كما أوحينا، فالعصر الجاهلي ـ كما أُطلق عليه ـ عصرٌ محدود الجغرافيا والزمان، والمغامرة الفردية كانت قائمةً من دون أن يغادر الشاعر عصره، أي هو منتمٍ إليه بقوة الجذب الكتلي للفرد، نستثني من ذلك الشعراء الصعاليك، إذ حققوا فكرة اللامنتمي في طورٍ باكر من أطوار الشعر العربي، وأما مغامرة امرئ القيس فهي مغامرة أميرٍ محليٍّ مترفٍ حكى فيها عن شبابٍ متوثب عاش مع الأنوثة من موقع الاستعلاء الذكوري تجربة خاصة، وما كان لمغامرته أية قيمة تاريخية لولا أنه أثبتها في الشطر الثاني من حياته، نعني بذلك رحلته من الجزيرة عبر الشام إلى القيصر الروماني، متجاوزاً الجغرافيا العربية أو الجغرافيا المعهودة إلى جغرافيةٍ سياسية بغية تحقيق ملكٍ سياسي أو استعادته، كما زعم. بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فلما بدت حوران و الآل دونها نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©