السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غزل الطبيعة (1)

غزل الطبيعة (1)
18 فبراير 2009 23:00
عندما نتأمل دواوين الشعراء الكاملة نجد أنفسنا حيال عوالم فردية شاهقة، تنتظم فيها صور النفوس وأشكال الحيوات، لكننا فى صحبة كتب المختارات نطالع حركة الشعر وهو يبني تقاليده ويصنع سننه، يرسم لوحاته الجمالية الجماعية، على تناوب الأقلام والألوان والخطوط· نرى كيف تختزن هذه الذاكرة الكلية صورا متجاورة ومتحاورة؛ تحدد أفق الشعرية، وتفتح نوافذها العديدة المتجددة· فمشهد طبيعي واحد يثير مخيلة زمرة من الشعراء بأشكال مختلفة، مما يسمح لنا بتأمل طرائق القول والتعبير ومداخل الكلام الفني العجيب· هذا ''السريّ الرفاء'' يعقد فصلا بعنوان ''في تثني الأغصان وتعانقها'' يورد في أوله أبيات شاعر شبه مجهول يسمى ''ابن مُكلّم الذئب''، يقول فيها: شموسٌ وأقمارٌ من الزهر طُلَّعُ لذي اللهو في أكنافها مُتمَّعُ كأن عليها من مُجاجة طلّها لآلئ إلا أنها هي أنصعُ نشاوى، تثنيها الرياح فتنثني فيلثم بعض بعضها ثم يرجعُ ويحدرها عنها الصَّبا، فكأنما دموعٌ مراها البين والبين يُفجعُ وبقدر ما تتحول الأغصان إلى صبايا مائسات، يطلع الزهر في أكمامها مثل الشموس والأقمار، وتنعقد قطرات الطل عليها بشكل أنصع من اللآلئ، ثم تنثني نشوى ليلثم بعضها بعضا قبل أن تهزها الريح فيتساقط الندى فيها مثل دموع الفراق الفاجع، بقدر ما تتبدى لنا هذه الصورة في عين ''ذي اللهو'' واللعب والخيال من الشعراء، نجد خبرا طريفا في كتاب آخر هو ''بدائع البدائة'' يورد هذه الأبيات ذاتها منسوبة لثلاثة شعراء ضمهم مجلس في بستان لابن مقبل، وفي البستان نرجس تميل به الريح، فقال صاحب البستان البيت الأول، وقال محمد بن مجمع البيت الثالث، وقال ثالثهم، الأشعثي، البيتين الثاني والرابع، في لون من الرسم الجماعي الطريف الذي يحلو للشعراء عندما يلتقون، فتتشاجر قرائحهم وتتكامل أبياتهم في مقطوعات من العزف الجماعي البديع· دون أن يمنع ذلك مؤلف كتابنا الذي عزا الأبيات لشاعر واحد أن يعلق عليها قائلا: ''أحسن في هذا الوصف واستوفاه'' ثم يضيف ''واستجاره أبو عبادة ـ أي البحتري ـ في قوله: كأن العذارى تمشت بها إذا هبت الريح أفنانها تعانق للقرب شجراؤها عناق الأحبة أسكانها وهو لا يقصد بكلمة ''استجاره'' أنه قد صدر عنه أو تمثله أو أخذ منه، بل أجاد في تمثيله على طريقته· وربما بدا لنا أن الأبيات الأولى أوفق شعريا مما تمخضت عنه قريحة البحتري، فهي تضمر التشبيه ولا تظهر أداته، وتجعل الأغصان نشوى بطريقة إنسية، وحركة التقبيل ثم الرجوع أوضح من العناق المستمر· على أن كلمتي شجراء ـ بمعنى الشجر المتشابك ـ وأسكان بمعنى الأحباب الذين يسكن بعضهم إلى البعض الآخر أصعب مراسا من تلك الصورة الأولى التي ابتكرتها مخيلة ''ابن مكلم الذئب'' في رواية، أو هذه الجماعة من الشعراء في رواية أخرى، مما يشف عن أثر هذا المخيال الجماعي المفتون بغزل الطبيعة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©