الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأمم المتحدة.. نقطة الهبوط التاريخي!

الأمم المتحدة.. نقطة الهبوط التاريخي!
16 يوليو 2015 02:22
شهدت الأسابيع الأخيرة الاحتفال بالعديد من المناسبات التاريخية، لعل من أهمها، الذكرى السبعون لنهاية الحرب العالمية الثانية، والذكرى المئوية الثانية لمعركة «واترلو» الكبرى، والذكرى المئوية الثامنة لتوقيع «الميثاق الأعظم» أو «الماجنا كارتا»، (الذي ينظر إليه بشكل عام باعتباره يمثل البداية الأولى لحصولنا على حرياتنا المدنية). ويمكن أن يُسامح بنو البشر على نسيانهم بأن الشهر الجاري يصادف أيضاً الذكرى السبعين لانعقاد المؤتمر التاريخي في سان فرانسيسكو الذي صادق المشاركون فيه على ميثاق الأمم المتحدة. وخلال ذلك الحدث، وفيما كانت الحرب العالمية الثانية في أوروبا واليابان قد وضعت أوزارها، قرر ممثلو 50 من الدول الحليفة اعتماد أسلوب جديد لمعالجة مشاكل العالم، وبحيث يحقق للمجتمع العالمي حياة أفضل من التي كان يعيشها في عصور الظلم والرعب التي عاشها من قبل. وخلال العقود التي أعقبت هذا الحدث، أصبحت كل الدول الجديدة أعضاء في الجمعية العامة الأمم المتحدة وأعلنت التزامها ميثاقها. وبعد تاريخ طويل تخللته فترات الحرب والسلام التي مرّ بها العالم، كان هذا الإنجاز الجديد يمثل نجاحاً مدهشاً وبارزاً وغير مسبوق. «لم تعد مهمة»! وبالرغم من كل ذلك، ربما لا يكون الناس قد استشعروا حلول هذه الذكرى لأن منظمة الأمم المتحدة لم تعد مهمة بالنسبة إليهم، كما أن هناك دولاً أخرى لا تحبّذ فكرة الانضمام إلى المنظمات الدولية مهما كانت طبيعتها، وهناك أيضاً دول كرّست سياساتها لدعم الميثاق، ولكنها تخلت عن موقفها منه لأسباب شتّى. وفي عصر التطهير العرقي الذي تشهده عدة بلدان من العالم، وبعد منح الصين وروسيا امتياز العضوية الدائمة في مجلس الأمن وتلويحهما الدائم باستخدام قوة حق النقض «الفيتو» لتعطيل مشاريع القرارات التي تهدف لحل المشاكل العالمية الطارئة كما هي الحال في أوكرانيا والتبت ومناطق أخرى، وبسبب انحسار دور الوكالات التابعة للأمم المتحدة، والتزايد الكبير في عدد اللاجئين، وتفكك المجتمعات، يمكن فهم الموقف الضعيف والمثير للسخرية في بعض الأحيان الذي آلت إليه المنظمة الدولية حتى في أوساط الدول التي كانت تدعمها بقوة. وقبل أربعين عاماً، كانت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تحظى بمشاركة فاعلة لجنود كثر من دول متعددة مثل أيرلندا والسويد وكندا والهند والبرازيل. وأما الآن، فلقد أصبح الكثير من دول العالم يتهرب من هذه المسؤولية أو يشارك في تحملها بصفة ظاهرية ليس إلا، كما أنه من المنتظر أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة التي صادفت يوم 26 يونيو الماضي، متواضعاً لا يرقى إلى مستوى الحدث في العديد من دول العالم، ولن تقيم بعضها أي مظهر احتفالي على الإطلاق. وتفسير ذلك هو أن الأمم المتحدة التي بلغ عمرها 70 عاماً، تعيش الآن فترة فشلها وإحباطاتها. ميثاق شرف لعالم شرير سبق لأحد «مهندسي» ميثاق الأمم المتحدة، وهو البريطاني اللورد «جولدوين جيب» الذي شغل منصب أول أمين عام للأمم للمنظمة لمدة ثلاثة أشهر فقط (من 24 أكتوبر 1945 حتى 1 فبراير 1946)، أن أشار في مذكراته عندما عاد من سان فرانسيسكو بعد توقيع الميثاق في شهر يوليو من عام 1945، إلى أن الخطابات التي ألقاها السياسيون في حفل الافتتاح كانت تتصف كلها بالنبالة والبلاغة، وربما كانوا جميعاً قد شعروا بتفاؤل يفوق الحدود المعقولة في إفراطه، أو أنهم تناسوا أنهم يعيشون في «عالم شرّير». وينطوي خط «جولدوين» في التفكير على الكثير من الإثارة والواقعية، وعلينا أن ننتبه قبل أي شيء آخر إلى أنه كان مفرطاً في تشاؤمه. ولقد فعل كل ما في وسعه لإعداد نصوص الميثاق الذي اتصف بالنبالة والواقعية العملية. وكان «جولدوين» من بين أوائل الدبلوماسيين الذين عرفوا أن الدول الوطنية وحكوماتها ما هي في حقيقة الأمر إلا منظومات يغلب عليها طابع الأنانية المفرطة، ويمكنها أن توقع المعاهدات إلا أنها لا تتبع في آخر المطاف إلا شروطها وإملاءاتها إذا كانت تلك الشروط والإملاءات تتفق مع مصالحها الوطنية الخاصة بها، ولقد أرادت كل واحدة من تلك الدول أن تلعب دور القاضي الذي أعطى لنفسه حق إصدار الأحكام في القضايا المختلفة، وكانت معظم تلك الدول ترفض تطبيق بنود قوانين البحار عندما تمثل اختراقاً لمياهها الإقليمية التي رسمتها لنفسها، أو أن تتسبب في نزاعات مع دول أخرى حول جزر تعتبرها واقعة تحت وصايتها الإدارية. وربما لا ترغب تلك الدول في انتشار الحروب الأهلية الكبرى في إفريقيا، ولكنها لا ترغب أيضاً في تحمل مسؤولياتها الكاملة لمنع حدوثها. ويضاف إلى كل ذلك أن معظم دول العالم تتهرب من دفع الاستحقاقات المالية المترتبة على عضويتها في المنظمة أو في المشاركة بتشكيل جيش أممي قوي. وهذه الأسباب مجتمعة أضعفت موقف الأمم المتحدة، وجعلتها عاجزة عن فعل ما هو مطلوب منها لحل المشاكل والنزاعات التي يعاني منها العالم. نقطة الهبوط التاريخية وغالباً ما تم توجيه الانتقادات إلى المنظمة العالمية خلال نصف القرن الماضي بسبب فشلها في حل مشاكل مختلفة، من الحرب الأهلية في الكونغو وحتى مذابح كوسوفو، إلا أن حقيقة ما حدث تكمن في أن القوى العظمى وليست الأمم المتحدة هي التي فشلت في حل تلك المشاكل، لقد فشلت في تلمّس السبل التي تؤدي إلى الحلول، وفي تقديم الموارد الضرورية اللازمة لتحقيقها، وفي تنصيب القيادات الكفؤة المكلفة معالجتها. وعلى سبيل المثال، عندما يصل مجلس الأمن إلى طريق مسدود، أو يصاب بالشلل، فكيف يمكن لجهود حفظ السلام أن تحتفظ بفعاليتها؟ لا يمكنها ذلك بالطبع. كما أن نظام العضوية الدائمة في مجلس الأمن أصبح قديماً فاته الزمن فضلاً عن أنه لم يعد يتميز بالمرونة والفعالية والكفاءة، وخاصة عندما فشلت اقتراحات تدعو إلى ضم دول مرشحة لعضويته مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، فكيف يمكن أن نتوقع النجاح لمنظمة عالمية عاجزة عن إعادة هيكلة نفسها؟ وربما يكون من الصحيح أيضاً القول إن المنظمات العالمية لم تعد موجودة بالفعل، إلا أن إعادة تأسيسها وهيكلتها من جديد أمر يكاد يكون مستحيلاً. فهل يمكن لأحد أن يتصور الآن بأن تقوم دول العالم بتأسيس مجلس أمن جديد؟ وهل تقبل الهند بالعضوية الدائمة فيه؟ وهل تقبل الصين بالشروط الراهنة للانضمام إلى البنك الدولي؟ إن الجواب عن هذا السؤال الأخير يمكن أن يوضح الأمور، وذلك لأن تأسيس بكين لـ«البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» يحقق لها القدرة على توسيع نفوذها المالي عبر العالم فيما لا يمكن للبنك الدولي أن يحقق لها ذلك. وهذا يعني أن عالم اليوم يختلف كثيراً عما كان عليه عام 1945، وأن هذا التغير أصاب فيما أصاب منظماتنا الدولية برمتها. وعلى أن هذا لا يعني أيضاً أن الأمم المتحدة قد انتهت، بل الصحيح هو أنها بلغت نقطة هبوطها التاريخية في مستوى مصداقيتها وواقعيتها في معالجة الأمور. المشكلة والحلول لو افترضنا أننا قبلنا الحكم الذي يفيد بأن الأمم المتحدة قد بلغت الآن أضعف حالاتها وطرحنا على أنفسنا السؤال التالي: ما الذي تحتاجه حتى ننفخ فيها الروح من جديد، وندفعها للعمل من أجلنا بفعالية أكبر مما هي عليه الآن؟ يتألف الجواب عن هذا السؤال من شقين: فهي تحتاج لإعادة هيكلة على مستوى القمة من جهة أولى، ولأن تُظهر فعالية أكبر في الميدان وفي قدرة قاعدتها الوظيفية على الإنجاز العملي من جهة ثانية. والآن، يبدو بوضوح أن هذين الشقين منفصلان عن بعضهما البعض تماماً. وحتى أولئك الذين يتطلعون لإصلاح الأمم المتحدة، يفضلون أن تتضافر الجهود في المجالين معاً، فمن منا لا يرغب في رؤية المنظمة الأممية وهي تحتكم إلى تمثيل أوسع مدى بكثير للدول المشاركة فيها، وخاصة بعد أن ابتعدت كثيراً عن الالتزام بالتركيبة الهيكلية التي كانت عليها أيام تأسيسها، ومن منا لا يرغب في رؤيتها وهي تحقق إنجازات جديدة على أرض الواقع من حيث العمل على إنقاذ الدول المأزومة، وعقد المفاوضات الفاعلة لوضع حد للحروب الأهلية، وإعادة بناء المجتمعات المتفككة، ونشر مفاهيم الديمقراطية الحقّة، والرفع من معدلات النمو الاقتصادي، وتعميم الاستفادة من الخدمات الصحية على أوسع نطاق؟. يبدو من الناحية الظاهرية أن معظم هذه الأهداف كانت ومازالت تتحقق حتى الآن عن طريق المنظمة الأممية في الكثير من الحالات، وتشهد التقارير الصادرة عن «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» والبنك الدولي على أن دولاً مثل سيراليون وتيمور الشرقية وإثيوبيا وتايلاند والعديد من البلدان الأخرى قد استفادت من هذه الجهود. إصلاح بلا تنازلات يعلم المطوّرون الاقتصاديون والمهندسون الزراعيون والمسؤولون عن الصحة العمومية العالمية حق العلم، ما هو مطلوب من أجل دفع الدول الفقيرة إلى تحسين أوضاعها، ولا شك أن «إدارة عمليات حفظ السلام» التابعة للأمم المتحدة تدرك جيداً ما الذي يجب فعله من أجل إعادة السلام إلى الدول التي تعاني من التمزّق الداخلي، مثل: الجهود الاستخباراتية الكافية لجمع المعلومات الموثقة عن طبيعة الصراعات القائمة على الأرض، وتقديم المعونات الكافية، ونشر القبعات الزرق بطرق مدروسة ودقيقة، والتحديث المتواصل والواضح للعمليات الميدانية، وتقديم الدعم اللازم من مجلس الأمن ذاته. ويمكن إنجاز هذه المهمات كلها من دون الحاجة لإجراء تغييرات سياسية كبيرة، ومن دون الحاجة إلى أي تنازلات من القوى العظمى، ومن دون إحداث أي تغيير في ميثاق الأمم المتحدة ذاته، وكل ما يتطلبه تحقيق هذه الأهداف هو موافقة جماعية للدول الأعضاء في المنظمة على زيادة الميزانية المخصصة للعمليات الميدانية والتي بلغت من الانخفاض الحدّ الذي يثير السخرية، وهذه الزيادة ضرورية لتأمين المزيد من الموارد اللوجستية اللازمة لصنع السلام الحقيقي وإعادة إصلاح أوضاع الدول التي مزّقتها الحروب، وتنشيط المبادرات الهادفة إلى إحلال المفاهيم الديمقراطية، والاستثمار في الصحة العمومية، وتفعيل النمو الاقتصادي، وإذا ما وصلت مساهمة جميع الدول الأعضاء في «منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي» إلى النسبة الفعلية المقررة منذ عام 1977 والبالغة 0.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول، فستضمن المنظمة تأمين المصادر الضخمة اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وتكمن المشكلة في أن ما تقدمه فرنسا الآن من هذه النسبة هو 0.41 بالمئة، واليابان 0.23 بالمئة، والولايات المتحدة 0.19 بالمئة فقط. ولو تم تأمين هذه الميزانية المتفق عليها، فستستعيد الوكالات التابعة للمنظمة الدولية فعاليتها وتستعيد قوة تأثيرها في الميدان، وكلما زادت هذه الفعالية، كلما زادت حظوظ إقناع البرلمانات الفاعلة في العالم بأن الأمم المتحدة تمثل قوة حقيقية لا غنى عنها. بول كينيدي* ترجمة - عدنان عضيمة *أستاذ التاريخ ومدير معهد الدراسات الأمنية في جامعة «يل» الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس» التغيير.. مهمة صعبة التغيير الذي يقصد منه إصلاح المنظمة العالمية على أعلى مستوى، والذي يقضي بتبديل تركيبة مجلس الأمن ذاته، يمثل مهمة صعبة التحقيق لأن ذلك يتطلب إحداث تغيير أساسي في صلب الميثاق الذي نشأت بموجبه الأمم المتحدة، ويقتضي أيضاً حدوث تغيرات سياسية ضخمة في الأوضاع الإستراتيجية للدول العظمى، وهذا ما يصعب تحقيقه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©