الإثنين 6 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جورج تراكل.. شمس الشعر السوداء

جورج تراكل.. شمس الشعر السوداء
18 أكتوبر 2018 02:12

بقلم: الشاعر لوران مارغنتان

ترجمة: أحمد حميدة

كشاعر للبحيرات المكتئبة والانحدارات والتجاوزات، يعد جورج تراكل من أكثر الشعراء المعاصرين إرباكا وأشدهم إزعاجا، غريبة هي دروبه الليلية، وغريب هو بالنسبة لجميع من عرفوه، مفجع هو شعره، ساطعة ومنحرفة هي كتابته.
«من يكون هذا الرجل يا ترى؟» هكذا تساءل ريلكه عقب وفاة تراكل. وكان تراكل وهو يتحدث عن هويته تلك يقول بوضوح: «أنا نصف مولود وإنني لميت تماما».
قد تقتل الأجوبة الكثيرة الإجابة، وبالتالي فنحن بالكاد نستطيع الاقتراب ولو قليلا من هذا الشاعر، متجنبين جوانبه المعقدة، تصوره الذاتي للدين.
متحدر من حطام أوروبا النمساوية المجرية المتحللة، ومن العدمية البرلينية الشرسة، ظهر إلى الوجود شعر أسود ومتجمد: الشعر التعبيري الناطق بالألمانية. مستشعراً الصخب المرعب «للحرب/‏ المجزرة» التي كانت تزحف في أروقة العقول، فإن جيلا بأكمله من رسامين وكتّاب، سيطلق صرخة مدوية قبل أن يتوارى مطحونا أمام الغباء المجلط لكراهية معممة. وقد يكون تراكل قبل رحيله قد نقل ونشر علامات الزمن الغسقي هذا، غسق الغرب.. الميتافيزيقي. و»الغرب» يشكل فضلا عن ذلك أجمل كتاباته.
ولد تراكل في سالسبورغ يوم 3 فبراير 1887 وتوفي في 3 نوفمبر 1914، في سن لم تتجاوز السابعة والعشرين.
آثر العمل كصيدلي في الجيش حتى يكون أكثر قربا من مواده المخدرة، وحضوره كشاهد عيان لمجزرة غروديك ما بين 6 و11 سبتمبر 1914، خلّف شرخا بليغا في أعماقه، شرخ دفعه إلى محاولة أولى للانتحار، علّه يتخلص مما رسب في أعماقه من صور مرعبة للأجساد الممزقة والمتشظية، وصور أولئك الراقدين ذوي الوجوه الكالحة.. المهشمة.
مات تراكل إثر تناوله كمية مفرطة من مادة الكوكايين ليلة 3 سبتمبر 1914 بمستشفى للأمراض العقلية بمدينة كراكوفي، ولكن أيضا جراء الكمية المفرطة للدم المسفوح والمراق من حوله. إنه يبقى دون شك أبرز وأهم أولئك الضحايا، الذين أمعنوا عبر حقول الرعب، التحدث عن الجمال.
ولم يكن أحد ليعرف شعره وكتاباته المسرحية لولا المخْلِص له، ناشر أعماله فيكر. ومذاك غدا تراكل الشمس السوداء للشعر الألماني. وقد أعيدت رفاته إلى النمسا قرب إينسبروك، غير بعيد عن فيينا التي كان يمقت، وذلك سنة 1925. لقد أصبح تراكل الصوت المأساوي في الشعر الغنائي القريب من نوفاليس، بصيغ قد تبدو مطمئنة اعتماده السونينات والرباعيات ولكنها صيغ من الكتابة الشعرية كانت تولد حالات من الإرباك.
كانت المدن تتبدى أمامه باردة ومقرفة، تفوح منها رائحة موت وشيك، ذلك الموت الذي كان يستشعره في تحلل وتفسخ الغرب من حوله. وستعرف تلك الصرخة المطلقة حد الموت نفسها، في تيار الرمزية الألمانية الذي كان تراكل أبرز أعلامه.
عرف تراكل كيف يكون باهراً، شهابي المرور، مشرقاً ومضيئاً، وعرف خاصة كيف يكون غسقي العبور. وقراءته بقدر ما تثير المخاوف، فإنها تبهر، والفلاسفة كعلماء النفس (لاكان، لوكاش، ديريدا وخاصة هيدغر الذي أسهب في الكتابة عن التحلل الشعري في كتابة تراكل) أفاضوا في دراسته. كما أن موسيقيين كثر وضعوا تآليف موسيقية لأشعاره (فيبرن، بوكوراشلياف..).
ستتهشم مُثلُ تراكل في الوحل وتحت وابل من الرصاص، وسيختلط في شعره الخواء بدفق غنائي باهر. وقد عرف كيف يطلق الصيحة قبل أن يتوارى عن الأنظار. وتحذيره من « التيه عبر صحاري الأرض المنتهبة» يمكث بيننا ولا يزال حاضرا.
لقد عبر تراكل الحياة منغمسا في الأوبيوم والكوكايين والكلوروفورم، ملتهما الصور والصمت.. صمت بُني اللون.. وكأنه كان يحمل بين جنبيه قدر الذبيحة، فعاش ليكفّر بكلماته آلام العالم وخطيئته. وقد يكون مر محتشدا بحزن لا قرار له، كغريق يقظ يبدي إمعانه في الغرق. وعلى درب الألم يمنح تراكل صوتا للألم، ولكنه كان يدرك في صفائه الغريب أنه «في حين أطرق بهدوء هذا الدرب، أشعر بحب لا نهائي يرافقني».
مسكونا بالبراءة والمعصية المرعبة، مقطّع الأوصال بين شغفه بشقيقته وتدمير نفسه بسم المخدرات، فإن تراكل يبقى رغم ذلك شيئاً آخر غير كونه شاعرا ملعونا وزنديقا، إنه أشبه ما يكون بمشّاء النوم في الحياة، الذي يحاول إيجاد توازن ما بين الموت والروح، والرعب الصموت يبقى جاثما.. مترصدا في أبياته الشعرية.
ولكن من هو تراكل؟ وما حقيقته اليوم؟
عوض أن نرد على هذا التساؤل لريلكه الذي كان منبهرا بتراكل قدر انزعاجه منه، لندع نصوص تراكل تجيب، ولنسرع في قراءته، لا لنظفر بأجوبة مجتثة من الأرض الضاجة بجثث البشر، ولكن لنظفر ببعض الشرارات، بذلك القبس من المحبة الذي لا يزال يضيء بداخلنا.


غروديك*
عند المساء تدوي غابات الخريف بأصوات أسلحة الموت، حقول ذهبية، برك زرقاء، ومن فوق، شمس ممعنة في التجهم... تحوم! يطبق الليل على جنود يحتضرون، من أفواههم المهشمة ينبعث عويل وحشي. على مهل، تتراكم في وهدة المرج سحابة حمراء، هناك حيث أضحى يقيم رب غاضب، دم مسفوح.. وقمر بارد.. كل الطرقات تنتهي إلى عفونة سوداء، تحت الأغصان الذهبية لليل والنجوم، يترنح خيال أخت راهبة عبرت الغابة الصموت، للانحناء أمام أرواح الأبطال ورؤوسهم المدماة. وبأنفاس وئيدة، تتردد في الأغصان، أصداء أصوات المزامير الكئيبة للخريف. آه منك.. أيها الحزن المتشامخ! وأنت.. أيتها المذابح البرونزية! شعلة الروح المتقدة باتت تغذي هذه الليلة المحتدمة.. حزنا لا يطاق، وبكي ذرية لن يكتب لها أن ترى النور في الآفاق.

* مدينة بولندية. يقال بأن هذه الكلمات هي آخر قصيدة كتبها جورج تراكل قبل أن يسقط صريعا بجرعة مفرطة من مادة مخدرة سنة 1914.
شكوى
سُكون وموت، نسور ليلية مشؤومة تدق بلا هوادة رأسي الموجوعة:
الصورة المشرقة للإنسان باتت غريقة في غيهب النسيان، وعلى الصخور الخشنة.. المروعة يتشظى أرجوان الأجساد، والصوت المشروخ.. الكئيب يرسل الشكوى، متفجعة فوق بحر الآباد. أختاه.. يا من أضحيت مجتاحة بهدير العواصف، أنظري كيف يغرق مركب الرعب تحت النجوم في حضرة الوجه الصموت لليل الحزين..

مزمور
ثمة نور أطفأته الريح.
ثمة حانة في أرض مستنقع يغادرها ذات ظهيرة رجل سكران.
ثمة كرمة محترقة ومسودة، تجاويفها مليئة بالعناكب.
ثمة مكان طليت جدرانه بالحليب.
لقد مات المجنون. ثمة جزيرة في بحار الجنوب
لاستقبال ملك الشمس. تقرع الطبول. يؤدي الرجال رقصات الحرب.
وحين يغني البحر، تتأرجح النسوة في حبال من نباتات متسلقة وأزهار نارية. آه لفردوسنا المفقود.

ثمة غرف طافحة بالسوناتات والتناغم.
ثمة ظلال تتعانق أمام مرآة عمياء.
عند نافذة المشفى يتدفأ المتعافون.
باخرة بيضاء تحمل أوبئة دموية عبر القناة.

الأخت الغريبة تبرز من جديد في كواليس أحدهم.
مدفونة في مدغلة البندق، تلعب مع ظلالها.
الطالب، أو ربما صنوه، يحدق فيها طويلا من النافذة.
وراءه يقف شقيقه الميت، وهو يندفع هابطا السلم الدائري القديم.

في عتمة أشجار الكستناء البنية، يتوارى خيال الشاب المبتدئ.
الحديقة يغشاها المساء. في رواق الدير، تتراقص الخفافيش في الأجواء.
أطفال حراس المباني يتوقفون عن اللعب وينشدون الذهب في السماء.
الأنغام الأخيرة لجوقة رباعية. الفتاة العمياء الصغيرة، تعدو مرتجفة في الأروقة المشجرة.
بعدها بقليل، ها هو ظلها يتلمس الجدران الباردة، محفوفة بالحكايات والأساطير المقدسة.

ثمة سفينة خالية من الركاب تعبر مساء القناة المظلمة.
في عتمة الملجأ القديم، تتداعى خرائب بشرية.
الموتى الأيتام يرقدون عند سور الحديقة.
من الغرف الرمادية تخرج ملائكة، أجنحتها ملطخة بالقاذورات.
من أجفانها المصفرة يتساقط الدود.
الساحة التي أمام الكنيسة، مظلمة وساكنة، كما في أيام الطفولة.
بخفاف فضية تتزحلق حيوات سابقة، وظلال الملعونين تنزل في المياه المتنهدة.
في قبره يلاعب الساحر الأبيض أفاعيه.
بصمت تنفتح أعين الرب الذهبية على ركام الجماجم..
 
تحولات الشر
خريف: خطوٌ كئيب عند حافة الغابة، برهة لدمار أخرس، جبهة المجذوم على قيد الترصد تحت شجرة جرداء، مساء مضى منذ أمد بعيد، ويتداعى الآن على طبقات الطحالب.
نوفمبر: قرع جرس، ويقود الراعي قطيعا من خيول سوداء وحمراء إلى القرية. تحت شجرة البندق، صيّاد أخضر يسلخ طريدة. يداه ترشحان بالدم، وخيال الطريدة يئن في ركام الأوراق، فوق عينا الرجل البنيتين والخرساء.
الغابة: غربان تتفرق، إنها ثلاثة. طيرانها شبيه بسوناتة، ملؤها نغمات شاحبة وأشجان ذكورية. غيمة ذهبية تتحلل في صمت. بالقرب من الطاحونة، يوقد الصبية نارا. شقيق أكثرهم شحوبا.. شعلة، يضحك وهو متواري في شعره الأصهب، لعله مكان الجريمة، الذي يجاوره مسلك صخري. شجرة الباربريس اختفت، طوال السنة وهي تحلم بالهواء الرصاصي، في ظل شجرة الصنوبر. رعب، عتمة خضراء. صدى بقبقة رجل يغرق. من غدير النجوم، يسحب الصياد سمكة كبيرة سوداء، ووجهه يقطر قسوة وهياجا.
أصوات قصب لرجال يتشاجرون من وراء ظهره، فيلقي نفسه في زورق أحمر، عبر المياه المتجمدة للخريف، وهو الذي يعيش في الأساطير الداكنة لسلالته، بأعين حجرية مفتوحة على ليال وحالات رعب بكر. الشر.
ما الذي يلزمك الوقوف صامتا على الأدراج المنهارة لبيت آبائك؟ سواد رصاصي. ما الذي ترفعه إلى عينيك بيدك الذهبية، حتى يغرق جفناك وكأنهما ثملان بنبات الخشخاش. ولكنك عبر الجدران الحجرية، ترى السماء المليئة بالنجوم، درب التبانة وزحل. الشجرة الجرداء تقرع بغل الجدار الحجري. أنت على أدراج منهارة: شجرة، نجمة، حجر.. أنت وحش أزرق يرتجف في صمت، أنت الكاهن الشاحب الذي ينحره على المذبح الأسود. آه من ابتسامتك في الظلمة، تلك الابتسامة الحزينة والشرسة، التي قد يصفّر لها الطفل في أحلامه. شعلة حمراء نطّت من يدك، فاحترقت في لهيبها فراشة الليل. آه من مزمار النور.. آه من مزمار الموت.. ماالذي يلزمك الوقوف صامتا على الأدراج المنهارة لبيت آبائك. في الأسفل، يطرق الباب ملاك بإصبع من بلور. آه من جحيم النوم، زقاق مظلم وحديقة سمراء. في المساء الأزرق يسمع رنين خافت لوجه الميتة. حوله ترفرف أزاهير خضراء، وقد غادرها وجهها، أو لعله ينحني وهو مصفر، على الجبين البارد للقاتل، في عتمة الرواق.
تعبدٌ: الشعلة الأرجوانية للرغبة. محتضرا، سقط النائم في الظلمة من على الأدراج السوداء. لقد غادرك أحدهم عند مفترق الطرق. ها أنت تطاول النظر وراءك. خطى فضية في ظل شجرة التفاح المشلولة. تلتمع الثمار، قرمزية، في الأغصان السوداء، وعلى العشب تسلخ الحية جلدها. آه من الظلمة، والعرق الذي يتصبب على الجبين المتجمد والأحلام الحزينة في الخمرة، في خان القرية، تحت أعمدة السقف، المسودة بالدخان. أنت، تلك الأرض الغفل، التي تحول الدخان الأسمر للتبغ إلى جزر وردية، وتستمد من غيهب الباطن صرخة تنين هائج، حين يصطاد قرب الرؤوس الصخرية السوداء في عرض البحر، وسط العواصف والجليد. أنت، المعدن الأخضر الذي يتوسطه وجه متقد، ينشد المضي هازجا للأزمنة الداكنة لتلة العظام وللسقوط المتأجج للملاك. آه من اليأس الذي يسقط جاثيا مطلقا صرخة خرساء.
رجل ميت يأتي لزيارتك. من القلب يسيل الدم الذي كان قد أراقه، وفي الحاجب الأسود تعشش برهة من اللامقول:
ياله من لقاء قاتم. أنت قمر قرمزي، فيما يتبدى هو في الظل الأخضر لشجرة الزيتون. بعده، يطل ليل أبدي.
 
مشّاء نوم الحلم
=أين أنت، يا من كنت ترافقني؟ أين أنت، أيها الوجه السماوي؟ في أذني، ريح مبحوحة تهزأ مني: يا لك من مجنون! حلم! حلم! يا لك من شقي! ولكن، كيف كنت قبل أن ألج الليل والوحشة؟ فهل تذكر ذلك أيها الشقي؟ أيتها الريح المبحوحة ويا صدى روحي: أيتها المجنونة! أيتها الشقية! ألم تكن يداي تتضرع هناك، وفمي المطوقة بابتسامة كئيبة، تنادي في الليل وفي الوحشة؟ فمن تراها كانت تنادي؟ أو تجهل ذلك؟ قد نظن بأنه الحب، ولكن لا رجع لصدى هذه الكلمة تناهى إلى سمعي. هل كان ذلك حبا؟ تعسا لي لقد نسيت! وأنا وحيد في الليل وفي الوحشة والريح.. صدى روحي تهزأ مني مرددة: يا لك من مجنون!

النشيد العميق
لقد غدوت طليقا من أسر الليل السحيق. من وراء المكان والزمان غدت روحي تنشد الدهشة في رحاب بحر الخلود. حيث، لا نهار ولا سرور، لا ليل ولا عذاب وإنما سحر خفي سار لنشيد بحر الآباد. ومذ غشيتني ذبذبات ذلك النشيد الأرتوارى بداخلي الإحساس بالسرور والعذاب.
في سكينة الظلال البنية، يلوذ الشيوخ بالصمت وبعفوية يتعانقون. نشيد اليتامى البالغ النعومة يرتفع احتفاء بصلاة المساء. طنين الذباب يسمع في أبخرة صفراء.
عند الجدول تمكث النسوة لغسل الثياب. الغسيل الممدد يتماوج. البنت التي طالما عشقتها تعود عبر معاناة المساء.
من فوق السماء الفاترة تسقط عصافير في ثقب متفسخة خضراء لحواس المتلهف، سراب شافٍ رائحة خبز ونكهة مريرة تصاعد في الأجواء.

خريف المستوحد
الخريف الكئيب يستوطن، طافحا بالثمار والوفرة، إشراقة مصفرة لأيام الصيف الرائعة. أزرق صاف ينبثق من قشرة ذابلة، يحمل تحليق الطير أصداء أساطير غابرة. تُعصر الخمرة، والهدوء الناعم يرسل أجوبة خافتة لأسئلة مستعصية.
وهنا وهناك، صليب ينتصب على التلة الموحشة، في الغابة الصهباء، قطيع يتوارى. فوق مرآة البركة، غيمة مهاجرة، بحركات وئيدة يخلد المزارع إلى السكون. على مهل، يلامس الجناح الأزرق للمساء سقفا من تبن يابس والأرض السوداء.
قريبا، سوف تعشش في أجفان الرجل.. المرهق، نجوم السماء، أمر أخرس يتنزل في الحجرات المجمدة، ودون ضجيج، تخرج ملائكة من الأعين الزرقاء للعشاق، لتخفف الألم وتذهب وحشة البلاء. القصبة تهمس، هجمة مباغتة، لمخاوف شاحبة، حين يتقاطر السقيط، أسودا، من على أشجار الصفصاف العارية.

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©