الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل ستكتب عني؟

18 يونيو 2006 10:18
الموقف لا يحتمل السخرية· ـ هل ستكتب عني؟ أطبق السؤال على رأسي في لحظة سقوط قذيفة· تتوالى الانفجارات في الخارج منذ نصف ساعة··· ساعة، إثنتان، عشر، أو ربما ألف· هل يهم عدد الساعات، عندما ينضغط الزمن، وتزم الأرواح، وتنحشر الأجساد، بين حيطان لا تتوقف عن الإنهيار فتترك صداها داخل الأوردة والشرايين· لم نختر بإرادتنا اللجوء الى مدخل هذه العمارة· حملنا صفير القذيفة المنطلقة فوق رأسينا الى طلب النجاة حيث أمكن· في لحظات الصمت التي تعقب كل انفجار اكتشفت أن وجه خالد هو مرآة وجهي· لاحظت أنه اكتسى بلون أسود، فقدرت أن سحابة الدخان القاتم امتدت إلى وجهي أيضا· ناولته جزءاً من الفوطة الورقية الوحيدة التي كنت أحملها لعلها تزيل من ملامحنا ما علق فيها من خيوط الرعب· أغلقت عليّ البديهة، ووحوش الرعب، سبل الكلام· لكن سكينة خالد أعادت إليه فصاحته المعهودة: ـ أعرف أن رغبتك بالكتابة سوف تطغى على عصيان القلم· لكن هل ستدركني القراءة حينما تنجز ما عليك ؟ لو قدّر لي أن أقرأ أفكارك، فإني أعرف أنك ستعيد كتابة تلك الجملة ''كانت تبدع في احتضارها حياة جديدة''· ما زلت أحفظها من النص الذي كتبته عن الرائعة ليف اولمان في فيلم إنجمار بريجمان العبقري ''صمت ووشوشات''· الموقف لا يحتمل كل هذه السخرية، لكن ذهنه كان أكثر صفاء من أن يحتمي بالفكاهة من القتامة: ـ ألا تشعر أننا وسط كل هذا الصخب المرعب المحيط بنا، لا نستطيع إلا أن نمارس صمتنا والوشوشات ؟ يكبلنا يا صاحبي الوجع، والصراخ ترف لا نستحقه· حتى الأنين والبكاء والنحيب والنشيج، امتيازات عدّت من أجل غيرنا، لكننا نستطيع أن نهمس وسيكون لهمسنا صداه بعد حين··· تعرف؟ وجهان أستحضرهما في هذه اللحظة· وجه أمي الذي لم أره في إغفاءاته الأخيرة· كان ينبغي أن أكون معها، لكنني وكما كل مرة، كما كل العمر، كما في كل سنوات آلامها، لم أكن··· كنت أعرف أنها تحتاجني، كما أحتاج اليها، إلى وجهها الآن··· ليتها تعرف أنني احتجت إليها دائما، وإنني في كل لحظة ألم أو ندم كنت أنادي يا أمي··· ليتها تعرف· لن تسألني عن الوجه الآخر، لأنك تعرفه· هي قارئة الشعر ومصدره· منبع الحزن والفرح· ناسجة الأحلام والأماني··· كنت أطمئن إلى وجودها، فلم أشعر مرة بحاجة لكي أطلق إليها طيور قلبي· لم أقل لها يوما: أحبك· هل فات الأوان ؟ هل أصبحت لحظة الوجد هذه أعصى من أمل النجاة ؟ لم يكن خالد يحدثني في تلك اللحظة من انكسار بيروت المدينة والوطن والمشروع أمام الوحش الإسرائيلي· كان مونولوجه الهامس أوجع من أنهار الدم المتدفقة في الشوارع· كان انكسار المدينة، هو انكسار شخصي لخالد ولكل من أقام فيها، وأحبها وانتمى إليها· ـ لقد خسرنا· قال خالد· حينما تنظر إلى نفسك، فتجد كم انك ضئيل أمام هذا الدمار العظيم، تدرك أن الاعتراف بالخسارة، هو باب الخروج منها، هو العودة الى المنطلقات الأولى، إلى تكوين العناصر··· في لحظة الاعتراف بالخسارة هذه، سقطت قذيفة زاعقة فوق رأسينا بالضبط· اندلع مع سقوطها حريق هائل، وتهاوت أحجار وأتربة وانطلقت نافورة ماء من أحد الأنابيب· تحسست جسدي بحثا عن إصابة محتملة، لكن خالد اكتشف سياقا لمواصلة كلامه: ـ ها هي العناصر قد اكتملت· النار والهواء، والماء والتراب· إذن فقد ولجنا باب الخروج من هذا الخسران· سأسلكه أنا على طريقتي، وستسلكه أنت بالكتابة· فهل ستكتب عني؟ قذيفة ثانية قطعت سبيل الإجابة· عمّ ظلام في المكان· انفجارات متلاحقة بدت وكأنها حفار قبور قدري، وحين توقفت عن مهمتها تعهد الصمت باستكمالها· خذلني الكلام مرة جديدة· لم أجرؤ على تبديد هذا الصمت بالمناداة باسمه· كان ينبغي عليه أن يتكلم، أن يواصل مونولوجه الحميم· لكنه لم يفعل· وحدها بقعة مضيئة أشعلت هذا الظلام· كانت تلمع كالماس، لا، كانت تشع كالبرق، لا، كانت تتوهج كالدم··· أمسكت بيده، كانت باردة لكن جبينه كان حارا··· قلت: نعم يا صاحبي سوف أكتب عنك··· عادل علي
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©