السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لمحة عن كائن بشري

لمحة عن كائن بشري
13 أكتوبر 2010 21:04
قُضمت أذني في شجار مع كائن بشري آخر، على ما أذكر، غير أني أسمع أصوات العالم بوضوح عبر القطعة النحيلة الباقية، كما أني أرى الأشياء، ولكن بشكل ملتوٍ فقط وبصعوبة، إذ رغم عدم ظهورها في اللمحة الأولى، فإن هذا النتوء الأزرق، على يسار فمي، هو عين، إنها هناك، تعمل، تدرك الأشكال والألوان، عمل خارق لعلم الطب ودليل على التقدم غير العادي الخارق لعصرنا، من كل النواحي أنا محكوم بالعتمة الدائمة، حيث إن كل الناجين من النار العظيمة ـ لا أذكر إن كان ذلك بفعل القصف أو انقلاب عسكري ـ فقدوا أبصارهم وشعرهم، بسبب المواد الأكسيدية، كان من حسن طالعي أني فقدت عيناً واحدة فقط، والأخرى أنقذها طبيب عيون بعد ست عشرة عملية، ليس لعيني جفن، وكثيراً ما تذرف دمعاً، لكنها تسمح لي بصرف نظري عن مشاهدة التلفزيون، وفوق كل شيء، معرفة ظهور العدو بلمحة. المكعب الزجاجي الذي أعيش فيه هو بيتي، بوسعي الرؤية عبر الجدران، لكن لا يقدر أحد على رؤيتي في الداخل: نظام عملي يؤكد سلامة البيت، في هذه الفترة من المكائد المرعبة، زجاج نوافذ سكني، بطبيعة الحال، مضادة للرصاص، مضادة للجراثيم، مضادة للإشعاعات، ومانعة للصوت، تعطر باستمرار بنكهة الإبطين والمسك المميزة، التي أعلم أنها بالنسبة لي، لي فقط، ممتعة. أملك حاسة شم متطورة جداً وبواسطة أنفي أحصل على أعظم متعة وأشد ألم، هل يتوجب عليّ تسمية هذا العضو الغشائي العملاق الذي يسجل كل الروائح، حتى أكثرها حذقاً، أنفاً؟ هل أعني الشكل الرمادي، المغطى بالقشور البيضاء، التي تبدأ من فمي وتمتد، متعاظمة في الحجم، إلى أسفل رقبتي الضخمة كالثور، كلا، هي ليست تضخم غدد أو تفاحة آدم بغدد نخامية، إنه أنفي، أعلم أنه لا جميل ولا مفيد، حيث إن حساسيته الزائدة تجعله عذاباً لا يوصف عندما يتعفن جرذان في المنطقة، أو تمر مواد نتنة عبر أنابيب بيتي، ذلك، أبجله وأفكر أحياناً أن أنفي هو مقعد روحي. لا أملك ذراعين ولا قدمين، غير أن أطرافي المبتورة شفيت تماماً واشتدت، كي يمكنني التحرك بيسر في الحديقة، ويمكنني حتى الركض إذا ما اقتضت الحاجة، لم يقدر أعدائي على القبض عليّ حتى الآن أبدأ في أي من مطارداتهم، كيف فقدت ذراعي وقدمي؟ حادث في العمل، ربما، أو لعله دواء ما تعاطته أمي كي يسهل حملها (على كل، لم يقدم العلم الجواب الشافي لسوء الحظ). (.........) مصدر فخري العظيم هو فمي، ليس صحيحاً أنه فاغر على وسعه لأني أصرخ إلى الأبد من يأسي، أتركه فاغراً هكذا لأظهر أسناني البيضاء الحادة، هل هناك من لا يشعر بالغيرة منها؟ فقدت اثنتين أو ثلاثاً منها فقط، لاتزال الباقية قوية تأكل اللحم، إذا اقتضت الحاجة، تهرس الحجارة، لكنها تفضل أن تتغذى من صدور وأجزاء العجول الخلفية، تغوص في صدور وأرجل الدجاج والديوك الصغيرة أو حناجر الطيور. أنا لست خسيساً بائساً، ولا أريد أن أكون موضع شفقة، أنا كما أنا وهذا يكفيني، معرفة أن الآخرين أسوأ مني عزاء عظيم، طبعاً، لكن في هذه المرحلة من التاريخ، بكل ما حدث لنا، هل مهم أن يكون العالم أفضل مما هو عليه؟ أجل، ربما لكن ما جدوى التفكير في سؤال كهذا؟ لقد أنقذت وعشت ورغم المظاهر، أنا جزء من الجنس البشري، انظري إليّ جيداً، يا حبيبتي.. تعرفي إليّ، تعرفي إلى نفسك. * نص من كتاب “في مديح زوجة الأب” من ترجمة صلاح صلاح، وصدر عام 1999 عن دار الانتشار العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©