الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مدار عامر بالأشواق والتلاقي

مدار عامر بالأشواق والتلاقي
11 أكتوبر 2018 00:10

لولوة المنصوري

ما زالت تحيّرنا، تتلاقى وتتزاور في عالم النائمين والموتى، لا تحكمها قوانين الحياة، تهيم بغموض في عالم لا وجود فيه للزمان والمكان، حرّة، تنتقل برهافة وتلاطف العدم، تكون حاضراً وماضياً ومستقبلاً في دائرة واحدة، وفق عالمها الخاص، عالم يطلق عليه في الأخبار (البرزخ) أو عالم المثال.

ليست من عالم المادة، ولا يمكن التدليل على عدم كونها موجودة بعد الموت من جهة ملاحظة آثارها في الخارج، وربما يمكن الاستدلال على وجودها من خلال علوم أخرى وأساليب مختلفة كعلم الباراسيكولوجي وطريقة استحضار الأرواح عبر وسيط روحاني أو غير ذلك، ومع أن هذه الوسائل غير وافية بإثبات وجودها يقيناً خارج الجسد ـ باعتبار أن المقاييس المستعملة هي أيضاً مقاييس مادية ـ إلا أنه يمكن من خلالها الإيمان بوجود ظواهر غير مادية أو لا تمت إلى المادة بصلة.
إن المبحوث عنها هي الروح، أثير الطاقة المفارقة للبدن بعد النوم أو الموت، وقد ارتأى الكثير أنها لا يمكن أن تكون محل بحث تجريبي؛ لكونها من طبيعة مثالية أي غير مؤلفة من العناصر المادية التي يتألف منها الجسد، وأن استحضارها من جديد إلى هذا العالم لو صح، فإنه يفتقر إلى وسائل ومناهج خاصة، ولا يوجد ضامن بعد كل ذلك بأن أرواحاً مشخّصة قد حضرت بالفعل، بل إن أكثر ما يتم البرهنة عليه من خلال تلك الوسائل والمناهج هو وجود غير مادي أو أن هناك ظواهر خارقة لا يمكن أن تعزى إلى عالم المادة.
إلا أن ذلك لا يمنع أن نتساءل، ونستغرب من الحياة التي تقع خارج هذا العالم، حيث جسد المرء اللامرئي يزداد اتساعاً، يتشابك بالكون الواسع، فضاءً وأجراماً وبؤراً كونية.
يبدو رائعاً أن نصدّق أننا لا نفنى، لا ننتهي، وأننا أرواح قد تكون هائمة في كون شاسع.
ولكن ماذا عن النفس النائمة المراقبة بالوعي؟ وعن تجارب البدء بالخروج، تجريب الدخول في الجسد المرهف الأثيري بعد أن يخلد الجسد المادي إلى النوم العميق؟ وما هو ذلك البرزخ الفاصل بين الجسد المادي والعالم النجمي؟
وحين يكون جسد الإنسان قريباً من الموت، كيف يحضّر الجسد نفسه للصدمة، صدمة الفراق، انفصال الروح عن الجسد أثناء عملية الموت؟ هل ثمة مراحل أثيرية تحضيرية للانعتاق الروحي المريح؟
وماذا يحدث بعد هذا الفراق الميتافيزيقي العظيم، هل تواصل الروح النمو في الكون؟ أم أنها تدخل في نمو جديد؟
هل ثمة نموّ داخل دوائر العدم؟ هل من طاقة تنمو وتسري هناك؟
روبيرت بروس في كتابه «الإسقاط النجمي»، الصادر عن دار الفرقد، يورد فرضية من شأنها أن تحرر الفضول وشغب السؤال، بل هي تضاعف من زمن القلق المثير والفكر المحلّق خارج العالم المادي، ذلك يعني أنها جديرة بتغذية السؤال وبعثه وتحفيز التأمل والنظر في الجسد الكونيّ ما دامت الفرضية تجريبية خاضعة للتطوير والتغيير، ففي كل مرة تقفز إلى العالم أفكار وجودية واكتشافات جديدة عن سفر الروح وتلاقيها في العالم الآخر، وما يميز فرضية روبيرت بروس أنها لا تكسر قانوناً من قوانين الله أو تخالف تعليماً من تعاليم الكتب المقدسة.

البُعد البوذي
يحكي بروس عن تجربة الخروج من الجسد في الإسقاط النجمي واصفاً أولى مراحل ذلك البرزخ والبعد النادر الذي هبط فيه بـ(البعد البوذي)، البعد الدافئ، العالم التجريدي المفعم بالسلام المطلق وبالمحبة التي ليس لها حدود، إنه أبعد من البياض الصرف المطلق، إذ لا يوجد هناك إدراك مرئي أو صوتي سوى البياض الناصع يتخلل كل شيء.
في ذلك البعد تتخلى عن كل تفكير شخصي واعٍ، فلا يمكنك التفكير طويلاً حالما تدخل هناك، ولا حاجة أو رغبة في القيام بذلك، هناك دافع لا يُقاوم يشدّك إلى سكون هادئ، كأنك مغمور بقطن أبيض نقيّ ودافئ.
يصف بروس بعده النجمي عالم الروح، بالعالم الذي «لا تعود فيه فرداً، بل تصبح جزءاً من الواحد»، كما أنك لا تعود أنثى أو ذكراً، وهذا يحيل إلى الزمن الرّحمي، زمن التلألؤ داخل الصدفة، أو العودة إلى الطور التكويني في رحم الأم، فأنت مستوعب وممتص، ومحاط بدفء المحبة المطلقة، حيث التفهّم والصفح والغفران والانعتاق اللانهائي، «والحق أنك إذا دخلت إلى هذا العالم، لن ترغب أبداً في مغادرته، إذ لا يمكنك تركه حتى يناديك جسدك المادي ويسحبك إليه، فتعود رغماً عنك».
ذلك العالم المضموم باللمعان الذاتيّ هو مكان الشفاء السرمدي، الضوء الإلهي، مكان روحك، حيث يكمن سر الضوء المضمر في الظلام الملموم عليك.

بُعد (الأتما)
يبدو جلياً أن فكرة الإسقاط النجمي تصب في مصب عقيدة وحدة الوجود، ولكن قبل النزول في ذلك المصب، نتساءل: هل يمتد الدرب أكثر من ذلك؟
أي بشكل أوضح: ماذا يحدث بعد تلك الحالة التي يتخطى فيها مجرّب الإسقاط النجمي مسافة أبعد من نقطة البعد البوذي؟
نعم.. هناك مدار أبعد، أبعد في الحُب..
إنه النبع الكبير، نبع العشق الإلهي، حضور تام لسردية حُب كبرى، البُعد المعمّر للأشواق والتلاقي، والذي يسميه بروس (بُعد الأتما)، هناك حيث تنتظر أرواح الذين أحببناهم أثناء وجودنا على الأرض، المكان البهيج للاجتماع بهم، مكان إعادة توحيد الأرواح، والنور في ذلك العالم هو الأنقى، النور الفضي الأكثر لمعاناً ويستحيل النظر إليه، لكنه برغم ذلك هو ضوء حنون لطيف وفق أعلى درجات اللطف، ضوء ناعم ومهدئ، ضوء مطمئن، ضوء الله.
يقول بروس: «لقد دخلتُ هذا العالم في حياتي أربع مرات فقط، في كل مرة كنت أدخل من أعماق الوعي التأملي الصاعد، مع انفتاح جميع الشاكرات «مسارات الطاقة في الجسد»، الناس هناك يبدون مثلما كانوا في العالم المادي، ولكن يتوهجون من الغيبوبة، يتألقون بالحب والحضور الإلهي الأكثر سطوعاً، هناك كان يقف أمامي ابني الذي توفي منذ مدة طويلة، كان بعمر ثماني سنوات عندما رحل، وقد بدا تماماً مثلما شاهدته آخر مرة عندما مات. كان يشعّ سعادة، وكانت عيناه تبداون متألقتين وبرّاقتين، عانقته وجذبته إليّ، وبكيتُ بفرح لرؤيته. ثم نظرتُ خلفه، فشاهدتُ حشداً كبيراً من الناس بانتظاري، كانوا جميعاً أصدقاء، وعائلات عرفتهم وأحببتهم، وكنتُ قد فقدتهم أثناء حياتي، كانوا جميعاً مبتهجين، تعلو وجوههم البشرى بمجيئي، واتسع بصري للنظر خلفهم أكثر فأكثر، لاحظت أننا في أرض صخرية طبيعية منبسطة، كانت الأرض عبارة عن صخر أملس يرتفع إلى قمة تبعد مئتي متر وتميل باتجاهنا...
هناك وقفتُ صامتاً للحظة لا زمن لها، أنظر إلى كل شيء حولي، بعد ذلك بدا كل شيء يومض ثم يغيب، غاب ابني، ثم الأصدقاء والسعادة والضوء الذي كنته، كل شيء اختفى تدريجياً، حتى عدتُ إلى جسدي المادي. بكيت، بكيتُ بحزن شديد، ذلك لأنني لم أكن أرغب في العودة أبداً».

التلاقي الصوفي الفيزيائي
من الملاحظ من خلال هذه الفرضية النجمية أن هناك انسيابية متعانقة واضحة كالتقاء النهرين ما بين الفيزياء والتصوّف، والمصب الواحد يتلخص في مدى تجاذب تجربة الإسقاط النجمي للدخول في البعد (البوذي) عند روبيرت بروس، مع تجربة التأمل والكشف الغيبي وسفر الروح عند متصوفة الإسلام وفلاسفة الهند المؤمنين بـعقيدة (وحدة الوجود والإنسان الكبير).
المحصّلة واحدة لكليهما، فناء المخلوق للبقاء في نفس الخالق، فشهادته إنسان، والله هو المتجلي والمتجلّى له، وكما ينشد ابن عربي (فلولاه ولولانا/‏‏ لما كان الذي كانا).
ويبدو أن بروس لم يكن ليملك إصرار التجربة النجمية لولا حادثة فقد طفله، فأغلب القدرات العالية والاكتشافات الإنسانية الكبرى والأفكار الغيبية تأتي كتطبيب روحي لمشاعر الحزن العميق، كطوق نجاة في بحر الظلمات، كتعويض سماوي تخفيفي لآلام الإنسان على الأرض.
إن القدرة على امتلاك تجارب الخروج الواعي من الجسد هي قدرة طبيعية في الإنسان على ما يبدو، إلا أنها لا تتكشّف إلا في أعمق حالات النزول في بئر الآلام. إن هذه القدرة الخارقة لا تتبدى إلا بإدراك الألم واحتوائه والوعي بلذته، ولعل استيعاب الحزن هو القنطرة الأولى للتجلي والانعتاق خارج الجسد الحيّ.

مجربات وتواصل
إن مجربات بروس في الإسقاط النجمي، قد لا تثير الدهشة لدى المبحرين في لذائذ أخبار الوسيط الروحي بين الأحياء والأموات في علم الروحانيات، أو الذين تخطوا الإلهام الربّاني إلى الكشف والاستبصار عند الأولياء والمتصوفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في «مجربات الديربي الكبير» يورد العلامة الوليّ أبي عبد الله بن يوسف السنوسي الحسني أوراداً وأذكاراً لأجل الفرج والخروج من الجسد الحزين بغية لقاء الأحبة من الموتى وبث حرارة أشواق الأحياء لهم، وليس مستغرباً من بعض مشايخ الدين الذين تشددوا في أحكامهم على المجربات الصوفية باعتبارها ضرباً في السحر والشعوذة، لكنها تظل من وجهة نظرنا خطوة وثوق إيماني، لا يمنحها الله إلا لمن استوعب الألم وتأدّب به عبر مراحل استبطان ونقاء، ولعلها قطرة روحانية ضئيلة مقارنة بمحيط التصوف الإسلامي الذي تزخر أعماقه بعلوم الاستبصار والتواصل مع الروح الراحلة في الفناء الغيبي البعيد.
ومثلما أن الإسقاط النجمي عند بروس هو درب الإنسان الحيّ للتواصل مع العالم الآخر، فإن النوم العميق عند المتصوف الهندي أوشو هو الطريق الأقصر للوصول إلى الله، تلك هي لحظات عبورك السريع والطبيعي إلى مركز الوجود، إلى اتحادك مع مركز ذاتك ومع شفافية الألوهة.
لكن أوشو الحكيم يضع شرطاً لذلك الوصول: (أن تختفي الأحلام)، فباختفائها تختفي الأنا، وطالما الأنا في دواخلك نائمة فستبقى متحداً بالله، ويستمر سعيك للوصول إلى مركز الكون، ستختفي من المحيط وتظهر في المركز، وهكذا تنتعش روحك بالوصال.
هذا ما يحملنا إلى التفكير بأولئك الساهرين الذين افتقدوا قيمة النوم، كم هم تعساء! لأنهم أضاعوا الطريق إلى مركز الكون، فسخوا العلاقة مع الطاقة الكونية وافتقدوا لحظات التماس مع الله. فالنوم الغزير حسب منظور أوشو إحدى ظواهر الحب الإلهي والوصال، النوم العميق بلا أحلام يعني انتفاء وجود الأنا، «وأنك لم تعد فرداً واحداً، بل أنت جزء من الكل العظيم».

الإسقاط النجمي

الإسقاط النجمي (Astral Projection) هو حالة الوعي أثناء النوم، أي أن الجسد فقط يكون نائماً بينما يكون العقل في حالة يقظة تامة. ويذكرنا هذا بالعديد من الأفلام فتجد شخصاً قد مات ثم خرج شبحه ليرى كل شيء، ولكن لا يستطيع لمس الأشياء. يعتقد المشتغلون بالإسقاط النجمي بوجود جسد أثيري أو جسم من الطاقة ينفصل عن الجسم المادي، حيث يبقى بقربه أثناء النوم. ويكون هذان الجسمان متصلين بحبل فضي Silver Cord يربط بينهما.
ومفهوم الإسقاط النّجمي موجودٌ منذ زمن طويلٍ في مجموعة من ديانات العالم، وهو أسلوب قديم تطرّقت له الأساطير والخرافات القديمة، وتحدّثوا فيها عن أبطالٍ يَنتقلون ويُسافرون من مكانٍ إلى آخر وأجسادهم نائمة، كما يُعدُّ صورةً من صور التأمُّل والأحلام الجليّة.
ويقول المعارضون لمفهوم الإسقاط النجمي إنّ أصل هذه المعتقدات والنَّظريات مُقتبسٌ من عقائد وتراث الديانات الشرقية الوثنية، والمُعتقدات الخفية الباطنية، وإنّ كل ممارساتها الاستشفائية والرياضية الحديثة تُشجّع تطوير قوى جسد الإنسان ليصبح بإمكانه مُستقبلاً أن يقوم بما كان خارقاً قديماً.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©