السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

البلوز.. موسيقا التّيه الانفراديّ

البلوز.. موسيقا التّيه الانفراديّ
13 سبتمبر 2018 04:01

نيقولا روسّو

ترجمة: أحمد حميدة

يرى أغلب الدّارسين في موسيقا البلوز.. ذلك الفنّ الموسيقيّ الذي انبثق من رحم معاناة زنوج أميركا ليكون ترياقاً لأوجاعهم ومكابداتهم، وليس في ذلك أيّ مجافاة للحقيقة التّاريخيّة للبلوز، فهذه الموسيقا الأصيلة المنبت، كان لها في السّياق التّاريخي موطن وعنوان.. دلتا الميسيسيبي، تلك الأرض اليباب التي كابد فيها زنوج إفريقيا لوعة الغربة القسريّة وعذابات الرقّ وصنوفاً بشعة من الظّلم والتنكيل، فجاء ميلاد البلوز هناك.. صرخة توجّع وتفجّع من فظاظة حياة الاستعباد، ومن امتهان الإنسان لكرامة الإنسان. وبوحي من ذاك الوجع، تصاعدت ترانيم البلوز مجدولة بأنين مستعر، لتكون موطناً بديلاً للوطن المفقود، موطناً تتوارى فيه وطأة ذلك الواقع المرير، ويصيب فيه النّغم الكسير.. الضّجَرَ.. في الصّميم.
خميرة ألم فاجع اختمرت على نار مستعرة هو بلوز الجذور، بلوز البدايات أو بلوز الميسّيسيبي، ولكن كم ولّد هذا الألم في عالم الموسيقا من إبداع أصيل، وجمال وقور.. رصين، وكم كانت إيقاعاته النّائحة والمنتحبة، شجيّة.. ساحرة، وكم كان يبدو في ارتجافاته وبساطة إيقاعاته وأثيريّة زفراته.. فاغماً بروائح عطور آسرة، وكم كان يبدو في انسيابه الحميميّ.. مهيباً ورجع صدى لتنهّدات القلب الكليم، المثخن بثنائيّات الحياة المغمومة.. القاتلة: تقلّب بين الفرح والتّرح، بين البسط والقبض، بين الانكسار والأمل، بين الحياة والموت.. وكم يبدو البلوز من هذه النّاحية قريناً لموسيقا الفلامنكو التي تدفّقت هي الأخرى من نافورة ألم حارق.
البلوز والفلسفة
إنّه لمن الصّعوبة بمكان تصوّر عالمين أشدّ تباعداً من عالمي الفلسفة والبلوز. فمديدة هي الطّريق التي تقود من أزقّة الحيّ اللاّتيني إلى سهول الميسيسيبّي المجلّلة ببياض القطن، ومن المقاهي الفلسفيّة بباريس إلى حانات التّينسّي المغبّرة والشّاحبة.
إنّ الشّكوى والمرثيّات والنّشيج، التي هي سمات مميّزة لهذه الموسيقا، لها إلى حدّ ما.. ما يعادلها عند شعرائنا أكثر ممّا هي عليه الحال عند مفكّرينا. أمّا فنّانو البلوز، فلم يكونوا أبداً فلاسفة، لقد كانوا يهزجون بألحان تتحدّث عن قساوة الحياة وتجهمها، عن التّيه وعن النّساء الخائنات، ولكنّهم لم يكونوا ليقترحوا أي سبيل لإدراك الحكمة. ولئن كان من الصّحيح أنّ التأمّل الفلسفي بإمكانه أن يترجم عن حالة من الـ«بلوز» الوجوديّ، تكشف عن قلق الإنسان وحيرته وإحساسه بالعدم، فإنّ إفصاحه عن ذلك «البلوز»، سوف يكون حتّى في هذه الحالة، غامضاً ومُلْبِساً. ويقول هيدغر في هذا الصّدد: «إنّ إحساسنا بالكرب هو العلامة على أنّنا لم نعد قادرين على الإقامة في هذا العالم، فيما يقول لنا هاوْلينْ وُولفْ، أحد الوجوه العريقة لموسيقا البلوز.. من ناحيته، إن الإحساس بالبلوز ينتابنا متى غدونا مفلسين وتعذّر علينا دفع إيجار البيت الذي نقيم فيه. فثمّة بالنّهاية رؤية للوجود يمنحنا إيّاها البلوز، نقرّ وفقها بقساوة هذا الوجود، ولكنّها لا تفترض إدراكاً منطقيّاً أو عقلانيّاً لذاك الوجود».
وينبغي أن نضيف، أنّه من بين الفلاسفة المولعين بالموسيقا، قلّة منهم كانت تستفزّهم موسيقا البلوز، وقد نقول لا أحد منهم. ونفس الشّيء قد يقال عن الجاز، الذي صمّ الفلاسفة المهتمّون بالموسيقا، آذانهم عن سماع إيقاعاته. فيما كان الفيلسوف أدورنو لا يرى فيه غير موسيقا غريبة وميكانيكيّة. ولا أعتقد أنّه كان لجنكيلافيتش رأي ما في هذا الموضوع.
ولكن.. فيما يتعلّق بالبلوز، ثمّة حالة استثنائيّة حقيقية.. إنّه جيل دولوز، الذي لم يتحدث بوضوح عن البلوز، ولكن أشار إليه بشكل ضمنيّ في «أبجديّته»، حين تحدّث عن النّائحات الصّينيّات، وبيّن أنّ الشّكوى التي يرسلنها، ليست محزنة كما يعتقد البعض، وأنّها يمكن أن تكون مصدراً لسعادة حقيقيّة. فليس ثمّة من شيء أجمل من الشّكوى حين تصعّد إلى مقاماتها القصوى، فيجعلها ذلك تلتقي بالسّعادة الأكثر إثارة، أي حين نشكو من قساوة الحياة وفظاظتها، من العجز الذي يعترينا في سنّ متقدّمة.. أفلا يكون جيل دولوز، وهو يتحدّث عن فنّ الشّكوى وعن بعدها الغنائي، وعن دورها في الإفصاح عمّا يكون موجعاً ومهيباً، قد عرّف البلوز على النّحو الأكمل؟
ولو كان اللّقاء بين الفلسفة والبلوز أمراً ممكناً، لكان من الضّروريّ أن يتمّ الاتّصال بينهما على صعيد مفاهيميّ، وأن يتطرّق إلى ما يكون مسكوتاً عنه. هكذا.. آثر المفكّر الفرنسيّ بيير بورديو ذات مرّة، الفرار من احتفاء مزعج نُظّم على شرفه بجامعة شيكاغو، وألقى بنفسه في قلب حيّ للزّنوج، وتحديداً في نادي مودّي ووترس، لسماع البلوز في أبهى صوره، والإنصات إلى الأصوات اللاّهجة بكلّ تعاسة العالم.
وقد نرى في تعذّر هذا اللّقاء بين الفلسفة والبلوز أمراً محزناً، وخاصّة أنّ عازف البلوز، كما الفيلسوف، يروم ملامسة ما هو جوهريّ، والنّفاذ إلى قلب ما يشكّل خلاصة حقيقتنا، على نحو قد يجعل البعض ممّن يذهبون إلى أكثر الفرضيّات جرأة، يرون أنّ الفلسفة قد تكون هي البلوز ذاته. ومن دون أن يذهب إلى مثل هذا الحدّ، سعى فيليب بارار في بحثه المشرق والممتع عن البلوز (فلسفة البلوز)، إلى استخلاص فلسفة للبلوز تتركّز على بلوز البدايات، البلوز الرّيفيّ.. المنسلّ من أهازيج الأحفاد المباشرين لعبيد مزارع القطن بعد تحرّرهم. وقد تبدو تلك الفلسفة قبل كلّ شيء.. فلسفة غير مريحة، إذ هي تستحثّ المرء إلى حالات الانفلات والتّيه، وهي الفلسفة التي باتت تجد لها صدى في مجتمعاتنا الحديثة، خاصّة في أوساط الشّباب المتأثّر بثقافة الرّوك، والذي أضحى يعيش على صفيح الحيرة أمام الكوارث التي تهزّ العالم.

موضوع التّيه
بالرّغم من أنّه انبثق من ثقافة خاصّة، وانتشر بين العبيد السّود في الجنوب، فقد غدا من الثّابت أنّ البلوز بات يكتسي اليوم بعداً كونيّاً، وأضحى يشكّل عالماً متماسكاً، يحدّد فيليب بارَارْ موضوعاته المختلفة على نحو منهجيّ مشرق: «قبل أن يتحوّل إلى موسيقا عالميّة في الستّينيات، كان البلوز عبارة عن مدوّنة أخلاقيّة مرجعيّة، جسّدها أدب شفويّ مغنّىً (كما كانت الإلياذة والأوديسّة)، سرعان ما انتشر في الضّيعات والأحياء والمدن.. وانتقل بنسق متسارع من ولاية إلى أخرى. وقد نقل معه في تلك الأثناء معجماً واستعارات وأنغاماً وبالتّالي تصوّراً آخر للعالم، وذلك عبر قصص تروي مغامرات أبطاله (موسيقيّون متشرّدون، أزواج مخدوعون، نساء تعيسات، منكوبون أقعدهم الفقر والمرض ونال من كرامتهم التمييز العنصري..»، ولكن أيضاً عبر رجاله ونسائه الذين اترعوا حبّاً وشبّانه الأحرار.. التّائقين إلى المغامرة. من كلّ هذا.. من كلّ هؤلاء وأولئك.. تشكّل عالم البلوز.
ويرى فيليب بارارْ أنّه لم يعد بالإمكان اليوم التّغافل عن المكانة المتزايدة لهذه الموسيقا، بعد انتقالها إلى العالم الغربيّ، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصّة عبر موسيقا الرّوك، التي تعدّ وريثة للبلوز، فمن وراء أصوات «لادْ زبَّلينْ» و«رولّينغْ ستونسْ»، إنّها دائماً أصوات الجيل القديم للبلوز هي التي نسمع. «لقد أصبح البلوز مرجعاً وجوديّاً ونمط حياة، وفلسفة معيشة حاضرة لدى قسم كبير من جمهور النّاس وخاصّة لدى الشّباب، الذي يخضع لتأثيرها، من دون أن يكون قادراً على تسميتها».
ولننصت في هذا الخصوص إلى ما يقوله بارارْ:
«أن نتغلّب على الوحدة بالسّفر والترحّل الفرديّ، ونترك ما هو خاصّ لإدراك ما هو كونيّ، عن طريق لقاءات عارضة ترتّبها الصّدف، فتلك جدليّة جدّ خطيرة، ولكنّها باتت منذ عقود على قدر من الانتشار لا يسمح لنا بالتحدّث عن حياة هامشيّة، حين يتعلّق الأمر بالمعيش اليوميّ لموسيقيّي البلوز. فحين تغدو تلك الفلسفة القائمة على الضّبابيّة والارتياب والعشوائيّة، نمط حياة.. تسهم في الرّفع من شأنه أجيال متعاقبة، في البلدان المتقدّمة كما في البلدان الفقيرة، يغدو السّفر والترحّل من أجل المغامرة أحياناً، بحثاً عمّا قد يبقينا على قيد الحياة».
وقد نلمس ما يشبه التردّد في كلمات هذا الكاتب: فهل تكون المحاكاة المعاصرة للتّيه الانفراديّ.. مدركة لدى التّائهين المتشرّدين أم لا؟ أم أنّها تعيد وبشكل مماثل، تشخيص الوضعيّة التي عرفها الّزّنوج في القرن التّاسع عشر؟
يبدو أنّ فيليب بارَارْ لم يحدّد موقفاً من هذا الخيار:
«إنّ الطّبقة الوسطى التي تعيش في مدن البلدان المتقدّمة أصبحت طرفاً في ذلك السّفر، إذ استوعبت هي الأخرى المبادئ الأخلاقيّة للتّيه الانفراديّ. فأكثر من كونه خياراً موسيقيّاً أو جماليّاً، فإنّ البلوز انتشر بعمق في كلّ زوايا الحياة المعاصرة». «ثم إنّ التّيه في زمننا الرّاهن يطرق نفس الدّروب التي يقطعها الموسيقيّون المتشرّدون، إنّه لتيه جغرافيّ وعاطفيّ وجنسيّ وباطنيّ واجتماعيّ».
وبالمقابل، يبيّن بارار أن تلك الفلسفة عامّة ما تكون قدوة بالنّسبة لأولئك الذين تفرّقت بهم السّبل وباتوا يشعرون اليوم بالإقصاء والضّياع، وهؤلاء هم أناس مسكونون بالموسيقا ولا يرومون التوقّف عن التّيه، وإنّما يريدون إعطاء معنى أو وجهة أو غاية لذلك التّيه. لذا.. سوف يبدو موسيقيّ البلوز أو «البلوزمان» بملامح البطل في مجال إقباله على حياة التّيه والتشرّد. وكذلك كان روبير جونسون، أحد المؤسّسين الأسطوريّين لموسيقا البلوز، الذي يقال إنّه تعلّم أسرار البلوز بعد أن يكون قد باع ليلًا، بأحد المفترقات، روحه للشّيطان..
ويصف الكاتب جيّدا تلك الحياة المليئة بالمخاطر، التي لا ينفكّ فيها «البلوزمان» عن التنقّل من مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى قرية ثانية، عبر الطّرقات، وفي قطارات يتمّ ركوبها بشكل مفاجئ. وقد يصل «البلوزمان» إلى مدينة ما، فتحتضنه امرأة لبعض الوقت قبل أن تلقي به إلى الشّارع، وقد يغادرها هو من دون سابق إعلام ليتابع سفره. كلّ شيء كان يتمّ على نحو يشِي بأنّ جيليْن من العبيد المحرّرين قد عاشوا تلك الحريّة المفاجئة في حالتها الخالصة: تيه لا يعرف حدوداً ولا غاية، كذلك تشكّل نمط حياة موسيقيّي البلوز الذين عادة ما كانوا يعيشون على الطّرقات، متنقّلين من نادٍ إلى آخر، كما لو كان من الصّعب على هؤلاء المترحّلين الاستقرار والثّبات في مكان محدّد. ولم يكن ذلك التّيه في الحقيقة سوى ترجمة عن تيه باطنيّ:
«لقد عانى الإنسان الأسود لقرون متوالية من الحرمان، بسببه كابد مرارة العبوديّة، وسُلب في حياته من إمكانيّة أن تكون له القدرة على التدبّر الواعي لشؤون حياته، إلى حدّ أنّ وظيفة التّفكير الذّاتي لم تعد لتشكّل جزءاً من قدراته العقليّة(...)، لذا كان على السّود، بشكل جماعيّ، وخلال ثمانية أو عشرة أجيال، أن يتعلّموا كيف يخفون مشاعرهم وتأمّلاتهم وارتساماتهم، وحشد كلّ ذلك في بستان سريّ، بستان سوف يتحوّل بسرعة إلى الملجأ الآمن الأوحد، الذي قد يلوذون به متى استشعروا أيّ تهديد حقيقيّ أو محتمل. إنّ الأمر ليتعلّق بشكل من أشكال المقاومة السّلبيّة للظّلم، بالانكفاء على الذّات والتّظاهر بقدر من الغباوة كانت تعزّز لدى البيض القناعة المُطَمئِنة بأنّه ليست للعبيد السّود حياة باطنيّة(...). وسوف تشكّل نزعة الانطواء تلك.. الفضاء الذي سينتظم داخله التّيه السريّ للعبيد المحرّرين، وبالتّالي ستتحوّل الشّكوى الفرديّة إلى ثقافة جماعيّة، طالما أنّ كلّ واحد من هؤلاء الزّنوج كابد عَنَت البيض ورفضهم أن تكون للزّنوج هويّة إنسانيّة».
ولأنّهم جرّدوا من إنسانيّتهم، اكتشف فنّانو البلوز في ذلك الحرمان ذاته، قلب الإنسانيّة وأوجاعها. ووفقاً للمثال الهيغلي، يكون هؤلاء الزّنوج قد أدركوا الإحساس بذاتهم، وتغلّبوا على إحساسهم بالنّفي من قبل من استرقّهم من البيض. كما يكون هؤلاء الزّنوج بالنّهاية، وبمواجهتهم للرّفض المطلق لذاتيّتهم، قد أدركوا الكونيّة.
ما تتحدّث عنه أغانيهم هي مواضيع طافحة بالعواطف، حكايات حزينة وعاديّة، تكتسي صبغة تكاد تكون ميثولوجيّة، نكتشف من خلالها نصوصاً هي من فرط بساطتها.. باهرة، فمن المضحك إلى المهيب، ومن اليأس إلى الاحتداد، يكون بوسع موسيقيّ البلوز قول كلّ ما يلامس الوجدان و«المشهد السرّي» للمكروبين.
موسيقا مجافية للسّياسة
الكحول، الاكتئاب، المخدّرات، الجنس، الموت، قساوة العلاقة بين الرّجل والمرأة.. حين تنساب في الأجواء موسيقا البلوز، تغدو كلّ المواضيع المهمة في معيش الإنسان الأسود قابلة للإفصاح. ونكتشف في كتاب بارار نصوصاً عذبة، تبرز كلّ الأنغام التي كان كبار المغنّين من أمثال روبير جونسون وسون هاوز وجون هورت.. يقترحونها، فيزيدون بأدائهم لها من ألقها وبهائها، ويجعلونها بالتّالي أكثر إثارة لدى جمهور المستمعين. وخلافاً لفكرة رائجة تميل إلى قولبة البلوز وحصره في مفهوم ضيّق، يجعله فحسب موسيقا أنين وحزن.. وصيحة شكوى من ضراوة الحياة، كان مغنّون أعلام للبلوز من أمثال مودّي ووترس، فنّانين ذوّاقين ومقبلين على مباهج الحياة. فموسيقا البلوز لا تتحدّث فحسب عن الحزن والتّعاسة، إذ هي تتناول كلّ الانفعالات البشريّة، من فرح وانتشاء وامتعاض وغضب وندم... وهذا ما يجعل تلك الموسيقا قادرة على التحدّث إلى كلّ النّاس.
وبالمقابل، وكما يبيّن بارار ذلك في كتابه، لم يكن للبلوز أبداً بعد سياسيّ، والتعبير عن الغضب إزاء الظّلم لا ينتهي عند «البلوزمان» حتماً إلى المطالبة بتغيير الوضع القائم.
«ليست موسيقا البلوز هتافاً يدعو إلى التّطاحن الاجتماعي أو السّياسيّ بصورة صريحة، وهي ليست بالنّشيد المطالب بتحقيق العدل الاجتماعي أو المساواة بين الأجناس، إذ هي تقتصر على إرسال شكوى قوامها الإحساس بالوحدة والتوحّد. كما لن ننتظر من البلوز المطالبة بإعادة الاعتبار للمرأة. ولئن استشعرنا النّزعة الذّكوريّة في هذه الموسيقا، فإنّ المرأة تتبدّى في أهازيج البلوز بملمح الكائن الأبيّ.. المتشامخ والجموح مثلما تبدو كارمن في لوحة بيزيت».
غير أنّه غالباً ما تكون موسيقا البلوز موسيقا للذّكور، يحتلّ فيها هؤلاء الدّور القياديّ، وفيها يتباكون على المرأة التي تكون قد مضت في سبيلها ولا أمل في عودتها، كما أنّهم قد يعرّضون بالمرأة التي كان عليهم منذ زمن هجرها، أو تلك التي يؤلمهم البقاء معها.. إلخ.
تتركّز موسيقا البلوز حينئذ على نقل حالة انفعاليّة، تنطوي في آن، على إقرار بقساوة الحياة وعجز عن مواجهتها. ولاشكّ في أنّ هذه الطّبيعة المزدوجة للبلوز، التي تكون في ذات الوقت، غاية في الانفعال، ومجافية بصورة كاملة للسّياسة، هي التي تكسب هذه الموسيقا بعدها الكونيّ. ولو كانت هذه الموسيقا أكثر انحيازاً والتصاقاً بالأيديولوجيا، لنبذها الكثير من النّاس، وقلّت مصداقيّتها. فنحن على رأي بول موران، نعثر في البلوز.. أي نعم.. على إنسان ثائر، ولكنّنا لا نلمس أيّ أثر للثّورة.

تيه موسيقيّ
تتواتر في موسيقا البلوز نفس المواضيع، وكأنّه بوصفه حالة انفعاليّة، وُجد ليظلّ دوماً كذلك، ولا يكون قابلاً لأيّ إضافة جديدة، غير أنّ موسيقيّ البلوز يحتاج إلى استعادة ذلك الانفعال لترجمته على نحو أكثر تأثيراً وإثارة، على غرار ويلّي ديكسون الذي جاء في إحدى تغريداته هذا التّأكيد: أنا هو البلوز. فليس التّيه في البلوز مجرّد أسلوب عيش أو فلسفة في الحياة، وإنّما هو فنّ موسيقيّ قائم الذّات: إنّ الحاجة إلى التنقّل الحرّ، الذي يشكّل أسّ تيه مفعم بالحياة، سوف يدفع بموسيقيّ البلوز أو «البلوزمان» إلى الترحّل عبر دروب الحياة وعبر النصوص التي يكتب، ولكن أيضاً عبر مقبض قيثارته ولوحة مفاتيح البيانو وفتحات آلة الهارمونيكا. وتكون الصّيغة الموسيقيّة لمثل ذلك التّيه الانفراديّ قائمة على تقنية أداء متحرّرة من القوالب الجاهزة والتّوق الجامح إلى الانفلات نحو فضاءات أرحب.. فضاءات الارتجال.
ويحتلّ الارتجال في مجال البلوز مركز القيادة، ليطال كلّ مكوّنات الأداء الموسيقي، أي البعد التّناغميّ، بنية الأغنية والإيقاع والتّوزين، ولكن أيضاً الشّعر وبنيته العروضيّة، كما سلامة النّطق واختيار الكلمات ومستوى اللّغة.
ثمّ إنّ التّفكير في جعل التّيه، ليس فحسب أسلوب حياة وحالة روحانيّة، ولكن أيضاً قاعدة تقنيّة، هو بالتّأكيد فكرة بالغة الأصالة. يكون التّيه بهذا المعنى.. هو العامل المحدّد لوجهة البلوز: أن نشرد.. ولكن أن ندرك إلى أين نحن ماضون، سواء في الحياة أو بمناسبة حفل موسيقيّ، فيتولّد لدينا الإحساس بأنّنا نمضي على غير هدى، ولكن أيضاً الإحساس بأنّ ذلك الشّرود متحكّم فيه. ونلمس هنا الجذر المشترك مع الجاز، فنّ الارتجال بامتياز، الذي ينشد حالات الكمال الفنيّ. وما يفرّق بين هذين الجنسين هو فحسب أنّ أصول البلوز كانت ريفيّة، فيما نشأ الجاز بالمدن (سان لويس نيوأورليانز). وفي هذا الصّدد يقدّم لنا بارار التّوضيح التّالي:
يعتقد الكثير من علماء الموسيقا أنّ البلوز كان قد انفصل عن الجاز، الذي كان الصّيغة الحضريّة للبلوز الرّيفيّ. لقد انفصل عن تلك الموسيقا لأنّ موسيقا الجاز أكثر تعقيداً على المستوى التّناغمي (المستوى الهارموني) وأكثر ابتكاراً، ولكنّها مركّبة بكيفيّة لا تفسح المجال لأيّ إبداع لنصوص مرتجلة. بل إنّ الكلمات في موسيقا الجاز كادت تختفي لتخلي المكان لجنس موسيقيّ يقوم بصورة أساسيّة على العزف الآلي، عزف يخلو من أيّ إمكانيّة لتمرير رسائل واضحة وجليّة.
للجاز والبلوز جذر مشترك، ولكنّهما تباعدا ليتقاطعا ويلتقيا من جدي د، كما غصني شجرة لبلاب يلتفّ أحدهما بالآخر.
ميثولوجيا البلوز
لو كان علينا أن نقارن بين الفلسفة والبلوز، للمسنا ما يفصل بين قيم التّيه الفرديّ وقيم البحث المشترك عن الحقيقة. وقد تكون ثمّة أسباب أخرى تحول من دون التقاء البلوز بالفلسفة، مثل التّعارض بين عالم العقل الذي هو عالم الفلسفة، وعالم العواطف والمشاعر الذي هو عالم البلوز.
قد ننهي هذه الخواطر بتحفّظ يخصّ القيم التي تُسند إلى فنّ البلوز: إن كانت فلسفة البلوز في الأصل تتمثّل في موسيقا التّيه الانفراديّ، فهل تكون هي الموسيقا التي نحتاجها حين تنتابنا الحيرة ويعظم بنا البلاء؟.. أوَلا يكون ذلك من قبيل الهروب إلى الأمام والإقبال على المجازفة، مجازفة قد تفاقم من إحساسنا بالضّيق والكرب؟ أو لعلّها طريقة لقهر ما نعيشه من تيه سريّ كيما نصل إلى تعبير ذاتيّ لبلائنا..
ثمّ.. ألمْ يغدُ البلوز بعد تحوّله إلى موسيقا كونيّة، ليس مجرّد شكوى انفراديّة، وإنّما فنّاً مُؤالفاً، قادراً على جمع النّاس على اختلاف أعمارهم وأوساطهم الاجتماعيّة، حول أعمال موسيقيّة بسيطة ومباشرة، تحدّثنا عن الحبّ والموت والألم؟ البلوز هو ما يتبقّى لنا حين نكون قد أضعنا كلّ شيء، وهو طاقة يأس تجعلنا، خلال تعبيراته الفنيّة، نتسامى إلى عالم أرحب. وهذا ما قد يجعله مسعفاً لليائسين، الذين يجدون في تلك الشّكوى المهيبة ما يكفي من الطّاقة لمغالبة أحزانهم. وقد نرى في ملمح المترحّل أيضاً بعداً شبه أسطوريّ ومبهر. ولكن.. ألا يكون من الأصوب في هذه الحالة الحديث عن ميثولوجيا البلوز؟

عالم ليليّ
ثمّة ما يدفعنا في موسيقا البلوز إلى الانغمار في عالم ليليّ ديونيزوسي، وفي غيابة الألم الذي يلازم حياة كلّ واحد منّا، ويجعلنا نستمدّ منه، رغماً عن كلّ شيء، طاقة طافحة بالأمل والفرح. كما تحيل تلك الموسيقا على وجود حالة تناضح مطلق بين موسيقيِّ البلوز وآلته، ثمّ بينه وبين ذاته.
يظلّ البلوز ميثولوجيا للتّيه الانفرادي أكثر من كونه فلسفة. ويجعلنا فيليب بارار نستشعر ذلك التّيه الصّموت والمربك، الذي يشبه حال رجل أسود يمشي بخطى متثاقلة تحت شمس وهّاجة، وحيداً، على حافّة طريق مقفرة في نيفادا، محمّلاً بحقيبتين ثقيلتين، والذي متى أسعفناه بالرّكوب في سيّارتنا، غفا.. كي لا يستفيق إلاّ متى وصل إلى كينغدام، ليتابع بعد ذلك طريقه.. يحدو به إلى وجهة غير معلومة.. صمت سحيق.
تلك هي تجلّيات البلوز في السّياق التّاريخي، الزّمني والمكاني، ولكن ماذا لو استوقفنا السّؤال التّالي: ما سرّ ديمومة هذه الموسيقا وتواصلها وتلوّنها؟ تحيلنا الإجابة على هذا السّؤال حتماً على بعد آخر أصيل لهذه الموسيقا، بل لكلّ موسيقا أصيلة، ألا وهو البعد الوجودي والكوني، الذي يَخْفى على عدد غير قليل من عشّاق البلوز. يقيناً أنّه لا بقاء ولا ديمومة لأيّة موسيقا ما لم تعمرها هذه الهواجس الوجوديّة والكونيّة، كما لا استمراريّة لموسيقا لا يقف فيها الإنسان على الصّفيح السّاخن للوجود ليتأمّل الكون في مرآة ذاته، ويمعن في النّداء.. طلباً لموطن السّكينة، حيث لا بلاء ولا ابتلاء، وعلى قدر تعلّق الموسيقا بذلك النّداء، يكون التّجاوز لصورها الحسيّة واستكشاف أنوارها المضمرة الخفيّة، الكامنة في سراديب اللاّوعي، والتي من معينها تنهل تلك الموسيقا بصورة لا شعوريّة، لذلك نرى شوبنهاور يعرّف الموسيقا على أنّها الإرادة الأبديّة التي يخترق بها الإنسان الحجب ليصل إلى المخفيّ عن الأنظار، فيما يعرّفها بيتهوفن على أنّها الحلقة التي تربط حياة الحسّ بحياة الرّوح، والحياة الظّاهرة بالحياة الباطنة. وإذا كانت الموسيقا بهذا المعنى ذاك الفيض الباطني، يكون من العبث أسرها في أيّ من الكلمات البشريّة، لأنّ مكمنها الرّوح، وهي مشكاة الأنوار فيها انطوى عالم الأسرار، وعندما سئل يهودي منوهين عن سرّ عظمة الموسيقا الكلاسيكيّة الهنديّة، كانت له هذه الإجابة، إنّها موسيقا تروّض الجسد، تصقل النّفس وتحيلنا إلى ما هو لا نهائيّ فينا «أليس هذا اللاّنهائي هو الكون اللاّمحدود القابع في غيابة سرّنا؟ ألا يبدو من الطبيعي حينئذ أن يبوّئ شوبنهاور الموسيقا عرش الفنون، وهي التّي تنهل من معين لا ينضب، وخلقت كي تجمّد بسحرها ما لا شاطئ له ولا قرار، ولتنقلنا بالتّالي من أسر اللّحظة الزمنيّة الزّائلة إلى رحاب الأبديّة؟
فإن جاءت موسيقا البلوز معبّرة عن آلام زنوج أميركا، فهي تحمل لا محالة ألم الإنسان حيثما كان، الإنسان التّائه في عالم الغربة، التّائق إلى حيث كان، وفي ذلك يقول شوبنهاور، إن الموسيقا عندما تعبّر عن الألم والمعاناة فإنّها لا تعبّر عن ألم الإنسان النّفسي والجسماني فحسب، ولكنّها تفصح عن الشّعور المشترك بكلّ الآلام وكلّ أشكال المعاناة، أي عن الألم ذاته من دون تلويح بأسبابه ودوافعه، لهذه الاعتبارات سوف تبقى الموسيقا.. هي التي لن تحنّط فينا أبداً.. وستظلّ كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©