الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موجة على اليابسة...

موجة على اليابسة...
6 يوليو 2011 19:58
حاول العرب منذ فجر ثقافاتهم وإبداعاتهم أن يقابلوا فنهم بالطبيعة، وبمفهوم آخر أن الطبيعة المكانية تمنحهم أسلوبهم الفني، وكأنهم بذلك يعبرون عنها - أي الطبيعة - بخصائصها الفنية، حيث يقرأون ما فيها من سمات جمالية تمنحهم شعوراً بالمماثلة. وكل ذلك لدى العرب غير خالٍ من الغرض والغاية والروح الشاعرية التي يمنحونها لأعمالهم من أجل السمو بها إلى مراتب الجمال العليا، التي دائماً ما كانوا يطمحون للوصول إليها. لنأخذ مثلاً الفن الإسلامي، الذي هو نتاج ذهنية عربية خالصة، حيث دخل في المعمار والتشكيل والزخارف والذي حمل رموزاً رائعة، هذا الفن أراد له العرب أن يكون عربياً بلا منازع، لذا ابتكروه تعبيراً عن فكرة لنلخصها كالآتي.. رسم العرب المسلمون قباب المساجد مشابهة مع تكور السماء وهي سماء المسجد التي تضارع سماء الكون, ولأن المسجد أكثر الأماكن نقاء وجمالاً وطهارة كان لابد لهم أن يبعدوا عنه الجن والمردة والعفاريت، وعليه لابد لهم أن يبتدعوا طريقة لمحاربة هذه المخاوف، وذلك بأن ينسجوا شبكة أو مصيدة من الحقيقة لمحاربة الوهم، وهنا استطاعوا ببراعة اكتشاف الشبكة أو المصيدة التي اطلق عليها “فن الآرابسك”، الزخرفة المتشابكة، المتولدة من ذاتها والتي لا تنتهي أبداً، فأحاطوا الفراغ بها، بل احتوت جسد قبة المساجد من أجل خلق منع وتحريم عندما تملأ المساحات الفارغة للبياض التي شكلت أرضية القبة من الداخل والخارج، إنها تطارد الوهم وتحتويه، بل تشتبك معه في صراع أبدي، خلق هذا الصراع فناً تميز به العرب وحدهم. ومن خلال ذلك نتساءل، هل نحن فعلاً يمكن أن نقرأ امتلاء الفراغات والمساحات تلك بدلالة معنى أو غاية كان يحاول الفن الإسلامي “الآرابسك” أن يكرسه أم أن الأمر خالٍ من الدلالة. من المؤكد - كما يبدو - أن الفنان الإسلامي، كان يحاول أن يجد له فناً يتميز به، وهو هاجس جميع علماء الإسلام ومبدعيهم وخير استشهاد على ذلك ما قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي مخاطباً ربه، وهو يقف بين أركان الكعبة المشرفة “ربي ارزقني علماً لم يتوصل إليه أحد من قبلي” وصدق الله سبحانه وتعالى فأعطاه علم العروض الذي لم يسبقه أحد فيه. الفنان الإسلامي كان يعي أنه قد اكتشف علماً لم تتوصل إليه البشرية من قبل وهو “الآرابسك” بعيداً عن التأويل وقسر المعنى، إذ هو لم يفلسف قضية الاحتواء الأخطبوطي لهذه الشبكة أو المصيدة اللامتناهية لكل ما هو مدنس للمكان. ثنائيات تقابلية إذاً ماذا يريد هذا الفنان وما الغاية من هذا الفن الجديد؟ يشير كثيرون إلى أن الفنان المسلم كان يحاول تشظية الفراغ أو لنقل أن يملأ الفراغ الحيادي الذي لا يمتلك أي دلالة بجسد يمتاز بحس جمالي، وكأنه يقيم على أنقاض التشظي في الفراغ كياناً متماسكاً يمتلك جماليته المبهرة. هنا نبدأ في اكتشاف ثنائيات تقابلية تدعونا لتأملها في فن العمارة وهي تشظي الفراغ/ تماسك العمل الفني الذي يشغل هذا الفراغ. ولو عدنا إلى موضوعنا التي طرحناه في بداية هذه القراءة لقلنا إن العرب قاربوا بين الرؤية - بمعناها البصري - والفكرة بمعناها الإبداعي حينما جانسوا بين فنونهم بوصفها تعبيراً عن فكر وبين رؤيتهم للطبيعة باعتبارها تعبيراً عن معايشة. كل ذلك يقودنا إلى قراءة تشكل جسد جسر الشيخ زايد في أبوظبي من تصميم المعمارية العراقية المعروفة زها حديد، كونه صرحاً معمارياً قلّ نظيره، كما أنه يمثل تماماً العلاقة بين مجانسة الفن للطبيعة المكانية التي اشتغلت عليها زها حديد والتي اكتشفت ما فيها من روح شعرية وجمالية عالية. في عام 1967 بني قوس صلب لجسر يربط جزيرة أبوظبي، أو لنقل المدينة الوليدة بالبر الرئيسي خارجها، ثم بني الجسر الثاني في سبعينيات القرن الماضي، حيث تماثلا في الغاية وتشابها في الشكل، وحفرا معاً في ذاكرة المكان أيقونة جمالية ظلت ثابتة لعشرات السنين، يمتلك المكان بهذين الجسرين خصائصه، كما أنهما يمتلكان خصائص المكان وكأن الطرفين يعبر أحدهما عن الآخر. قوسان متوازيان لنلاحظ أن هذين الجسرين تشكلا على نمط قوسين متوازيين أو لنقل موجتين ظاهرتين في لحظة تحدبهما، وليس هناك دلالة أخرى أقرب إلى هذا المعنى، كما يمكن أن نتصور كيف فكر بهما المنشئ. وبعد فترة طويلة جاء مشروع جسر الشيخ زايد وهو جسر ثالث عملاق بطول 850 متراً وبارتفاع 20 متراً عن سطح البحر وبقوس من الفولاذ يرتفع 60 متراً عن الماء. إنه معبر ثالث لعاصمة دولة الإمارات مدينة أبوظبي، والذي توخت فيه المعمارية زها حديد تجسيد الكثير من الرموز المكانية، حيث تشير أغلب الدراسات الجمالية إلى أنه درس أكاديمي في الهندسة المعمارية عندما تراوحت تكويناته بين الجمالي والغرضي، أو لنقل بشكل أكثر وضوحاً إن الجمالي يمتلك جماليته، ولكنه يخلق غرضيته وأن الغرضي يمتلك غرضيته ويخلق جمالية في ذاته وهذا ما سنتناوله في هذه القراءة. الجسر يتكون من كتلتين، الأولى أفقية وهي جسر مستقيم كالمسطرة يربط جانبين من الأرض، عابراً البحر، والثانية متموجة تحتل الفراغ الممتد فوق الجسر الأفقي، كما أنها تنزل إلى أسفل الجسر حتى ماء البحر مشكلاً قاعدة رافعة للجسر الأفقي، أما الأخرى التي تناظره في الأعلى والصاعدة في الفضاء والذي يشكل ثلاث انحناءات متموجة بزاوية حادة في الأعلى، فإنما تحاول التعبير رمزياً عن شكله بما يمنحنا التأويل القائل إنه تشكل متموج أشبه بالكثبان الرملية أو الموجة - بحسب تأويلنا. انحناءات ثلاث جسد أفقي وجسدان في أعلاه لانحناءات ثلاث، وفي أسفله انحناءات ثلاث مماثلة وكأن الانحناءات التحتية هي ظل تلك التي في الأعلى وهي هنا تشكل الجمالي، لكنها أي الانحناءات التحتية تمارس دوراً غرضياً حينما تغوص قواعدها الثلاث في البحر لتشكل رافعات للجسر بمجمله وكأنها لم تكتف بالجمالي فتعدته إلى الغاية والغرض، وهذا هو التعبير المبهر للمكون الجسدي للجسر. الجسر هنا يمتلك معنيين، المعنى الأفقي الرابط بين جهتين والمعنى المتموج الذي شكل بدوره معنيين، الأول جمالي يشبه تشكل الكثبان الرملية أو الموجة، والثاني غرضي يرفع الجسر كدعامة. هنا نكتشف أسلوب تشظي الفراغ، ويجعلنا لا نمر بالمكان ونخرج منه بلا تأويل أو دهشة تقودنا إلى تساؤلات حول الغاية من هذا المكون الجمالي وبكل ذلك تتجسد علاقة الكتلة بالفراغ، فلو افترضنا جدلاً أن الجسر هو الشكل الرابط بين ضفتين أو ساحلين فقط لأصبح يمتلك معنى أحادياً، لا تأويل فيه، وهو المعنى الأفقي الذي يشابه أي جسر في الكون، ولكن تحقق المعنيين الغرضي والجمالي أكسب الجسر رؤية مختلفة عن كل جسور العالم وهو امتلاك التأويل والغاية والمسحة الجمالية. احتواء الفراغ إن تعاضد العنصر الأفقي والعنصر المتموج للجسر جعل الكتلة بمجملها تحتوي الفراغ بشكل مأخوذ من المكان بما يعني تطابق الرؤية والحقيقة، الرؤية الرمزية والحقيقة الماثلة. اشتغلت زها حديد بتناسب دقيق على موضوعة “الكمي والكيفي” بما يعني أن كمية المعروض من الجسد الجمالي المتموج فوق الجسر والمعلق في الهواء يتساوى مع كمية المعروض والمغمور معاً من الجسد الجمالي المتموج تحت الجسر. هذا التوزيع الكمي جاء بكيفية متناظرة، وكأن الأول في الأعلى حقيقي نبصره بوضوح والآخر في الأسفل “المناظر له” معكوس على صفحة الماء، بالإضافة إلى ذلك جاءت الكيفية واحدة، حيث تشكل الجمالي من أربع موجات، اثنتان صغيرتان، احتلتا بداية الجسر ونهايته، واثنتان كبيرتان بينهما، حيث جاءتا في الوسط بينهما - وربما نعد الحركة الاولى غير ظاهرة لأنها امتداد طبيعي للأرض اليابسة، وبذلك تتبقى ثلاث حركات وأعتقد أن التأويل بمشابهة الحركات الثلاث تلك للموجات هو الأقرب هنا من الكثبان الرملية التي يرى فيها بعض القارئين لملامح الجسر - الموجات الثلاث يركبها العابر على الجسر كل يوم، إذ هو يعتلي الموجة المتولدة في طرف الجسر أولًا والمتكونة في البدء وحالما يصل إلى منتصف الجسر يجد نفسه وقد ارتفع مع موجته الكبيرة والتي تبدأ في الانخفاض تدريجياً حتى يصل معها العابر إلى موجة صغيرة تقوده بأمان إلى الطرف الآخر، ونتساءل هنا هل هناك عبور أجمل مما يجري على بوابة أبوظبي من هذا النسق التقابلي بين الطبيعة والرؤية، الطبيعة التي تقول إن أبوظبي لؤلؤة البحر والتي تحاذي ساحلاً متلألأً بالجمال والموجة الآتية والرؤية التي خلقت الرموز المعبرة عن هذه الطبيعة. التعبير عن الطبيعة في فن “الآرابسك” احتواء للفراغ ومحاولة خلق حالة من المعنى الروحي وفي فن العمارة هنا محاولة بناء جسد داخل هذا الفراغ، وكلاهما يقوم على أساس غرضي. الغرض هنا في الجسر هو التعبير عن الطبيعة والعبور والمشابهة التي تجعل الجسر رابطاً بين أبوظبي والعالم البري الواسع الممتد إلى صحراء بعيدة، وكأننا نبصر تقارباً في المعنى بين أرض الصحراء وجزيرة البحر أو فلنقل أن الجسر هو طريق الروح إلى البر المترامي، رحلة الإنسان إلى أرض الصحراء، إلى كثبانها الرملية، رحلة الإنسان إلى الضفة الأخرى على ظهر موجة واحدة تتحول خلال دقائق قليلة إلى ثلاث موجات. وما يجاور كل ذلك أن “برج المقطع” وسط القناة المائية يوازي المعنى الذي شيّد على أساسه الجسر إذ نقرأ فيه رمزاً للمكان كونه حامياً للجزيرة منذ أزمان بعيدة، تلك الجزيرة التي خلقت تواصلها مع العالم، بينما ظل الحارس القديم يحميها بوصفه أيقونة تعبر عن رمز ظل في الذاكرة لأجيال طويلة، إنه امتزاج الماضي “البرج” بالحاضر “الجسر”. احتواء الضفتين جسرا المقطع المقوسان القديمان ينتصفان القناة البحرية، يتوازيان ذهاباً وإياباً، بينما جسر الشيخ زايد يحتوي الضفتين اللتين تحدان القناة البحرية وكأنه الجسد الذي يمسك الأرض بكيان واحد يمتلك جمالاً وغرضاً، وبحركتين متوازيتين يتكون منهما جسرا المقطع نجد جسد جسر الشيخ زايد يمتاز بثلاث حركات التي هي جزء من نسق عرفه الإنسان منذ اكتشافه الفن ومحاولته مضارعة الفن للطبيعة، حيث “البداية والمنتصف والنهاية”. قواعد جسر الشيخ زايد ثلاث، اثنتان في ماء القناة وواحدة على الشاطئ بما يعني أنك قد عبرت بسلام إلى اليابسة من البداية حتى المنتصف الى النهاية. وربما تختصر مقولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة كل ما قلناه حينما قال: “إن هذا الجسر الذي يحمل اسم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيَّب الله ثراه” يشكل جسراً لأبوظبي ليس للوصول بين نقطتين في مدينة أبوظبي، ولكنه يشكل جسراً للتواصل في عملية التنمية والبناء التي بدأها الوالد رحمه الله”. وللعمارة رموزها، وغاياتها، وللتأويل ما يكتنزه من أشكال تعد مهمة وضرورية، وعندما تحدثنا عن جسر الشيخ زايد لا نبخس جمالية جسر المقطع الذي تقوس كالقبة، حيث ربط هذا التقوس الجميل بأعمدة طولية متقاربة ومتناظرة مع الجسد الأفقي للجسر وهو في كل ذلك يشبه انحناءة السماء الزرقاء أو هو موجتان تقوستا عند منتصف القناة التي هي إطلالة أبوظبي على عالم جميل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©