السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تمرينات فلسفية على الغبطة

تمرينات فلسفية على الغبطة
6 سبتمبر 2018 00:07

eudaimonia - هكذا سمى اليونان معنى «السعادة»، أو «الغبطة»، أو سرور الحكمة، وهو اللفظ الذي عوّل عليه أرسطو في تخريج معنى أن يكون الفيلسوف «سعيداً»، ثم صار تقليداً نظرياً وأخلاقياً في فهم تاريخ مفهوم السعادة في التراث الغربي بعامة.

من الناحية الاشتقاقية فإن لفظ eudaimonia مكون من مقطع «eu»، أي «خير» أو «جيد»، ومن مقطع «daimon» الذي يؤخذ على معان شتى، مثل «الإله، الروح، الجن، المارد، القوة الخفية، القدر، الشيء الإلهي»، وفي الترجمات اليونانية للتوراة العربية استعمل لفظ «daimonion» مقابل «روح شريرة»، روح أقل رتبة من «الملاك» الذي تمت ترجمته إلى اليونانية بلفظة «ángelos». لا تكون النفس «سعيدة» إلا بقدر ما تتمرن على التحول إلى «روح جيدة» (eudaimonèsein)، أي قادرة على احتمال حكمة معينة أو نوع من الحقيقة، أو تنصت، كما جاء في مختلف محاورات أفلاطون، إلى ما تبثه أو توحي به «العلامة الإلهية» (to daimonion sêmèion) التي قال سقراط إنها هي التي علمته كيف يكون «سعيداً»، أي مستعداً لتعلم فن العيش في مدينة العدل المنشودة، والتي لا يمكن أن تتأسس إلا على الحقيقة. ولا ننس أن تهمة سقراط التي أدت إلى إعدامه إنما كانت، كما تقول الترجمات الرسمية، إدخال «آلهة» (daimonia) جديدة إلى المدينة، ولكن ماذا لو لم تكن تهمته السرية سوى إدخال أشكال جديدة من «السعادة» (نعني من الـ eudaimonia/‏‏‏ الألوهة الجيدة) إلى المدينة؟ لم يكن «الفيلسوف» يعني حسب سقراط إلا ذلك الذي يمتلك الشجاعة على الإنصات إلى «علامة الآلهة» في نفسه، وبهذا المعنى فقط يمكنه ادعاء «السعادة». طبعاً ليس من الصدفة أن لفظة «daimonion» في اليونانية متى أُخذت مصدراً هي تعنى «الألوهية»، لكنها ألوهية لا تأمر بأكثر مما قاله الهاتف في معبد دالف: «اعرف نفسك بنفسك»(gnôthi seauton)، وكان فوكو بين في أحد دروسه الأخيرة أنه أمرٌ حجب أمراً أكثر دقة وأكثر خطورة هو «epimeleia heauto»، أي ضرورة «العناية بأنفسنا» وهو عنوان أحد كتبه. ويبدو أن التحريف الذي جعل «إله» (daimonion) سقراط ينقلب إلى مجرد «جن» أو «مارد وسيط» (daimon) بين البشر والآلهة هو أمر لم يظهر إلا منذ القرن الثاني بعد الميلاد، وبالتالي هو تأويل «لاهوتي»، أي غير يوناني.

شأن سياسي
إن محاكمة سقراط تكشف لنا إلى أي حد كان سؤال الفلسفة عن السعادة قادرا على إقحام الآلهة في شؤون المدينة. وبعبارة جامعة: إن السعادة لدى الفلاسفة الإغريق إنما كانت في جوهرها مشكلاً «سياسياً»، أي متعلقاً بفن العيش داخل المدينة ولاسيما بوصفها شأناً هو من الخطورة بحيث يهم العلاقة بين البشر والآلهة. إن السعادة هي لدى أفلاطون وأرسطو الغاية القصوى من التفلسف في كل مرة. ولا وجاهة لفلسفة لا تعِدنا بمفهوم مناسب عن الحاجة الإنسانية إلى السعادة. وفي الواقع يتفاوت الفلاسفة بقدر نجاحهم أو إخفاقهم في طرح مفيد للسؤال الفلسفي عن ماهية السعادة، لكن المتصفح لتاريخ مفهوم السعادة عند المتفلسفة إنما يقف على أن البحث في معنى السعادة هو اختراع فلسفي سنّه القدماء وبشكل مبكر يدعو إلى التساؤل. إلا أنه سرعان ما يقف أيضاً على معطى آخر لا يقل مدعاة إلى التساؤل: إن المحدثين أي كل أولئك الذين تفلسفوا تحت سقف علمنة القيم المسيحية من ديكارت إلى نيتشه وهيدغر مرورا بكانط هم فاشلون أساسيون في طرح مسألة السعادة أو الاضطلاع بها.
طبعاً، وحده سبينوزا كان استثناءًا أو كان، كما قال أنطونيو نغري، «شذوذا متوحشا»، في التمسك المثير بقدرة فلسفية «مضادة للحداثة» على مواصلة التفكير في ماهية السعادة ليس فقط بوصفها أحد موضوعات الفلسفة الأخلاقية، بل باعتبارها المقام الذي يعبر فيه الإنسان عن ماهيته، بحيث «إن السعادة ليست ثواباً على الفضيلة، بل هي الفضيلة ذاتها».
وليس من المصادفة في شيء أن التفلسف حول السعادة بما هو كذلك لن يعود إلى الاشتغال بشكل رسمي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد، خاصة في الأدبيات الفرنسية، عودة مذهلة لفلسفة سبينوزا مع جيل الستينيات (من قبيل جيل دولوز أو تلاميذ ألتوسير).

good life
أما مع نهاية القرن العشرين، وخاصة مع بداية هذا القرن، فإن السعادة استعادت منزلتها الفلسفية الرسمية التي كانت تتمتع بها عند اليونان والرومان بعد تحضيرات غير مباشرة، ولكن حاسمة بواسطة بحوث غير مسبوقة حول قضايا الجسد والرغبة واللذة والعنف والجنس والاختلاف والهوية والعيش معاً (كما في كتابات فرويد ووليام رايش وحنا أرندت وفوكو وديريدا وريكور...). كان التأليف حول السعادة تقليداً لدى القدماء (خاصة أرسطو، أبيقور، سيناك، ...)، قطع معه المحدثون بعامة إلى حدود هيدغر، ثم عاد إليه المعاصرون بشكل هامشي، مع شوبنهاور مثلاً في مقالته الرشيقة: «فن أن تكون سعيداً»، أو «علم السعادة»(Eudémonologie)، ثم بشكل رسمي ومثير ومؤسساتي، منذ عودة الفلاسفة إلى القضايا الإتيقية بوصفها حسب عبارة ليفناس ضرباً من «الفلسفة الأولى»، والتي شملت إتيقا الحيوان وإتيقا البيئة وإتيقا العناية، وبلغت أوجها في الوقت الحالي في عودة رسمية ومؤسساتية لإتيقا السعادة والتي تدور أسئلتها الأساسية حول مفهوم «الحياة الكريمة»، أو «الحياة الجيدة» (good life).
إن الافتراض الذي يقودنا هو: أن السعادة قد كانت دوماً مشكلاً سياسياً. ولا يمكن للفلاسفة أن يطرحوا مفاهيم مركزية عن السعادة من دون تقليد سياسي قادر على أن يسمح للناس بتطوير تقنيات وجود مناسبة للعناية بأنفسهم. هكذا كان الأمر مع اليونان: أول شعب فلسفي وأول شعب سعيد في آن. وهكذا تصورهم الغربيون وهكذا حاولوا منذ وقت قليل أن يكونوا. ولا ريب أن أرسطو هو من كرس في كتبه الأخلاقية والسياسية هذا الربط المبكر والوجودي بين السعادة والسياسة. وهو تقليد ظل قوياً إلى حدود الفلسفة العربية، وخاصة الفارابي، لكنه انتكس مع الفلسفة الحديثة ولن يعود إلى نضارته المفهومية إلا في آخر القرن العشرين، كما نرى ذلك بشكل باهر مع كونت سبونفيل أو آلان باديو.
قال أرسطو: «لما كانت كل معرفة (gnôsis) وكل اختيار عن روية (prohairesis) يصبوان إلى خير ما، فإن علينا أن ننظر في الخير الذي تنزع إليه السياسية، نعني أي خير من جملة الأخيار التي يمكن تحقيقها هو الخير الأسمى (akrotaton). أما عن اسمه، على كل حال، فإن أغلب الناس هم متفقون: إنه السعادة، وهذا قول العامة والخاصة.[...] وأما فيما يتعلق بماذا هي (ti estin) السعادة، فليس إلى الاتفاق على ذلك من سبيل، بل إن نفس الإنسان يغير رأيه في شأنها.» (أخلاق نيقوماخوس، I، 2).
يثبت أرسطو بشكل واضح أن السعادة ليس فقط الخير الأسمى بل هي الخير الذي إليه تصبو السياسة بما هي كذلك. لكن الخيط الناظم هنا هو فضيلة من نوع خاص: إنها فضيلة العناية بالنفس من أجل معرفها، وليس يقدر على ذلك إلا الحكيم أو الفيلسوف. إن الفلسفة هي فن تحصيل السعادة بما هي كذلك، في معنى أنها تمرين على السعادة، ولكن طبقاً للجزء الأكثر كمالاً من الإنسان بما هو «حيوان قادر على الكلام» (Zôon logon échon) يتفلسف يريد أن يكون «حيواناً مدنياً»(Zôon Politikon) ناجحاً. وهذا الجزء الأكمل من الإنسان هو حسب أرسطو «نفسه» أو «عقله». إن رهان السعادة هو الجمع الحكيم بين القدرة على استعمال «العقل» أو كلام النفس (logos) وبين القدرة على «العيش» (bios) – نمط الحياة الخاص بالبشر بما هم معرفون في ماهيتهم على أنهم «مواطنون» أي بالمعنى اليوناني «مدينيون» (politai) أو «يعيشون» في المدينة (pólis)، دون بقية الحيوانات التي «تحيا» أو هي على قيد «الحياة» (zoé) فقط.
في هذا الإطار بالتحديد علينا أن نفهم إثبات أرسطو بأن الخير الأسمى للسياسة هو السعادة. قال: «لقد فرضنا أن السياسة هي الغاية الأسمى، وهذا العلم غرضه الرئيس هو أن يجعل المواطنين موجودات من نوع معين (poious linas)، أي أناساً شرفاء وقادرين على الأفعال النبيلة (praklikous lôn kalôn). وهكذا فإنه من الصواب أننا لا نطلق اسم السعادة لا على العجل ولا على الحصان ولا على أي حيوان آخر، إذْ لا أحد منها هو قادر على المشاركة في فعل (energeias) من هذا النوع. ولهذا السبب أيضا، فإن الطفل لا يستطيع أن يكون سعيدا، لأنه ليس قادرا بعد على إتيان هكذا أفعال». (أخلاق نيقوماخوس، I ، 10).

مشكل «مدني»
إن السعادة مشكل سياسي لأن الأفراد من دون شكل مناسب من «الحكم المدني» لأنفسهم لا يمكنهم أن يطوروا مفاهيم مفيدة عن السعادة. وكان اليونان ميزوا دون أن يفصلوا بين ميدان السياسة (تدبير المدينة) وبين حقل الإتيقا (تدبير النفس)، أو بعبارة رشيقة لابن المقفع بين «الأدب الكبير» (تحقيق العدل) و«الأدب الصغير» (تهذيب النفس). لكن السعادة مشكل عابر لهذا التمييز: إن السعادة في جوهرها مشكل «مدني»، لأنه لا يكون «سعيداً» أو قادراً على السعادة إلا من يعيش في «مدينة» عادلة. هذا النوع من المواطن يصفه أرسطو قائلا:» هكذا إنسان هو بلا ريب مثل إلهٍ بين البشر.. وبالنسبة إلى أناس من هذا النوع لا يوجد ناموس ليحكمه، فإنهم هم الناموس» (كتاب السياسة، III، 13).
بقي أنه علينا أن نسأل: لماذا أهمل «المحدثون» مشكل السعادة إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين؟ - إن المثال الساطع هنا هو كانط فهو خلاصة التصور المسيحي والتوحيدي لمعنى السعادة: أنه ليس مهما أن تكون سعيداً، بل فقط أن تكون «جديراً بالسعادة». لكن المثير هنا هو تعريفه للأخلاق بأنها تعني بالتحديد: «قيمة الشخص وجدارته بأن يكون سعيدا». وهذا الأمر نفسه لم يخرج عنه نيتشه، أعتى أعداء كانط، حين ختم كتاب زرادشت قائلا: «ما همني أن أكون متألما أو مشفقا؟ هل كنت أصبو إلى السعادة؟ إنما أصبو إلى العمل الذي يخصني». ولا ينجو هيدغر من لعنة السعادة لدى «المحدثين» حيث لا يتردد سيروان في وصف مقالة «السكينة» (Gelassenheit) بأنها كُتبت في «أسلوب حزين». لكن سيوران ليس أقل تعاسة من هيدغر الذي عرف الكيان بأنه «كينونة نحو الموت»، هو الذي كتب كتابا عنوانه «العيب في أنك وُلدت».
يمكن وصف كتابات ما بعد الحداثة بأنها في عمومها تمرين واسع على إصلاح معنى السعادة في أفق الإنسانية المعولمة. ولنا مثال في كتاب كونت سبونفيل عن السعادة. إن الرهان هو إصلاح ما أفسده التصور «الحديث» للسعادة خاصة كما ضبطه باسكال بشكل صريح: بوصفها غير ممكنة إلا كنوع من الرجاء في المستحيل. قال: «هكذا، نحن لا نعيش أبدا، بل نحن نرجو ذلك، ولكوننا ما فتئنا نهيئ أنفسنا لأن نكون سعداء، فإنه من الحتمي ألا نكون كذلك أبدا». لذلك لا توجد سعادة إلا ما يسميه سبونفيل «السعادة بالفعل» (bonheur en acte)، أي السعادة التي لا ترجو شيئا يتجاوزها، أو السعادة التي لم تعد ترجو إلا ذاتها. قال: «توجد لذة وتوجد بهجة عندما نرغب في ما نملك، فيما نفعل، فيما هو كائن. هذا ما أسميه السعادة بالفعل. وبمعنى ما، هي سعادة يائسة لأنها سعادة لا ترجو شيئا». وحين تُشفى السعادة من الرجاء في ما يتجاوزها هي تصبح معاصرة لنفسها من الداخل.
ولكن هل يمكن للسعادة أن تستغني عن الرجاء فيما يتجاوزها إلا بفضل العيش الحر داخل مدينة تعاصر ذاتها؟ وحده مواطن في مدينة عادلة يمكن أن يكون سعيدا. كان درس الفارابي رائعا حين كتب بيدين متوازيتين عن أهل المدينة الفاضلة من جهة وعن تحصيل السعادة من جهة أخرى: لن تكون سعيدا إلا في مدينة «فاضلة» (أي قادرة على تكوين مواطنين جيدين)، ولكن أيضا: لا مستقبل لمدينة فاضلة لا تحقق السعادة. هذا هو الدرس، بعيدا عن كل سرديات الشقاء باسم رجاء لا يلتذ به إلا الذين تجاوزوا أفق الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©