الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهواء أبرز ضحايا حرائق الغابات بعد البشر والشجر

الهواء أبرز ضحايا حرائق الغابات بعد البشر والشجر
15 يوليو 2012
وصف علماءُ بيئة الحرائقَ الهائلة التي أتت على عشرات الآلاف من الهكتارات في مختلف الدول في السنتين الماضيتين بأنها الأسوأ من نوعها منذ عقود. كما اعتبروا أن الحريق الذي اندلع مؤخراً في غابات بعض الولايات الغربية في أميركا لم يكتف بإحالة مساحات خضراء شاسعة إلى خرائب سوداء، وإنما تسبب في إلحاق أضرار بالغة بالبيئة المحيطة. فجودة الماء على سبيل المثال تضررت على بعد أكثر من 160 كيلومتراً من موقع الحريق. وعلى الرغم من أن حرائق الغابات تندلع في كثير من الأحيان لوحدها، ودون أن يكون وراء اندلاعها فعل فاعل، فإن الحرائق الأخيرة في أميركا وأوروبا كانت ضخمةً ومهولةً، ولا يمكن أمامها تبرئة البشر منها، فلهم نصيب من المسؤولية عما حدث ومازال يحدث. يقول سكون أندرسون، أستاذ علوم البيئة في جامعة “نورثرن أريزونا” في مدينة فلاجستاف، “الحرائق الروتينية يسهل التكيف معها، أما الحرائق الكارثية، فلم تكن مألوفةً بالأمس القريب، لكنها أصبحت في السنوات الأخيرة تحدث مراراً وتكراراً وبشكل منتظم. وبدلاً من حرقها لحاء الأشجار وأوراقها، أضحت تلتهم أشجار ضخمةً وباسقةً، فتقتلها كلياً وتأتي على أخضرها ويابسها”. وفي الوقت الذي يتباين فيه عدد الحرائق الطبيعية للغابات حسب الفترات والحقب الزمنية، فإن التاريخ يُسجل أن وصول المستوطنين الأوروبيين إلى الغرب جلب معه تغيراً في العلاقة بين الحرائق والمنظومة البيئية. الاستيطان البشري في دراسة حديثة نُشرت هذه السنة، قامت عالمة البيئة والمستحاثات البروفسور جينيفر مارلون بإنشاء سجل شامل ومتكامل عن الحرائق الموثقة التي شهدتها المناطق الواقعة غرب الولايات المتحدة الأميركية خلال ثلاثة آلاف سنة الماضية، فوجدت أن جفاف الجو وسخونته كان ولا يزال يؤدي إلى زيادة عدد حرائق الغابات، بينما يُسهم الجو البارد والرطب في كبح الحرائق. وتقول جينيفر إن الحرائق كانت على أشدها خلال القرون الوسطى بسبب الجو الدافئ الذي كان يسود هذه المناطق. وخلال الفترة ما بين 1500 و1800 والتي يصفها الباحثون بكونها “عصراً جليدياً صغيراً” نظراً لما شهدته الأرض من انخفاض مفاجئ في درجة الحرارة في نصفها الشمالي، كانت الحرائق منخفضةً إلى أدنى مستوياتها. لكن هذه العلاقة الحدسية التي دامت قرابة ثلاث ألفيات اشتدت أكثر فأكثر منذ نحو 150 سنةً. وإذا تصفحنا سجلات الاستيطان البشري للأرض عبر التاريخ، نجد أن وصول المستوطنين بأعداد كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر أدى إلى زيادة عدد الحرائق بشكل مهول في الغرب، إذ كانت الحرائق تندلع أكثر مما هو متوقع قياساً مع الظروف الجوية. وكان المستوطنون الأوائل يشعلون النيران خارج مخيماتهم للتدفئة، ويحرقون بعض الأراضي لتنقيتها من الأشجار وجعلها قابلةً للحرث والزراعة. وكانت الشرارات التي تطلقها القطارات لاحقاً تتسبب في عدد لا حصر له من الحرائق. وبعد ذلك، أصبحت للنشاط الإنساني آثار عكسية وقلت الحرائق وانحسرت. وأدت عمليات قطع الأشجار والتغيرات التي طرأت على كيفية استخدام الأرض إلى الحد من الوقود. فكانت النتيجة أن حدثت بضعة حرائق كثيفة مهولة، بما فيها حريق غابة “بشتيجو” سنة 1871 الذي أردى ما بين 1200 إلى 2400 شخص في ولايتي ويسكونسين وميشيجان، وبث الرعب في قلوب من نجا من المستوطنين. حقبة جديدة كرد فعل حُيال تزايُد حرائق الغابات وضحاياها من البشر والشجر، قرر الأميركيون التأسيس لحقبة جديدة في التعامل مع هذه الحرائق، وذلك بوضع آليات لكبحها والتصدي لها عند نشوبها. لكن تطوير البنيات التحتية كالسكك الحديدية تطلب منهم اقتلاع الأشجار التي تحيط بهذه السكك على بعد 100 قدم من مسارها. كما عمدت الحكومة الأميركية إلى تشييد أبراج عالية لمراقبة الغابات والتمكن من رصد أي حريق قد ينشب مبكراً للتصدي له وتقليل الخسائر والضحايا. وبعد ظهور آلات جديدة وولوج العالم عصر التقدم الصناعي بوتيرة متسارعة، قرر الأميركيون الاستعانةَ بالطائرات لإطفاء الحرائق وجعلها تنحسر في أي منطقة نشبت بها. ولا بُد من القول إنه منذ أن اكتشف الإنسان النار وتعلم استخدامها قبل مئات الآلاف من السنين، لم يكن البشر يربطون قط ما بين تكرر الحرائق والتغيرات المناخية، فهذا الربط لم يظهر إلا مؤخراً، لكنه سُرعان ما أصبح تحصيل حاصل أمام ذاك السيل من الحقائق العلمية الذي أتى به علماء البيئة من خلال البحوث التي أجروها حول آثار الاحتباس الحراري على المنظومة البيئية لكوكبنا الأزرق. «عجز ناري» بالرغم من أن القرن العشرين اتسم نسبياً بطقس دافئ وجاف نسبياً، فإن دراسة مارلون تُظهر أنه وإلى أن اقترب القرن من نهايته، انخفض نشاط حرائق الغابات إلى مستويات مماثلة لما كان عليه الحال خلال فترة العصر الجليدي الصغير (الفترة الزمنية الممتدة من بداية القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر). ونتيجةً لذلك، تعاني الولايات الأميركية الغربية الآن مما تصطلح عليه مارلون “العجز الناري”. وتشرح مارلون هذا المصطلح بالقول “إن العجز الناري هو تلك الفجوة الواقعة ما بين ما تتوقعه من حرائق بالنظر إلى المستويات الحالية من الجفاف ودرجات الحرارة من جهة، وحجم الحرائق التي تندلع فعلاً في الغابات من جهة أخرى”. وقد أدى العجز الناري للقرن العشرين إلى وضع إيكولوجي بالغ التعقيد للقرن الحادي والعشرين. ومن ذلك كثرة الشجيرات والأدغال الكثيفة، وتراكم الأوراق والأغصان، أو ما يسميه خبراء الحرائق “وقود الغابات” الذي يُمْكنه تحويل شعلة نارية صغيرة إلى حريق مشتعل ضخم لا يُبقي ولا يذر. ومن شأن ارتفاع درجات الحرارة وتحولات الطقس والأحوال الجوية غير المتوقعة الناجمة عن التغير المناخي أن تؤدي إلى استفحال المشكلة. فالحرائق الكبرى تكون لها دوماً عواقب كبرى، خصوصاً بالنسبة لجودة الهواء. وقد أدت سلسلة حرائق الغابات التي اندلعت في كندا على سبيل المثال إلى نشوء جزيئات ضخمة من أحادي أوكسيد الكربون انتشرت على نطاق واسع، وامتدت جنوباً لتصل إلى بوسطن ونيويورك وواشنطن. وتسببت حرائق الغابات التي شهدتها كاليفورنيا سنة 2003 بدورها في انتشار أحادي أوكسيد الكربون وأحادي أكسيد ثنائي النيتروجين. وأصبح الكثير من الخبراء الآن يشككون في مدى نجاعة النصيحة المعهودة التي تقدمها السلطات للسكان عند نشوب الحرائق “الزموا الأماكن المغلقة” بعد أن تبين أن هذه الحرائق تسببت في تلوث الهواء خارج المنازل وداخلها على حد سواء. ومن الآثار السلبية الأخرى على البيئة أن حرائق الغابات ينجم عنها إطلاق كميات كبيرة من الرواسب تصُب في الوديان والأنهار والتيارات المائية على نطاق محيطي واسع يصل إلى أكثر من 160 كيلومتراً من موقع حدوث الحريق. ومن المعلوم طبعاً أن هذه الرواسب يمكنها أن تتسبب في انسداد الصهاريج وخزانات المياه والتأثير سلباً على جودة الماء وتلويث قنوات مياه الشرب. تداعيات ضخمة في حالات الحرائق الشديدة، والتي أصبحت تتكرر أكثر فأكثر كل سنة، يُطالَب المسؤولون الفيدراليون المعنيون بإطفاء حرائق الغابات بإنقاذ الأرواح، بالإضافة إلى الأنواع الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض. ويكون للعجز الناري في هذا السياق تداعيات عدة على التغير المناخي. فجميع الشجيرات والأدغال والأخشاب والأعشاب والأوراق في غابات شمال أميركا تغدو بمثابة مرافق ضخمة لتخزين الكربون. ورغم أن دورات “الحريق ثم النمو” العادية تكون خاليةً من الكربون، فإن تراكم وقود الغابات لمدة قرن من الزمان من شأنه التسبب في إطلاق كميات ضخمة من ثنائي أوكسيد الكربون في الجو. ومن المفارقات أنه توجد إيجابية واحدة لتراكم وقود الغابات، وهي أنه يسمح للنباتات المحلية بالنمو أطول وأكثر سماكةً، ويمنع ضوء الشمس عن الأنواع المتعطشة للضوء. ويؤدي تساقط أغصان الأشجار وأوراق النباتات المحلية أيضاً إلى كبح نمو حشائش الأرض. ونتيجةً لذلك، فإن الغابات الغربية تنجح أكثر في مقاومة غزو النباتات المجتاحة غير المحلية أكثر من معظم الغابات الأخرى. ولا شك أن هذا الحال يجعل مسؤولي إدارة حرائق الغابات في وضع صعب للغاية. فخلال العقدين الماضيين، بدؤوا بإشعال حرائق تحت السيطرة من أجل حرق فائض وقود الغابات وتفادي نشوب حرائق كارثية. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، أوقف هؤلاء المسؤولون عمليات الحرق تحت السيطرة في أجزاء من كاليفورنيا بعد أن لاحظوا أن ذلك نجم عنه نمو سريع وملفت لحشائش مجتاحة من نوع الشويعرة المتدلية. ويبقى رهان المسؤولين الأميركيين في الوقت الراهن هو الموازنة بين مخاطر التدمير الذي تُسببه حرائق الغابات من جهة، وآثار النباتات المجتاحة من جهة ثانية. ولعل النتيجة التي آلت إليها إدارة حرائق الغابات هي مثال آخر على خيبة أملنا في العودة إلى أحضان الطبيعة وأمنا الأرض بعد أن أصبحنا نحن البشر أبناء عاقين ومؤذين لهذه الأم المعطاء. هشام أحناش عن “واشنطن بوست”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©