الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حميمية المكان ونوستالجيا الزمن

حميمية المكان ونوستالجيا الزمن
13 أكتوبر 2010 20:24
للصحراء على الإنسان العربي البدوي فضل لا يُنكر في توجيه حياته وفكره وسلوكه، وهي مكان وظرف، ولكنها ـ على الرغم من ذلك ـ تركت أثرًا لا تمحوه الأيام من ذاكرة الإنسان، في تكوين حياته، وبناء مجده وحضارته، والبدوي ابن الصحراء تقلب في رحمها، وانطلق منها في تشييد حضارة الكون، وإضافة لبنات أساسية في صرح شموخها وعطائها وتوجهها، أكسبته قسوة الصحراء قوة، وبعثت فيه عزما لا يلين، ومنحته الذهن الثاقب والذكاء المتوقد، وخلعت عليه في اتساعها، واندياح جنباتها برود السماحة والكرم والخلق الرضي، فكان ذلك الإنسان الذي ينسب إلى الصحراء في تألقه وتفرده وامتيازه ورضاه. الصحراء مكان فضفاض، يغيب فيه البصر الحديد، ويمتد أمامه الأفق واسعـًا رحبًا حتى كأنه لا نهاية له. للصحراء في العين مجتلى ومتعة، وللنفس فيها راحة وروحانية، وللفكر انبعاث وإبداع وتجديد. عرف العربيُّ الصحراءَ قبل أن يعرف البحر، ورأى أديمها قبل أن يرى زرقة الماء، ولامس أديمها جلده دون حائل، وجال في حزونها وسهولها، وسرَّح أنعامه في أفيائها، وشمَّ أريجَ نبتها وأزهارها، واستنبط الماء من جوفها لذة للشاربين، وافتن في شؤون الحياة وضروب العيش على ظهرها، وعاش ما شاء الله له أن يعيش وهو لا يعرف شيئـًا سوى سهولها وجبالها ورمالها ورياضها وأوديتها ووهادها، يضرب في أكنافها سحابة نهاره، فإن جنّ الظلام أوى إلى بيته مستمتعـًا بنعيم الراحة ولذة الدفء، إن كان الوقت شتاءً، ولذة الجو المعتدل والنسيم العليل إن كان الوقت صيفـًا.(1) الروح والعقل امتزج العربيُّ بالصحراء حتى غدت قطعة من نفسه، وجزءًا من حياته، فلا يرى لغيرها بديلاً، ولا عنها متحولاً. استمد منها تجارب حياته، ونمط عيشه، وكوّن من مناظرها، وتفاعله معها ثقافته ورؤيته للحياة. عرف نسائمها ورياحها، وعانى قُرَّها وحَرَّها، وتقلبات جوها، وشارك حيواناتها وطيورها في البحث عن العيش، فكان منها المستأنس الداجن، والسبع الضاري، فعاملها بما ينسجم مع طبيعة حياته وطريقته في الإقامة والتَّرْحال، والبحث عن ما يقيم أوده ويكفيه رزقه. ولم يقنع بما يقنع به القوم ذوو الهمم الضعيفة والأفكار المحدودة، بل كان طمَّاحـًا متطلعـًا، يدفعه في ذلك ذكاء لـمَّاح، وبديهة على اللسان حاضرة، وذهن متوقد، فهو كما قال طرفةُ بن العبد: أنا الرجلُ الضَّرْبُ الذي تعرفونه خُِشَاشٌ كرأسِ الحيَّةِ المتوقِّدِ يضاف إلى ذلك عقل يجيد التفكير، ويرسم له خطوات مستقبله القريب في حدود إمكاناته ومعارفه وتجاربه؛ فكشف عن موهبته في القول والتعبير دون أن يقرأ في صحيفة، أو يخط حرفـًا. وكان يملك ناصية اللغة، ويمسك بزمام الفصيح، أخذ ذلك مشافهة من بيئته، فلم يكتف بالتعبير عن حاجات يومه القائمة، بل وظف لغته القوية الغنية بمفرداتها وألفاظها في قول رفيع وبيان رائع، وتصوير يأخذ بمجامع القلوب، فاستنبط من وقع خطوات الإبل المنتظمة ـ وهي تقطع الصحارى والفيافي ـ الحُدَاء، وهو أن ينشد للإبل شعرًا موقعـًا منغومـًا فتطرب وتنشط، فتغذ السير إلى الغاية، ثم تحول حداؤه إلى مقطعات قصيرة موزونة، وتدرجت هذه المقطعات إلى قصائد كانت نواة للشعر الجاهلي الذي وصل إلينا منه قدر غير يسير. (2) بقيت الجزيرة العربية محرومة من وسائل الإعلام، التي يمكن بها ان ينتشر أدبها ويذيع، فلا إذاعة ولا صحافة ولاتلفزيون، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن الامية التي كانت متفشية فيها، حالت بينها وبين حفظ ادبها واهمه الحكايات (السوالف) والقصيد بالكتابة والتدوين. ولذلك فلاعجب أن تكون الرواية والحفظ، هما الوسيلتين اللتين بواسطتهما يذيع أدب البادية، ويُحفظ من الضياع. وفي ذلك يقول خير الدين الزركلي في بدايات القرن العشرين: “ينتشر شعر البادية اليوم بالواسطة نفسها التي كان يذيع بها قبل ظهور الاسلام، وهي الرواية والحفظ في الصدور لا في السطور. ورواة الشعر من البدو كثيرون، ترى في كل قبيلة نفراً منهم، يسمعون فيحفظون، ويستنشدون فيروون”. ويقول طه حسين في حديثه عن الأدب الشعبي في جزيرة العرب: “وهذا الادب العربي الشعبي، يرويه في البادية جماعة من الرواة، يتوارثونه عن آبائهم، ويورثونه لابنائهم، ويكسبون بروايته حياتهم المادية، ومكانتهم الممتازة احياناً” (3). كان العرب في جاهليتهم، عدا سكان المدن، بدواً يضربون في الصحارى والقفار، وطور البداوة هذا ميَزهم وخصَهم بحالات اجتماعية واخلاقية ومزايا خاصة بهم عُرفوا بها على مر الأيام. ومن هنا كان ماتذكره الروايات وكتب الادب والتاريخ عن عرب الجاهلية ينطبق جُلًه إن لم يكن كلًه على البدو في مختلف العصور حتى عصرنا الحاضر. فالبدوي بسكناه الصحارى المقفرة المحفوفة بالاخطار والمشاق وبُعده عن المدن، ونبذه الدور والأسوار، وتفضيله لبيوت الشعر عليها، وطبيعة الصحراء القاسية ولًد فيه مزايا وخصالاً امتاز بها عن الحضر سكان المدن، منها الشجاعة والعصبية والكرم والوفاء والصدف والانفة والنجدة. (4) الكلام والفعل والمقارنة بين الشعر الجاهلي والشعر البدوي (النبطي)، بل وبين المجتمع الجاهلي والمجتمع البدوي وخصائص هذين المجتمعين أمر نَبَّهَ إليه العديد من الباحثين، ومنهم الدكتور علي الوردي، في مقالة مهمة له في هذا المجال يقول فيها: “كان للمجتمع الجاهلي خصائص اجتماعية ثلاث هي العصبية القبلية والغزو والشعر، وليس هذا بالأمر المستغرب، فما دامت الحكومة المركزية مفقودة في ذلك المجتمع فلا بد أن يلجأ البدو إلى التجمع القبلي يحمون يه أنفسهم وأموالهم. والبدوي الذي لا يحتمي بقبيلة من القبائل لا يستطيع أن يعيش في الصحراء طويلاً. ومن هنا جاء اهتمام العرب بالنسب إذ به يعرفون صلاتهم القبلية. والتجمع القبلي يؤدي بدوره إلى الغزو ومواصلة الحروب. ذلك أن الصحراء ممحلة ليس فيها سوى كلأ قليل هنا وهناك. والقبائل مضطرة أن تنتقل وراء هذا الكلأ وأن تتنازع عليه. والواقع أن تنازع البقاء في الصحراء شديد لا انقطاع فيه. وقد قضت نواميس الصحراء أن لا يعيش فيها إلا القوي الشجاع. أما الضعيف الجبان فيها فلا بد أن يهلك عاجلاً أم آجلاً. وهذا خلاف ما نراه في الحضارة حيث يستطيع الضعيف الجبان أن يعيش تحت حماية الحكومة إذا كانت له حرفة يكسب الرزق منها. والحكومة تحميه لكي تستغله وتجبى الضريبة منه”. (5) وعن دور الشعر في الصحراء، يقول الوردي: “ومن بعد كل ذلك يأتي دور الشعر في الصحراء. فالمعروف عن الشاعر البدوي أنه لسان القبيلة والمدافع عن أعراضها. والظاهر أن الشجاعة لا تكفي وحدها في حياة الصحراء. فلا بد أن يكون في كل قبيلة من يدافع عنهاا بلسانه كما يدافع الفارس عنها بسيفه”. يقول الشاعر البدوي: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ومعنى هذا أن الإنسان في الصحراء له براعتان هما: شجاعة الفؤاد وفصاحة اللسان. فإذا عجز عنهما لم يبق فيه سوى حثالة من بدن خسيس لا يسوي شيئاً. والمعروف عن القبيلة في أيام الجاهلية أنها كانت تحتفل بنبوغ الشاعر على منوال ما تحتفل بنبوغ الفارس الشجاع. يقول ابن رشيق في كتاب “العمدة”: “فإذا نبغ في القبيلة شاعر، أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس. وتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج”. والشاعر الجاهلي، حسب الوردي، كان يأبى التكسب بشعره. فالمفروض فيه أن له وظيفة مهمة في قبيلته. فإذا اشتهر أنه يبيع شعره بالمال صار قوله هيناً على الناس وفقد الأثر الاجتماعي الذي كان منتظرا منه. ولا يعني هذا أن الشاعر الجاهلي كان لا يتأثر بالعطاء أو الجائزة بتاتاً. إنما كان تأثره بهما أقل من تأثر شعراء السلاطين الذين ظهروا أخيراً فصاروا لا يفهمون من دنياهم سوى توقع الجائزة والعياذ بالله. ويشير الوردي الى قوة وسحر الكلمة في المجتمع الجاهلي، حيث يقول: ومهما يكن الحال، فقد صار للكلمة في المجتمع الجاهلي وقع بليغ في النفوس لعله أمضى من وقع الحسام. ومن هنا جاء قول الشاعر: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان. (6) فالشاعر الجاهلي يحسن صياغة الكلمة ثم يلقيها على الناس فيتلاقفها الرواة، وتصبح كأنها وثيقة لا مجال للشك فيها. ورب قبيلة هبطت قيمتها هبوطاً فظيعاً من جراء شتيمة بارعة قالها شاعر فيها. ورب قبيلة أخرى ارتفعت إلى عنان السماء بسبب بيت من الشعر جميل. ويستشهد الوردي بقول لجورجي زيدان عن سحر الكلمة وأثر الشعر على عقول الجاهليين، يقول زيدان: “... يقيمهم الشعر ويقعدهم. وقد يسمعون الكلمة فتطير لها نفوسهم. وربما بذل العربي حياته في سبيل كلمة يقولها أو فراراً من كلمة يسمعها. ولذلك كثرت عندهم ضروب المفاخرة والمباهلة في المواسم والأندية”. وقد حاول كثير من مؤرخي الأدب العربي إرجاع اهتمام الجاهليين بالشعر إلى سبب جغرافي، حسب الوردي، حيث أن: “العرب أمة شاعرة... وقد كانت البادية مذكية لهذه الشاعرية.. فهناك يبزغ القمر وضاح الجبين بساماً، ويبعث أشعته الفضية للمدلج والساهر والسامر فيخلب لبه. وتلمع النجوم سافرات، وتومض كأنها ماسات فتناغى وتناجي. وهناك السكون الباعث على التأمل، والبراح الفسيح المتكشف، والحرية المطلقة. وكل ذلك يولد في نفوس السكان الانطلاق في التعبير والبوح بما في الضمير. وبلاد العرب بلاد النور، حيث تسفر الشمس من المشرق إلى المغرب. وللنور أثر في صفات الإنسان أكثر منه في جسمه”. الحامل والمحمول ويُلفت الوردي الى أن الشعر كان أهم فن يتعاطاه العرب. ولعله كان الفن الوحيد عندهم. والسبب في ذلك أنهم كانوا أهل رحلة وانتقال مستمر. وكانوا مضطرين أن لا يحملوا في رحلتهم شيئاً ثقيلاً، إلا ما كان ضرورياً لحياتهم في الصحراء. فهم لا يعرفون من الكتابة والتصوير أو النحت أو الموسيقى أو غيرها من الفنون إلا قليلاً، إذ هي تحتاج إلى أدوات متنوعة كثيرة، وهم غير قادرين على حملها أثناء تجوالهم الوسيع. فالشعر هو الفن الوحيد الذي يسهل على البدو تعاطيه. فهو كلام موزون يسهل حفظه وروايته، لا يحتاج في ذلك سوى لقلقة اللسان. يقول البرفسور فليب حتى: “إن القصيدة الجاهلية قوية في تركيبها اللغوي، حية بعاطفتها الجياشة، ولكنها ضعيفة من حيث أفكارها الأصلية أو خيالها الذي يحفز على التفكير، ولهذا فهي تفقد قيمتها حين تترجم إلى لغات أخرى”. وأعتقد أن هذا القول لا يخلو من صواب، إن لم يكن صواباً كله. فالشاعر الجاهلي ليس شاعراً بالمعنى المفهوم عند المتمدنين. إنما هو بالأحرى محارب، وأغراضه الشعرية تدور في معظمها حول الحماس والفخار أو المدح والهجاء. وإذا وجدنا لديه غزلاً أو وصفاً للطبيعة، فما ذلك منه سوى وسيلة يريد أن يتوصل بها إلى مقصده الأصيل. يقول بروكلمان: “إن هدف الشاعر الجاهلي هو تمجيد قبيلته أو ممدوحه. أما الغزل فيأتي بعد ذلك عرضاَ أو وسيلة يراد بها ما وراءها”. (7) وفي الحقيقة لازال البدوي، على الأقل كبار السن منهم، يميلون إلى اليوم إلى حياة الصحراء، وإن لم يكن سكناها بالمعنى الحرفي للكلمة، فبالمعنى المجازي، كان يكون لديهم (عٍزًبْ) في هذه الصحراء كما هو موجود هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، يربون فيها جمالهم ويعتنون بها، يحلبونها ويشربون حليبها (لبنها) ويضمّرونها ويعدونها للسباقات، والعديد منهم يتخذ من هذه الأماكن المحببة إلى نفوسهم سكناً، أو مكاناً يجتمعون فيه ويتسامرون، ويتبادلون فناجين القهوة بعد إن يهبشوا شيئاً من الفوالة، وييتبادلون (لعْلوم) والاخبار من حين لآخر. وقد اضطرتهم إلى تلك العصبية، وهي تعني هنا التضامن المطلق بين أفراد القبيلة، طبيعة حياتهم قديماً. إذ ان توغلهم في المهامة القفراء، وتولّعهم بالغزو جعل حياتهم في حرب مستمرة. حيث يصف شاعرهم تلك الحياة غير المستقرة بقوله: شابت عوارضنا بزارق ومزروق وصوايح بظهور طوعات الارسان (8) واصبحت الشجاعة والبطولة طبيعة فيهم لايهابون المنايا بل يطلبونها. لاتتقي الاخطار يانفس واشرهي مازاد باعمار الحريم التقانع (9) ونظراً لإنعدام الأمن قديماً في الصحراء، قبل نشوء الدول الحديثة، وشح الموارد الاقتصادية، كان الغزو متفشيا بين القبائل. وهنا لابد من توضيح صورة الحياة التي كانت يحياها البدوي وفي ظل تلك الظروف المحيطة به لنعرف مسببات لجوءه الى الغز، وتحولها فيما بعد الى عادة ومظهر من مظاهر البطولة والفروسية، لذلك لابد من توضيح هذه النقطة بقليل من التفصيل قبل ان نستهجنها من البدوي. هوامش: 1 أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره حتى نهاية العصر العباسي الثاني، د. حمد بن ناصر الدخيِّل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض. 2 الدخيل، المصدر السابق . 3 الحياة الاجتماعية عند البدو في الوطن العربي، مشارقة، د.محمد زهير، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1، دمشق 1988م 4 الشعر عند البدو، الكمالي، د.شفيق عبدالجبار، دار كتب للنشر، ط2، بيروت، 2002م 5 خصائص المجتمع الجاهلي، د. علي الوردي، مقالة منشورة على موقع مجلة “دورب” 6 خصائص المجتمع الجاهلي، د. علي الوردي، المصدر السابق 7 الوردي، المصدر السابق 8 الشعر عند البدو، الكمالي، د. شفيق عبدالجبار، دار كتب للنشر، ط2، بيروت، 2002م .. وزارق ومزروق أي ضارب ومضروب كناية عن كثرة الاقتتال والاشتباك في المعركة، واستعمال الرماح، وزارق من زرق الرمح اي قذفًه ورماه. وصوايح مفردها صايح او صائح من صاح يصيح ويريد صرخاتهم في المعركة. وطوعات الارسان هي الخيل. 9 واشرهي بمعنى اقدمي، والحريم كلمة تعني النساء عامة، والتقانع هو لبس القناع. aalsanjari@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©