الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأرجوحة

الأرجوحة
5 يوليو 2012
أهدهد نفسي. منذ زمن بعيد اخترت أن أحافظ على هذه العادة القديمة لأنني أريد أن أشعر بأنني أوجد فوق هذه الرقعة الصغيرة بدون ارتباك. لذلك أهدهد نفسي وأشعر بشيء ما... شيء غريب يخرج من الروح ويتناثر في الهواء. وكلما عدت إلى أرجوحتي لأهدهد نفسي، لا أريد أن أسمع بأنني غادرت الطفولة منذ زمن بعيد جدا، فما زلت أشعر بأنني طفلة رغم أن أمي لم تعد تقف خلف ظهري وذلك فقط لأنها غادرت هذا العالم. لو كانت هنا، لأمسكت بالجزء العلوي من ظهري وقذفتني ببطء حتى أخلق الخط نصف الدائري في الهواء وأعود إليها، كنت أشعر بأنها تحس بالطمأنينة حين أعود إليها. كانت تقول إنها لا تريدني أن أغرد فوق السحاب، ولذلك كانت ترسم لي نصف دورة فقط، وكنت دوما أشعر بأنها تقيس المسافة التي لا ينبغي أن أتجاوزها، فأعود إليها وقد غنمت من عودتي بيدها التي تمسك بي وكأنها تريد أن تحتمي بطفولتي إلى الأبد. كنت دوما أشعر بالفرح. كان ذلك الفرح الصغير مغلفا بالشوكولاته النائمة في حضن أمي، وأعرف بأنها تخبئ لي في صباح الغد شوكولاته أخرى لألتهمها وأنا أتأرجح بكل الفرح. لم تكن ألوان الطيف تفرش لي سوى قوس قزحي ينتظرني كلما ركبت الأرجوحة وأنا أتهدهد وأحيانا كنت أجدني فوق فراشي. وكانت أمي تنبئني بالنوم الجميل. أهدهد نفسي... أفقت بعد أن تمزقت حبال الأرجوحة، وقمت بإصلاحها، لكنها سقطت من جديد، ولم أعرف لماذا، خمنت بأنني بدأت أطير أكثر من المعتاد، وأنني لم أعد أرسم نصف دورة، بل صرت أطير وأطير وكأنما نبت لي جناحان كبيران، ليس كما كانت أمي تقول لي: أنت فراشة صغيرة، لا ينبغي أن تحلقي أكثر من المعتاد... في الممر، رأيت جسدي في المرآة، وانتابني ذعر شديد، حدقت في الملامح جيدا... أنا جسد كبير، وليس هذا فقط، أنا جسد مترهل. لا أدري من أين داهمته كل هذه الشحوم الثقيلة، وعيناي غارتا في وجهي، من فرط اللحم، فلم أعد ذلك الجسد الصغير الذي يتأرجح كالفراشة النحيلة، أصبحت جسدا آخر... لا يستطيع أن يطير بخفة، لأنه سيقع. لكنني أريد أن أطير. لماذا لم تعلمني أمي السطو على السحاب وتبديده، لماذا رسمت لي نصف دورة كي أعود، ورجتني ألا أكتنز، وكانت تمنحني الشوكولاته مرة واحدة في الصباح؟ عفوا أمي، لا أستطيع أن آكل علبة واحدة في الصباح، فأنا أخبئ في بيتي العديد من علب الشوكولاته وآكل في كل دقيقة، كلما شعرت بمرارة أمد يدي لعلب الشوكولاته وألتهمها دفعة واحدة كي أشعر بالحلاوة والخفة. أعرف ما تقولينه لو رأيتني الآن، سترددين بيتك الشعري المأثور. لا أستطيع يا أمي، وليس ذلك البيت صحيحا، فكلما كبرت النفوس ازدادت رغبة في التهام كل شيء كي تخفي ضعفها الخاص. وأنت عودتني أن تكوني وراء ظهري، وحين لم أعد أجدك، احتفظت بعادة الأرجوحة والشوكولاته، ولكن على طريقتي. فأنا أهدهد نفسي في كل لحظة أشعر فيها بالقرف، وباختلال الألوان التي كنت أراها بديعة مثل كل الفراشات الجميلة التي كانت تملأ الحقول المجاورة ودفاتر الرسم. الألوان لم تعد هي الألوان ذاتها، و كلما ابتعدت تلك الألوان بدأت تشحب. أنام فوق أرجوحتي وأغيب تماما عن العالم، أشرد كثيرا، وأقول: هل أملك أن أستعيد الخريطة من البداية؟ هل أستطيع أن أعيد السطو على طفولتي الغابرة كي أكمل الدورة؟ تقول أمي: إنها نصف دورة، وهي لذلك تكسر الشهر، هكذا هي، ولا تستطيع أن تكون دورة كاملة في الهواء، لأنها نصف دورة فقط، وهي تقسم زمننا إلى نصفين، لذا هي تذهب وتعود، وتتكرر، وكلما تكررت نبدأ زمنا آخر يستيقظ من جديد. كنت أشعر بأنها إيقاع للزمن، لذلك كلما حلت الدورة، ألتهم الشوكولاته بنهم بالغ، وكأنني أحس بأن جسمي يرغب أن يزداد حلاوة لأنه في كل دورة يفقد جزءا من الزمن القادم. أهدهد نفسي، وأتساءل: كم يتبقى من الدورات القادمة التي تحتفي بالزمن؟ كم أمتلك من علب الشوكولاته الجميلة التي تحلي الجسم وتزيده تلفا؟ في ذلك المنزل، لم يعد أحد هناك حين غادرت أمي. كنت أنتظر أن يغادر أبي، لأنني لم أعد أستطيع أن أعد له ما يريد... وكأنه فهم رغبتي، فانسحب من الزمن وبقيت دقات الساعة الرتيبة تتكرر وأنا أعانقها باستمرار، وكأنني أخاف أن تخط الدورة الكاملة ولا تعود، لذا فأنا أستمع إليها وهي تؤذن ببداية الدقائق الجديدة على رأس كل ساعة وأقول لها: هيا لا تتوقفي... في ذلك اليوم، كان ذلك الرجل الوقح يسخر من حجم جسدي، أخبرني أن الفتيات كالفراشات، وأنني ينبغي أن أرمي بهذا الحجم إلى الجحيم كي أبدو فاتنة، وبأن ملامحي اختفت وسط جسدي الغريب. كنت أرغب لو أنه يعشقني أنا لا أن يعشق جسدي، أخبرته أن الأجساد تترهل وتتحلل وتنحل ثم تذوب في الزحام وأنا عشقته في الزحام، ولا أريده أن يغادر أرجوحتي الصغيرة، أردته أن يتأرجح معي لأن الزمن بليد وتافه، ولأنني بقربه أحس بدفء ناعم يشعرني أنني ما زلت طفلة. وكنت أرسم ملامح وجهه على دفتري الصغير، لكنه أخبرني بأنني لم أعد طفلة، وانسحب. كان شرسا ذلك الرجل، هو يريد مني أن أتغير لصالحه هو، ويكره أرجوحتي، لأنه لا يريد أن يحيا بين السماء والأرض... هكذا كان يردد بديموقراطيته الخبيثة، وربطة عنقه المنظمة، كان يبدو أنه يريد خطا أحاديا فقط، وأنا أكره ذلك... لم أستطع أن أعيده إلى مملكتي، فأمي لم تعلمني كيف أطير... كانت ترسم لي نصف دورة، وأنا أعود في كل حين لأستعيد الخطو وأكرر نصف دورة وأخاف أن تكتمل لأنني سأموت... مع الأيام تعلمت حرفة الرسم على الحرير، وبدأت أنجز أشكالا عنيفة، واتخذت من الأرجوحة رمزا يؤطر كل الأشكال الهندسية التي أرسمها، حتى صارت دليل السيدات على جودة عملي، الكل يبحث عن الأرجوحة خاصة حين وضعت جسدا عاريا يريد أن يمتطي الأرجوحة، لم يكن الجسد رشيقا، ولا مثيرا بل كان ضخما، غير عابئ بأي شيء، وكانت نظرة المرأة إلى مدى بعيد، كأنها ترغب أن تلعب فقط، وأن تعيش ذلك الزمن، أو تلك اللحظة... بدأت أغيب تماما عن كل شيء، وأقوم فزعة في الليل، وأنقض على الأثواب أغرس فيها قلقي، فيتشكل وأبحث... وأبحث بقلق عن الشكل الذي أريد وأرغب ولكنه ما زال بعيدا، لذلك أتلاعب مع النهاية لأنني لا أريد أن أصل إلى ذلك الشكل الذي أبحث عنه، أحيانا أتخيله ولكنني حين أرغب في أن أنقله على الثوب يضيع، أذهب إلى حديقة بيتي وأتأرجح، أصعد إلى السماء ثم أعود، أهيم في كل تجاه، لم يعد يهمني أن أتأرجح بنظام، بل أترك القيد وأذهب في كل الحلم... لكنني صعقت في ذلك اليوم حين شعرت بأن ماردا بدأ يقذف بي بكل تجاه، بدأت أحاول العودة، لكنني لم أتمكن، حاولت أن أضع قدمي على الأرض، لكن الأرض كانت بعيدة، كنت أطير، وكنت خائفة جدا... وبدأت أصرخ بكل قوة، لكن لم يكن معي أحد ليوقف هذا الضغط... ناديتها، رجوتها أن تتوقف، أعلنت لها احترامي، وبأنني لن أكرر ذلك، لكنها لم ترضخ ولم تسمع، كانت كجني يريد أن يغيب وبدأ المطر يتهاطل والليل يقبل. كنت أشعر بخوف وأسمع صوت صرير الحبال وكأنها ترغب أن تعاند الزمن... رجوتها أن تتوقف، لكنها لم تسمع... وأخيرا سقطت... في فراشي، كنت أشعر بخفة كبرى لم أكن قد شعرت بها من قبل، كان جسدي رغم بدانته يحلق، وكنت أنتعش بطفولتي التي أعيشها رغما عنها، وأدركت أن الزمن في حاجة إلى أطفال يكبرون بطفولتهم... لأول مرة أعشق جسدي البدين وأرغب أن أواجه به العالم، وأن يقف هناك صامدا وسط الريح... لا يهمني أن يشبه الأجساد الأخرى، ولا يهمني أن تكون له عاداتهم... في كل يوم، أبحث عن ثوب جديد، أنقل إليه كل حروبي الصغيرة، لكن الأرجوحة لن تبرح ثوبي، ولن أستأصلها من الثوب، وهي اليوم تمد يدها لتلك السيدة العارية الضخمة الجثة وغير العابئة بالزمن... أهدهدني... أنقل جسدي في الهواء وأطير، أعرف أن المارد قد يأتي ولكن لا يهم، فأنا أنتظره من حين لآخر لأزوبع جسدي وأتحرر، أرمي برأسي إلى الخلف، وأجعله يسقط، أتخيل أن جسدي المصلوب دون رأس يتخذ وضعا أجمل... * قاصة مغربية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©