الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«باربل بولي»: نضال لإسقاط جدار برلين

28 سبتمبر 2010 22:21
مارك فيشر صحفي أميركي في مساء مثلج بعد أربع سنوات على سقوط جدار برلين، قمتُ بزيارة جديدة إلى شقة "باربل بولي" في شارع "فربلينر ستراس" في ما كان ذات يوم برلين الشرقية. كانت البناية من الآثار التي تشهد على قصف الحرب العالمية الثانية، والإهمال زمن العهد الشيوعي، والنزعة المادية لمرحلة ما بعد جدار برلين. في الداخل، "بولي"، الرسامة التشكيلية التجريدية وأم الثورة الألمانية الشرقية لعام 1989، كانت قد حوَّلت بيتها إلى خليط بوهيمي من الشرق والغرب، والماضي والحاضر. وكانت قد أضافت غسالة ملابس بيضاء من نوع "سيمنز" في المطبخ منذ أن زرتها آخر مرة؛ ولكنها كانت ماتزال تعيش هناك بدون تدفئة مركزية، "مثل أحد سكان ألمانيا الشرقية الحقيقيين"، كما قالت لي. وبينما انتقلت أحداث 1989 من الصحافة إلى التاريخ، تراجع اسم "بولي" أمام أسماء سياسيين من أمثال هلموت كول وميخائيل جورباتشوف؛ وبالكاد أشير في الولايات المتحدة إلى وفاتها هذا الشهر عن عمر يناهز 65 عاما بسبب سرطان الرئة. والحال أن "بولي"، وهي امرأة نحيفة بصوت ناعم رقيق، هي التي جعلت سقوط الجدار أمراً ممكناً، وهي التي منحت سكان ألمانيا الشرقية الشجاعة للخروج إلى الشوارع في ذلك الخريف والمطالبة بالحقوق التي سُلبت منهم طيلة 40 عاماً. وفي هذا السياق كتب الصحافي الألماني ستيفان برج في مجلة دير شبيجل بعد وفاتها: "بدونها، لم يكن ممكناً تخيل خريف 1989... لقد مثلت التحدي الذي يدفعك للتفكير والانخراط في النضال". في ذلك المساء الجليدي، بعد مضي أربع سنوات على موت البلد الذي تجسس عليها وزج بها في السجن، حكت لي "بولي" عن سفرها جنوباً إلى الحدود الإيطالية- النمساوية في الصيف الذي تلا فتح الجدار، حيث توقفت ومرافقها هناك في جبال الألب المرتفعة على الطريق. وكانا قد تجاوزا ما كان يمثل طيلة حياتهما حدودَ الممكن؛ ومعاً أجهشا بالبكاء إلى أن بدأت أعينهم تؤلمهما. وتساءلت بولي: "كيف يمكن لأي شخص أن يحرم شخصاً آخر من هذا؟". لم تعط "بولي" الانطباع أبداً بأنها تتمتع بحريتها الجديدة، حيث كانت ضيفةً مألوفة على البرامج التلفزيونية في سنوات التسعينيات، ومشاركةً دائما في هذه المظاهرة أو تلك، بعد أن حوَّلت انتقاداتها من الممارسات القمعية للشيوعية إلى تجاوزات الغرب. ولكن صورة بولي بين الجمهور كانت صورة حزينة، صورة امرأة تتوق إلى الصفاء الأيديولوجي إذ تكره تجسس النظام السوفييتي على الأصدقاء، بقدر ما تكره ترك النظام الغربي كل شخص يتدبر حاله بنفسه. والحقيقة أنها كانت تتوق فقط لتكون نفسها حيث قالت لي ذات مرة: "أحب الحرية... إمكانية أن أرى الصور وأقرأ الكتب التي أريد. إن الحريات الصغيرة -تناول الجبن الإيطالي أو السفر إلى نيويورك، ورؤية ترميم المباني والزهور على النوافذ والشرفات- أمور لا يجب التقليل من أهميتها". وقد سمحت بولي لنفسها بأن تصبح رمزاً لتعاسة متزايدة في الشرق، والأسف على عدم نجاة ألمانيا الشرقية على نحو ما بعد سقوط الجدار لترتكب أخطاءها الخاصة، وتخلق هويتها الخاصة. ومع مرور الوقت، تلاشى صوتها وانصهر الشرق والغرب، وإن ببطء. فمن يتذكر اليوم أن مجموعتها، "المنتدى الجديد"، هي التي نظمت مسيرات إشعال الشموع الصامتة التي حاصرت نظام الرئيس"إريك هونكر" وخنقته في الأخير؟ فقد كانت هذه المجموعة، التي نشأت في كنائس الشرق اللوثيرانية، تبدو غير خطرة بما يكفي للنظام أن يقوم نصف مليون ألماني شرقي بتوقيع عرائض تسعى إلى التغيير داخل الاشتراكية. في كتب التاريخ اليوم، قد يبدو كما لو أن "المنتدى الجديد" جاء ورحل في غضون أسابيع؛ وصحيح أنه بعد سقوط الجدار، تم تجاوز الحركة الإصلاحية المثالية في ألمانيا الشرقية من قبل أفق"الدويتش مارك" والمجتمع الاستهلاكي الذي كان سكان ألمانيا الشرقية قد رأوه على القنوات التلفزيونية الغربية، ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يلمسوه بأنفسهم. غير أنه على مدى عقد من الزمن قبل فتح الجدار، ساهمت بولي فعلياً في إزاحة السيطرة الشيوعية على حياة الناس. ففي 1983 مثلا، تلفعت "بولي" و30 امرأة أخرى بالسواد واحتشدن بساحة "ألكزندرلاتز" في برلين متحديات قانون تجنيد عسكري جديداً. فتم اعتقال خمس نساء، وتمكنت "بولي" من الإفلات، ولكن بعد بضعة أشهر ألقى عليها القبض عملاء ألمانيا الشرقية ووُجهت لها تهمة نقل معلومات لأنها تحدثت مع صحافي غربي. لم تعد "بولي" إلى الرسم مرة أخرى بعد سقوط الجدار حيث عاشت فترة سوداء. ثم انتقلت إلى البلقان لبعض الوقت حيث عملت مع ضحايا الحرب الصغار، ولكنها لم تجد أبداً ثورتها. فهي لم تتخيل أبداً أن الناس قد يريدون نوعهم الخاص من الحرية، الحق في ألا تكون لك علاقة بالآخرين. قالت لي ذلك اليوم في شقتها بنبرة تنضح بالحزن أكثر منه بالغضب: "لقد تطلب من الأمر وقتاً طويلاً لأدرك أن الناس هنا ماديون جداً، وأن الناس يهتمون بالأشياء أكثر مما يهتمون بالمثل". وفي الخلفية، كان صوت مجلجل خفيض ينبعث من غسالة الملابس الجديدة - شيء، ولكنه أيضاً رمز ونتيجة من نتائج الحرية التي أطلقتها بولي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©