الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التهمة الكتابة بعيداً عن الأيديولوجيا السوفييتية... برودسكي صناعة المذنب

التهمة الكتابة بعيداً عن الأيديولوجيا السوفييتية... برودسكي صناعة المذنب
4 أكتوبر 2018 01:13

ترجمة: شاكر نوري

من أغرب المحاكمات في التاريخ، وهي صناعة المذنب، ومن هو هذا المذنب؟ هكذا بدأت القصة. كما يروي الناقد الروسي إيفيم إيتكند، في كتاب ( Brodski ou le procces d un poet Presentation et commentaire d Efim Etkind Libraire Generale francaises Paris1988‏) الذي ترجمناه وصدر عن دار سطور في بغداد 2017. ذات ?يوم، ?في ?29 ?نوفمبر ?عام ?1963، ?وجد ?سكان ?ليننغراد، ?الذين ?لم ?يسمعوا ?حتى ?ذلك ?اليوم، ?باسم ?برودسكي، ?في ?صحيفتهم «?لينينغراد ?المساء» ?مقالة ?نقدّمها ?اليوم، ?بعد ?مرور ?ربع ?قرن ?إلى قرّاء «الاتحاد الثقافي».

?المتطفل ?الاجتماعي ?على ?هامش ?الأدب. ?شاب ?صغير، ?يدّعي ?نظم ?الشعر، ?ظهر ?منذ ?بضع ?سنين ?في ?الحلقات ?المتسلّقة ?والطالعة ?حول ?الأدب ?في ?لينينغراد، ?يرتدي ?سروالاً ?من ?المخمل، ?ويحمل ?بيده ?حقيبة ?مليئة ?بالأوراق ?التي ?لا ?يفارقها ?أبدًا، ?في ?الشتاء ?يخرج ?دون ?قبعة، ?وشعر ?رأسه ?الأشقر ?مغطى ?بكتل ?الثلج· ?أصدقاؤه ?يطلقون ?عليه ?بكل ?بساطة - ?أوسيا- ?والآخرون ?يسمونه ?باسمه ?الكامل: ?جوزيف ?برودسكي· ?
كان ?يتردّد ?على ?جمعية ?الكتّاب ?والأدباء ?المبتدئين ?حيث ?كانت ?اجتماعاتهم ?تعقد ?في ?بيت ?الثقافة، ?لكن ?الشاعر ?بالسروال ?المخملي ?قرّر ?أن ?العمل ?مع ?الجمعيات ?الأدبية ?لم ?يكن ?جديرًا ?بطبيعته ?السخية، حتى إنه ?بدأ ?يلمح ?للشباب ?الآخر ?في ?تلك ?الجمعيات ?بأن ?من ?شأنه ?تعطيل ?الإبداع. ?بأي ?شيء ?كان ?هذا ?الشاب، ?الواثق ?كثيرًا ?بنفسه، ?يسعى ?إلى ?الدخول ?في ?الأدب، ?وفي ?جعبته ?لم ?تكن ?سوى ?عشرين ?قصيدة، ?مكتوبة ?في ?دفتر ?مدرسي، ?والجميع ?يشهد ?على ?تعاسة ?رؤيته ?للعالم ?مثل ?قصائد: ?المقبرة ?سأموت.. ?سأموت.. ?وعناوين ?هذه ?القصائد ?كافية ?لأن ?تشكّل ?فكرة ?عن ?الاتجاه ?الذي ?يميّز ?أعمال ?برودسكي، ?وأنه ?يقلّد ?الشعراء ?الذين ?يبثون ?التشاؤم ?وعدم ?الإيمان ?بالإنسان، ?وأشعاره ?تعبر ?عن ?الانحطاط ?والحداثة ?والفوضى ?الأكثر ?ابتذالاً ?ومحاولاته ?لم ?تكن ?تدعو ?إلا ?إلى ?الرثاء؟ ?كالقصيدة ?التي ?كتبها:
«أعيش في الشوارع/‏‏ خطواتي مثل المقص/‏‏ أتقدّم بهدوء/‏‏ عبر اليوم الأبيض، في مفترق الطريق، مثلما أمشي على الورق/‏‏ أية مسيرة، في الاتجاه المعاكس، في الظلمات».

صناعة المذنب
تم إلقاء القبض على الشاعر الشاب برودسكي، وبدأت عملية صناعة المذنب، ووجت إليه اتهامات عشرة: الاتهام الأول: يبدو أن برودسكي تسلَّق سلالم التطفل الاجتماعي وحده..هكذا؟ المجتمع السوفييتي محكوم بالسلطة الجماعية، وهذا الشاب الأصهب يريد أن يدخل بمفرده في الأدب، ويتجاوز النظام المبني؟ توجد روابط أدبية حيث يتمكن الشباب من أن يتعلّموا تحت عصا الأساتذة المعتمدين.
الاتهام الثاني: إن جميع قصائد برودسكي «كتبت في دفتر مدرسي صغير» تشهد على الرؤية الكئيبة للعالم من قبل كاتبها، وكل تمرّد ضد السلطة الجماعية يسمح بالتفكير في الموت.. وهل سبق أن رأيتم ذلك عند إنسان سوفييتي؟ و«رعايانا» يجب أن يكونوا متفائلين، «الحياة أصبحت أفضل، بل أكثر ابتهاجًا» كما أكد ستالين.
الاتهام الثالث. وقد تحدّثنا عنه آنفًا عن «الانحطاط» و«الحداثة»، وبعبارة أخرى، وبموجب المصطلحات السوفييتية المستخدمة، فإن برودسكي بورجوازي وغريب على الواقعية الاشتراكية.
الاتهام الرابع: «إنه يفتقر إلى المعرفة والثقافة.. أية معرفة يمكن أن يمتلكها جاهل، شخص لم يكمل حتى دراسته الثانوية؟» هنا أيضًا، إنه انتهك القوالب الجاهزة: «يجب على الإنسان السوفييتي أن يتتبع المسالك والمناهج التي تقررها السلطات، ولا يمكن قبول رجل متعلّم ذاتيًا، وهذا ليس إلا شكلاً من أشكال النزعة الفردية البرجوازية، وكل محاولة للتحرّر من الطريق المرسوم يشكل طريقة للتمرّد.
الاتهام الخامس: قصيدة «الغموض» لبرودسكي، توجد بالفعل، وهي معنونة بـ «تطواف مقدّس» عرفت نجاحًا كبيرًا بين أوساط الشباب في سنوات الستينات، وهي قصيدة استعارية رمزية، لم تهدف إلا إلى إثارة غضب نقّاد الحزب.
الاتهام السادس: أجهد برودسكي نفسه ليشارك في القراءات العامة، واستنهض اهتمام  «الشباب غير الناضج» الذين ينبحون مثل الكلاب من النشوة».. خطر رهيب! تمرّد ضد السلطة الجماعية دون ارتباط بأي تنظيم، يريد أن يمارس تأثيرًا على الشباب، هنا نحن نمس التمرّد.
الاتهام السابع: لم يكن جوزيف يعمل، كسول ومتطفل لا يفعل شيئًا سوى كتابة الأشعار الرديئة، سواء كانت أشعاره جيدة أم رديئة، ليس هذا جوهر المشكلة: كتابة الشعر ليست مهنة مثلما يعمل جميع الناس الذين يذهبون إلى المصانع أو يكنسون الشوارع، وإلا فالإنسان يعيش «وجودًا خاليًا من الأحاسيس ودون فائدة للآخرين».
الاتهام الثامن: المحيطون بالشاعر برودسكي، كلهم من الذين لا يؤيدون الواقعية الاشتراكية. الاتهام التاسع: يتشكى برودسكي من اضطرارات الحياة مثل أي واحد يكذب: «.. العيش والكذب، يخترع الحكايات العجيبة حول الحياة». الاتهام العاشر: كما قال برودسكي في كل الرسائل «نضج من خطط خيانة وطنه منذ زمن طويل». وعلى هذه الجريمة كان من الممكن أن تحكمه المحكمة بالموت، أجل، برودسكي كان مستعدًا لخيانة وطنه، مع صديق، ذهب إلى المطار، وكان يخطّط من أجل الاستيلاء على طائرة ليهرب إلى الخارج.

 

 

 

وقائع المرافعة الأولى

تمت المحاكمة في حي ديرجنفكي، في مدينة لينينغراد، شارع فوزتانيا،
رقم 26 .
القاضي: سافيليفا في 18 ?شباط ?/‏‏ ?فبراير ?من ?عام ?1960.
القاضي: ما هي مهنتك؟
برودسكي: أكتب القصائد، وأقوم ببعض الترجمات وأفترض.
القاضي: احتفظ بافتراضاتك لنفسك. اعتدل بقامتك ولا تتكئ على الحائط، وانظر إلى منصة المحكمة، وأجب على الأسئلة كما يلائم المحكمة. (أي وجه إجابتك إلى)، وامتنع فورًا عن تسجيل الملاحظات وإلا طردتك (الكلام موجه إلى الشاعر برودسكي): هل تمارس عملًا  منتظمًا؟
برودسكي: كنت أفكر بأن عملي منتظم.
القاضي: أجب على الأسئلة.
برودسكي: أكتب القصائد وأفكر بأنها ستنشر، وأفترض.
القاضي: وماذا نفعل بافتراضاتك، أجب على السؤال المحدد: لماذا أنت عاطل عن العمل؟
برودسكي: إني أعمل في مجال كتابة القصائد.
القاضي: لا يهمنا ذلك، ما نريد أن نعرفه، مع أي مؤسسة تعمل وما هي علاقتك بها؟
برودسكي: كان لدي عقود مع دار النشر.
القاضي: وهل تمتلك ما يكفيك للعيش؟ ما هي؟ ولأي تاريخ يكفيك؟ وأي مبلغ؟ حدد ذلك.
برودسكي: لا أذكر بالضبط. كل المعلومات لدى المحامي.
القاضي: لكني أستجوبك أنت.
برودسكي: ظهر لي كتاب من ترجمتي في موسكو، (ويذكر له العناوين).
القاضي: ما هي تجربتك المهنية وكم تستغرق من الوقت؟
برودسكي: يعني تقريبًا.
القاضي: ليس تقريبًا، هذا ليس جوابًا.
برودسكي: خمسة أعوام.
القاضي: أين عملت؟
برودسكي: في مصنع… ومع طاقم من الجيولوجيين.
القاضي: ما هي المدة التي عملت بها في المصنع؟
برودسكي: عام واحد
القاضي: وبأي صفة؟
برودسكي: عامل.
القاضي: ما هو اختصاصك بصورة عامة؟
برودسكي: إنني شاعر، ومترجم.
القاضي: من يقرر أنك شاعر؟ ومن صنّفك بين الشعراء؟
برودسكي: لا أحد.. (من دون أي تحد) ومن صنّفك بين بني البشر إذن؟
القاضي: وهل درست لتحقيق هذا الهدف؟
برودسكي: أي هدف؟
القاضي: هدف أن تصبح شاعرًا، أنت لم تحاول إكمال دراستك العليا وتحضر نفسك من أجل أن تتعلم.
برودسكي: لم أكن أفكر بأن هذا الشيء يمكن تعلمه على مقاعد المدرسة.
القاضي: إذن… كيف تصبح شاعرًا؟
برودسكي: أفكر بأن.. (وهو مشوش)… هذا الشيء هبة من الله.
القاضي: هل لديك طلب التماس وإعادة نظر تقدمه إلى المحكمة؟
برودسكي: أريد أن أعرف لماذا ألقي القبض عليّْ؟
القاضي: هذا سؤال وليس طلب التماس وإعادة نظر.
برودسكي: في هذه الحالة ليس لدي طلب التماس وإعادة نظر أقدمه.
القاضي: هل للدفاع أسئلة؟
المحامية: أجل. أيها المواطن برودسكي، هل أعطيت الأموال التي جنيتها لأهلك؟
برودسكي : نعم.
المحامية : هل يعمل والداك أيضًا؟
برودسكي : إنهما متقاعدان.
المحامية : هل تعيشون معًا؟
برودسكي: نعم.
المحامية : بالنتيجة إنك تساهم بمواردك في ميزانية العائلة.
القاضي : أنت لا تطرحين الأسئلة بل تعممين، وتستعدين على استخلاص الأجوبة، لا تعممي بل اطرحي الأسئلة.
المحامية : أنت مسجل في مصح عقلي.
برودسكي : نعم.
المحامية : هل كنت مريضًا؟
برودسكي : نعم، منذ نهاية ديسمبر 1962 ?حتى ?يناير ?من ?هذا ?العام ?في ?موسكو، ?في ?ملتقى «كاشنوف»?.
المحامية : ألا تعتقد بأن تمردك هو الذي أدى بك إلى عدم الاحتفاظ بالعمل ذاته لمدة طويلة؟
برودسكي : ذلك ممكن بالتأكيد، في الحقيقة لا أعرف شيئًا، كلا، لا أعرف شيئًا.
المحامية : ترجمت قصائد لشعراء كوبيين.
برودسكي : نعم.
المحامية : ترجمت مجموعة قصائد إسبانية ملحمية.
برودسكي : نعم.
المحامية : كنت في علاقة مع قسم الترجمة في اتحاد الكتاب؟
برودسكي : نعم.
المحامية : أطلب من المحكمة أن تضيف إلى الملف تأييد مكتب المترجمين، قائمة القصائد المنشورة، نسخة من العقود «تقوم المحامية بإحصائها»، والتلغراف التالي: «الرجاء الإسراع بتوقيع العقد»، وأطالب بأن يجري المواطن يرودسكي فحصًا طبيًا، لتقرير حالته الصحية والإقرار بأن حالته الصحية لا تسمح له بالقيام بعمل منتظم.
ومن جهة أخرى، بأن يطلق سراح المواطن برودسكي من دون تأجيل وأعتبر بأنه لم يقترف أية جنحة ولا يستند اعتقاله إلى أي أساس قانوني، وأنه يمتلك عنوانًا ثابتًا ويمكن حضوره للمحكمة بإعلام قضائي.
(ينسحب أعضاء المحكمة للمداولة، وبعدها يأخذ القاضي مكانه ويقرأ القرار: «يجب إخضاع برودسكي إلى الفحص الطبي النفسي الذي يجب أن يقرر فيما لو كان يعاني من مرض نفسي أم لا، وفيما لو يتعارض هذا المرض مع إرساله إلى الأشغال الشاقة في المناطق البعيدة. وبناء على ما نجم من ملفه الصحي بأن برودسكي يرفض المستشفى، فيمكن للمليشيا/‏‏ الفرقة 18 ?أن ?تسوقه ?إلى ?الخبير ?النفسي».
القاضي: هل لديك أسئلة؟
برودسكي: أريد أن تزودوني بالأوراق والأقلام في خلية سجني.
القاضي: وجه طلبك إلى رئيس المليشيا.
برودسكي : سبق وأن طلبت منهم ولكنهم رفضوا ذلك، إنني أطالب بالأوراق والقلم.
القاضي: (غير نبرته قليلًا) حسنا سأحاول الطلب بنفسي.
برودسكي: شكرًا.
(وعندما انسحب الجمهور من صالة المحكمة، لاحظنا جمهرة من الناس، وخصوصًا الشباب الذين ينتشرون في الممرات والسلالم).
القاضي: لم أفكر بأن يشهد المكان هذا الاكتظاظ من البشر.
صرخ أحدهم : لا يحاكم شاعر كل يوم.
القاضي: شاعر أو غير شاعر… بالنسبة لنا لا يغير شيئاً.
هذه المحاكمة تكشف عن مدى هيمنة السلطة السوفيتية آنذاك على كل مرافق الحياة حتى على الإبداع، إذ كان من الممنوع أن يكتب الكاتب أو الشاعر أي عمل أدبي دون أن يكون اتحاد الأدباء السوفييت على علم به، بل هو الذي يوجه أفكار الكاتب او الشاعر. كما أن الواقعية الاشتراكية كانت نوعاً من القانون الأدبي الذي يكتب في إطاره الكاتب أو الشاعر. ولم يكن للشاعر مهنة، ومن المضحك أن المحكمة اعتبرته شاعراً ميتافيزيقياً ويهتم بمشكلات الكائن البشري الداخلية فقط، والحياة والموت والأبدية، وهذه تهمة كبيرة لأنه يكتب خارج الإطار المرسوم. كان القاضي في وضعية صعبة. فقد تلقى أمرًا بأن يلحق ببرودسكي أقصى العقوبات من لجنة الحزب أو من جهاز الـ «كي جي بي».

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©