الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصمت.. كلام الروح الأبكم

الصمت.. كلام الروح الأبكم
26 أكتوبر 2017 02:55
يبحث الراوي في رواية عبده وازن «البيت الأزرق» عن خاتمة للرواية التي يكتبها، ويتعثر في بحثه. ولعلكم تذكرون أن ماركيز قرر ألا ينشر روايته «نلتقي في آب» لأن ما ختمها به لم يقنعه، فكأنما هي إذن بلا خاتمة، أو كأنما ظل يتعثر في بحثه عن خاتمة حتى رحل. نحن إذن في رواية «البيت الأزرق» أمام لعبة المخطوطة التي لم تكتمل، بالأحرى أمام لعبة الرواية التي تنكتب أمام القارئ، وهي تفكر في نفسها، ولنقل: لعبة (الميتا رواية) التي ستتضاعف بشروع الراوي بكتابة/ إعادة كتابة رواية أخرى كتبها غيره، كما سنرى، لنكون أمام لعبة أخرى هي لعبة الرواية في الرواية. المخطوطة للراوي الذي سندعوه من بعد بالكاتب، قريبة تعمل في جمعية تعنى بالسجناء، ويرأسها الأب جورج نادر ذو الدالّة في السجن. وتُحضِّر القريبة (ندى) للكاتب مخطوطة كي يبدي الرأي فيها ويعدها للنشر، فيحدثنا عن أنه ألف أربعة كتب لسواه، تحت وطأة حاجته للمال، مثله مثل الكاتب بالأجرة، أو (الزنجي) كما يصف الفرنسيون الكاتب السري أو الغفل. بول أندراوس هو صاحب المخطوطة الشاب الذي مات في السجن سنة 2010 بعدما توقف عن الطعام والشراب، وقد رأى الكاتب أن المخطوطة ليست رواية ولا قصة ولا سيرة، بل مذكرات، وفيها يخاطب بول القارئ، معلناً أنه مصاب باكتئاب مزمن، وأنه لن ينتحر كالمنتحرين عادةً، إذ قرر أن ينقطع عن الطعام - ليس إضراباً - حتى يتلاشى، وأن يودع المخطوطة لدى صديقه الوحيد في السجن جورج ليسلمها إلى الأب نادر. على خطى الرواية البوليسية يسير الكاتب في بحثه عن سرّ بول أندراوس، فيلتقي بمختار القرية والكاهن والنجّار بطرس و... وكلٌّ يسرد نتفة جديدة، أو يفصّل في نتفة قديمة من نتف حياة بول، من اختفاء والده، إلى الخالة التي نذرت نفسها لتربيته، إلى تركه المدرسة فجأة، إلى انطوائيته... وبدأ الكاتب يشعر كأنما سيكتب رواية عن بول، بدلاً من أن يصحح مخطوطة أو أن يعيد كتابتها. المؤلف يبدو بول فيما يرسم الأب ألبير طربيه للكاتب ذلك المؤمن المشكك، العاطفي الصلب، البريء الرقيق الضعيف الخائب من المسيحية، وليس من المسيح. ويعترف الأب أن بول المعجب بدوستويفسكي وذا الشخصية الدوستويفسكية، والذي كان يرى نيتشه نبي المستقبل، قد هزّ إيمان أستاذه، وأنه كان يتعلم من تلميذه مثلما يعلمه، كما كان بول يرفض مقولة سارتر: الجحيم هو الآخرون، وكان مع كيركغارد في أن رجال الدين أكلة بشر. ويحض الأب ألبير الكاتب على أن يكتب رواية عن بول الذي اكتأب بعد انفصاله عن غادة داغر، والتي عاش معها في الجامعة قصة حب برعاية الأب ألبير. هكذا بدا بول للكاتب بطلاً مضاداً، سلبياً. ورأى بول في منامه، واتصل بغادة داغر التي فاجأها خبر المخطوطة. وفي مقاهي جونيه تكررت لقاءاتهما، وقصّت قصتها مع بول، الذي سيوالي الأب ألبير رسمه ككتلة من حب وقلق، وحماسة وصفاء ومتناقضات، مشّاءً ومقتلعاً ويائساً من كل المبادئ والمعتقدات، وضد تسييس الدين. ويرى الأب نفسه أمام الكاتب كأنه في كرسي اعتراف، فيتهم غادة بالأنانية وبالغيرة من صداقته مع بول، وبتدمير بول، ويتيقن بول من عشق الأب لبول، ويجزم بأنه يحب بول أفلاطونياً، ولم يقترب منه جسدياً! المحقّق في متابعته لقضية بول يرى الكاتب نفسه مصطنعاً لدور محقق بلا خبرة في القصص البوليسية، فهو لم يقرأ غير القليل منها، ولم يقتنع بأن الروايات البوليسية، أياً يكن كتّابها، يمكن أن تدخل عالم الأدب الرفيع. أما العقدة فهي ضبط بول فوق القتيلة الفلسطينية سامية مسعود، ولذلك يلتقي الكاتب بصديقه القبضاي جوزيف الذي يحكم ببراءة بول، ويقصّ على الكاتب قصة سامية مع صديقها طارق الأحمر، مهرّب المخدرات الذي يعلم الجميع أنه من دبّر قتل سامية، وإن كان في قبرص ليلة الجريمة. يرسل الكاتب الأسئلة كالمحقق على نفسه وعلى غيره، فيدرك أنه محقق بوليسي فوضوي وغير دقيق، وربما فاشل. وقد تبين مما يروي جوزيف أن القاتل كان (محمياً) جداً، وأنه وسامية كانا عاشقين، لكنها تحولت عنه إلى السيدة المجهولة، فجنّ طارق الأحمر، وقتل. وتورث الحكاية للكاتب حلماً بلقاء سامية، حيث تفرد رواية «البيت الأزرق» لما يضارع البحث في المثلية، لغوياً وفلسفياً، ويتذكر مثلية صديقته الرسامة ليموند. وفي لقاءاته بغادة، ترسم هي بول كغامض غارق في التأملات الفلسفية، يؤمن بالحدس، ومزاجي ويكره الطائفية مردداً أننا لسنا مواطنين، بل أرقام في طوائف وقبائل وعائلات، وعبر ذلك تكون لرواية «البيت الأزرق» انعطافة مهمة وبديعة، تتمثل فيما ينمو بين غادة والكاتب من علاقة، وهو الخارج من الخيبة في حب نسرين التي لا يزال يحبها، لكنها تبتر العلاقة تحت وطأة استئصال ثدييها وحلول نهدين اصطناعيين محلهما، وهو ما صورت الرواية بعمق أثره في حنوّ الكاتب على ملامسة الصدر، حتى إذا بدأ الميل إلى غادة وقد أمضّه أنهما لا يلتقيان إلا ويكون بول ثالثهما، أعلنت هي أنها عاجزة عن إقامة علاقة مع أحد. بعدما أنجز الكاتب قراءة مخطوطة بول اندفع في مديح اللغة العفوية النضرة فيها، وعمقها وفرادتها، وإذ أدرك بالقراءة سرّ خرس بول وسرّ سامية، عاد إلى اللعبة: «سيكون نصه روايتي الجديدة.. روايتنا التي سنكتبها معاً، هو بحضوره الطيفي، وبقلمي الذي سيصير حلمه»، وبدأ يعيد كتابة المخطوطة، مضيفاً ما يجده ملائماً من تراكيب ومفردات، معتمداً لغة متينة بسيطة، مخاطباً بول: «سأكتب يا بول نصك كما لو أنه نصي، وسيحمل اسمك لا اسمي». السجين ثم تسطع لعبة الرواية في الرواية وتبدأ المخطوطة بضمير المتكلم، فلا تضيف إلا اليسير لما تقدم من سرود غادة والأب ألبير وسواهما، وتبدو المخطوطة واحدة من روايات السجن، لكنه ليس السجن السياسي، بل السجن الجنائي، يصف فيه بول السجن الاحترازي، أو ما يسمى بالبيت الأزرق، وهو سجن الموقوفين المرضى نفسياً، ولأنه ثمة يحيا خارج الزمن، فقد قرر المغادرة إلى سجن المحكومين، وكان منذ البداية قد لجأ إلى الخرس، نشداناً للعزلة، ومكتفياً بأن يكتب «أنا بريء»، فكان أن حكمت عليه المحكمة بخمس عشرة سنة سجناً، قابلة للتخفيض بحسب تقرير الطبيب الشرعي عن حالته النفسية، وفيما يكتب بول عن عالم السجن، تشتبك قصص السجناء النفسانيين، بقصص السجناء المحكومين بالإعدام والسجناء السياسيين والأصوليين ومن في هذا العالم المتعدد الهويات والطبقات، حيث يؤلف السجناء وطناً خارج الجغرافية، وما قرأت منه أو عنه مرةً إلا ناديت الكتاب الذي سكنني منذ قرأته قبل قرابة العقدين: «السجن مجتمع بري» لمنى فياض. يتحدث بول عن مكتبة السجن ومديرها السجين، حيث تتعايش الأديان والطوائف على الرفوف، ثم يتحدث عن الصمت الذي كأنه الكلام الأبكم للروح، وعن المشي، أي الحياة على قدمين، وهو ما لم يفقده بول في السجن، لأنه كان يمشي تخييلاً، والمشّاء لا يؤسر إلا عندما تتلاشى مخيلته، ولأن رواية «البيت الأزرق» رواية فكرية بامتياز، فقد احتشدت من أجل المشي، مثلاً، أسماء وأقوال رامبو وهولدرن ونيتشه الذي كان يكتب بقدميه، أي خلال المشي، وإلى ذلك تبدو «البيت الأزرق» رواية نفسية بامتياز، وبخاصة عبر شخصية جورج الذي تحول جنسياً فصار جورجينا، وتزوّج/ تزوجت من الحبيب ناجي الذي تبدّل، فقتله/ فقتلته. وفي السجن لازم جورج/ جورجينا الوحيد الذي تفهّمه حتى مات: بول. وقد جاءني من حديث بول عن أبيه ومحطة سكة الحديد، صدى من رواية عبده وازن «غرفة أبي». العاشق قبل أن يقرأ الكاتب مخطوطة بول يخبرنا أنه وقع في غرام جولييت بطلة روايته هو، والتي تنتظر خاتمتها، ويلخص الرواية بأنها حكاية امرأة أربعينية تحاول أن تكتب رواية، فتعجز جرّاء كآبتها التي أورثها إياها غدر من أحبت، كما يحدثنا الكاتب وهو يفكر في أن يختم روايته بانتحار جولييت، وبالحديث عمن انتحرت من بطلات الروايات ومن الكتّاب والكاتبات: آنا كارنينا وإيما بوفاري وأوفيليا، وكذلك كاوباتا وسيليفيا بلاث وفرجينيا وولف والكاتبة اللبنانية منى جبور، وفي كل ذلك تكون نهزة أخرى للفكرية في «البيت الأزرق». وبعد أن يعيد الكاتب كتابة رواية بول، وهو من أخفق في الشعر فمضى إلى الرواية، يوالي لعبة (الميتا رواية)، فيتخيل أنه هو من يؤدي لعبة المخطوطة، متحايلاً على نفسه وعلى القارئ ليكتب رواية على هامش الرواية التي لم يتمكن من وضع خاتمة لها، وبعدما انتهى من كتابة المخطوطة جلجل أن إعادة الكتابة ليست خيانة، بل هي الكتابة نفسها، وعدّ بول بطله الذي كان يبحث عنه، بل بطل رواية «كتبناها معاً». بفضل قراءة غادة للمخطوطة برئت من بول، بينما نمت علاقتها بالكاتب الذي خاطبها: «هذا نصك أيضاً»، لكن غادة قررت الهجرة إلى كندا بعدما راح الحب يتحول إلى صداقة، وتأتي خاتمة «البيت الأزرق» باقتراحات الانتحار التي يجريها الكاتب على جولييت، إلى أن يلغيها، ويدع النهاية مفتوحة، لتختمها القراءة كما تشاء. تلك هي الرواية الصَّناع التي تلوّح - ربما - ببرئها من عبده وازن الشاعر، بخلاف أغلب الشعراء الذين انتقلوا إلى الرواية، أو زاوجوا بين الشعر والرواية، فظلت الرواية موطوءة بالشعر، بفجاجة أو ببراعة، أما رواية «البيت الأزرق» فتتوّج روائية كاتبها، مُدِلّةً بحِرَفيتها البديعة، وبمغامرتها السردية الفلسفية والنفسية، والبوليسية أيضاً. الشاعر والراوي والناقد ولد عبده وازن في لبنان سنة 1957، وله العديد من المجموعات الشعرية من بينها: «الغابة المقفلة» (1982)، «العين والهواء» (1985)، «سبب آخر لليل» (1986)، «حديقة الحواس» (1993)، «أبواب النوم» (1996)، «سراج الفتنة» (2000)، «نار العودة» (2003)، و«حياة معطلة» (2007). كما حاز وازن جائزة الصحافة الثقافية التي يمنحها نادي دبي للصحافة سنة 2005، وجائزة «الشيخ زايد لأدب الناشئة» عن روايته «الفتى الذي أبصر لون الهواء»(2012)، وله روايتان هما «غرفة أبي» (2003)، و«قلب مفتوح» (2009). إضافة إلى كتب في النقد والترجمات، من بينها: «محمود درويش: الغريب يقع على نفسه» (2006)، «شعراء من العالم» (2010)، «مدخل إلى رواية الحرب اللبنانية» (2010)، «أمين معلوف العابر التخوم» (2012)، و«الأيام ليست لنودعها» (2014).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©