إنما سمي العقل عقلاً لأنه يعقل الهوى، أي يقيده ويوثقه وثاقاً شديداً - وهو يعقل الشهوات - وإذا كانت أو كان الروح حياة العقل، أي لا حياة للعقل بلا روح، فإن العقل هو الذي يسمو بالروح - والأزمة في الأمة العربية هي ضمور وتآكل العقل الجمعي أو ما يسمى الرأي العام - فالرأي العام العربي أميل إلى تصديق اللا معقول وتكذيب المعقول. وهو عقل جمعي يكره الموضوعية ويرفض الحقائق ويهوى الشائعات والأكاذيب والخرافات. وهذا الميل الغريب إلى كل ما هو شاذ وغير مألوف جعل العقل الجمعي العربي يفرغ كل القيم والشرائع والأديان والعقائد والأفكار من مضامينها وحولها إلى ترهات وخرافات - فالعرب مولعون بالدجل والهرطقة والكهانة وربط كل هذا بالدين - لذلك سيطر عليهم وعلى أفكارهم الدجالون والإرهابيون وتجار الدين والدعاة والعلماء الذين انشغلوا بوصف الجنة وما فيها من لحوم وطيور وحور وأنهار عسل ولبن وخمر - وراحوا يصفون كل شيء فيها دون أن يصفوا طريق الوصول إليها.
ولأن العقل الجمعي، أو الرأي العام في هذه الأمة أخرق وأحمق وطفولي، انطلت عليه الخرافة، وأقبل الناس على الانتحار أفواجاً، خصوصاً غير المتزوجين ليتمكنوا من الزواج من الحور العين دون أن يتكلفوا درهماً ولا ديناراً واحداً.
والحوار المنطقي العقلاني لا يؤتي أكله مع هؤلاء الذين يعيشون في غيبوبة، ولكن الحوار الخرافي والدجلي هو الذي يؤتي ثماره، والذين سيطروا على الرأي العام أو العقل الجمعي العربي، إنما تحقق لهم ذلك بالحوار الخرافي والدجلي؛ لأن الرأي العام العربي يعاني مرض الارتداد الطفولي، فلا تشده إلا حكايات وقصص الأطفال وفكر اللا فكر واللا معقول واللا منطق أو ثقافة الانتحار أو حضارة الموت واليأس والقنوط وعدم تقدير العواقب.
![]() |
|
![]() |
ولكن الدنيا ضد الآخرة، والمطلوب من المؤمن الحق أن يحب الحياة لا أن يحب الموت وأن يحب الآخرة لا أن يحب الدنيا.
![]() |
|
![]() |
من أجل ذلك كتب الله تعالى على بني إسرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا - وهل بإمكان الإنسان أن يحيي نفساً؟ أليس هذا من أمر الله؟ نعم بإمكان الإنسان أن يهيئ لنفس أسباب الحياة، وأن ينقذ نفساً من الموت والقتل - (ومن أحياها) - هذه الجملة تؤكد أن الحياة غالية، وأن الحفاظ عليها أمر الهي وواجب شرعي. والعرب بكل أسى أحباب الدنيا وأعداء الحياة، ولووا عنق الشرع الحكيم والإسلام الحنيف ليجعلوه عدوا للحياة ومرغباً في الدنيا. وكل هذا العوار العربي مرده إلى غياب أو غيبوبة العقل وهذه الغيبوبة هي أساس كل بلاء ووباء. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدي أو يرده عن ردى. وقد قال صلى الله عليه وسلم: المرء ولم يقل المسلم، وقال: يرده عن ردى أي هلاك. فحضور العقل هدى وغيابه مهلكة وردى. وأعظم شاهد في هذا المقام ما رواه انس بن مالك، رضي الله عنه، من أن الصحابة أثنوا على رجل عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله أن من عبادته.. أن من خلقه.. أن من فضله ... أن من أدبه.. فقال: كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله.. نثني عليه بالعبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر. وليس بعد هذا القول الشريف قول. وآفة الأمة الآن هي في الأحمق العابد، وهي آفة أخطر مليون مرة من فجور الفاجر. والعابد الأحمق يشدنا ويغرقنا في القاع الأعمق، وسنظل هكذا في أمة العرب نجري إلى ما لا ندري.
محمد أبوكريشة*
*كاتب صحفي