الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شريف الشافعي: الشعر ثورة مستقلة

شريف الشافعي: الشعر ثورة مستقلة
19 يناير 2012
تتميز تجربة الشاعر شريف الشافعي أحد شعراء التسعينيات في مصر باختلاف سياق تطورها ومحاولاتها التمايز على التجارب المجايلة، وقد تجلى هذا الاختلاف والتمايز في ديوانه الصادر مؤخرا بعنوان “غازات ضاحكة” في 600 صفحة، عن دار الغاوون ببيروت، يناير 2012، ليؤكد على صوت شعري خاص تتجاوز رؤاه مجمل ما تحاوله تجارب أخرى تتشابه. محمد أحمد محمد أصدر الشافعي من قبل أربعة دواوين شعرية هي: “بينهما يَصْدَأُ الوقتُ” و”وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء”, و”الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ”، و”البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية”، كما أصدر كتابًا بحثيًّا بعنوان “نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع”. ? أين ترى الشعر على خرائط الثورات الراهنة؟ وهل عكستها مرآته بأمانة؟ ? الشعر الذي يقترح جديدًا، ويقال إنه ترك بصمة أو أحدث إضافة، هو بحد ذاته ثورة في ميدانه، وفعل مكتمل، ووطن ذو خرائط، وليس انعكاسًا لثورات في ميادين أخرى، ولا صدىً لأفعال. الشعر، كما أتنسّمه، فسحة لا نهائية في فضاء التمرد، حالة طزاجة ودهشة ويقظة لا تتوقف (أنْ أوقظَ وردةً واحدةً، خيرٌ من أن أنامَ في بستانٍ، كما في ديواني الأخير). ثورية الشعر هي أن يَفْعل هو الثورة في أرضه وسمائه، لا أن يتماس بيانيًّا مع ثورة يتحمس لها ويواكبها، وفق ما يتوقعه الجمهور، فكأنه يقول ما قد قيل فعلاً. ? إلى أي مدىً يمكن أن تؤثر ثورات العالم العربي على الشعر؟ ? الشاعر المؤمن بقيمة الشعر، وبثورة الشعر بمفهومها الأشمل، لا شعر الثورة بمعناه الضيق، يراهن دائمًا على أدواته هو، احترامًا منه لاستقلالية الشعر، وغناه، واستغنائه، وقدرته على أن يفعل، ويقول، وينطلق. أنْ ينادي الشعر بالحرية أو يهتف باسمها في الميادين شيءٌ، وأن يحقق الحرية بيديه، في ميدانه هو، شيءٌ آخرُ. أن تصفق قصيدةٌ لثورة أو حتى تباركها قبل اندلاعها أمرٌ، وأن تكون القصيدة بذاتها ثورةً مكتملةً أمرٌ آخر. أما الازدواجية بعينها، بل الفكاهة المؤلمة، فهي أن تمجِّدَ قصيدةٌ قيمةَ الحرية، وتغذِّي وقودَ الثورة، في حين تجدها الذائقةُ الفنيّةُ نصًّا مقيَّدًا بتبعيّته لغيره، وآلياته المكررة، وهذا ما يقود القصيدة إلى تراجع في حقيقة الأمر، ويحول اشتعالها الحي إلى احتراق وانطفاء. الشعر إذا ارتضى بموقع التابع، فمن المستحيل أن يكون متبوعًا بقارئ أو متذوق. إن التحول الشعري الثوري ليس وليد اللحظة بأي حال من الأحوال، بل هو صنيع شعراء التحول الكبار قبل سنوات من التحول السياسي والاجتماعي الذي تفجر العام الماضي. وقد كان الشعر، والإبداع، والثقافة عمومًا، في مقدمة المد الثوري العام، الذي قاد إلى هذا التحول الشامل الملموس. ولعل طاقة الشعراء ستتوهج أكثر وأكثر في ما يفجرونه، بعدما امتدت شرارة المبادرة والإيجابية إلى سائر الحقول والميادين. إنساني الآلي نفسه استشف تلك الطاقة الباعثة على الحياة والأمل، يقول في آخر مقاطع “غازات ضاحكة” (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2): “عذرًا قهوة الصّباح/ موعدي اليومَ مع رشفةٍ عميقةٍ/ من الصّباحِ نفسهِ”. ? هل تأثرتَ في ديوانك الجديد “غازات ضاحكة” بالثورة المصرية؟ ? فرغتُ من “غازات ضاحكة”، الصادر مطلع هذا العام عن “الغاوون”، في نهاية عام 2010، أي قبل ثورة يناير المصرية بحوالي شهر. لو أن القصائد مجرد ظلال متحركة واستجابات هشّة، لكان مستساغًا وهيّنًا التدخل في النص بإضافات أو تعديلات خلال العام الماضي، بعدما بزغت في المشهد شموس، وتمثلت في الأفق مثيرات جديدة! لكن العلاقة بين “الشعر” و”الثورة” أعمق وأوثق من ذلك بكثير، كما أوضحت. إنها تتجاوز العابر واللحظي إلى الجوهري والأبدي (اصنعي الماردَ بقبضتكِ، أيتها اليد التي تدعكُ الفانوس، كما في أحد المقاطع). ? كيف ترى الإبداعات الشعرية التي صدرت عقب الثورة المصرية؟ وماذا عن مستقبل الشعر في المرحلة المقبلة؟ ? الشعر، كما اتفقنا، حالة تفجير دون توقف. وثورية القصيدة الجديدة، والحرية التي تطمح إلى إنجازها، هي ببساطة حرية الوجود والتحقق والتفاعل والاكتفاء الذاتي، أي أن تكون القصيدة هي “فعل التحرر” على كافة المستويات، و”الثورة المكتملة بذاتها”، في سياق طبيعي عفويّ، لا أن تكون “بيان الدعوة إلى التحرر”. والأهم، أن تستقل القصيدة تمامًا بشعريتها، وتمشي على الأرض وتحلق في الفضاء بطاقة أدواتها وجمالياتها الفنية فقط، دون أن تنفصل بالطبع عن معطيات واقعها، ومستجدات عصرها. هذا هو المنشود، وهذا ما ينجزه شعراء نابهون قليلون، دون ضجيج. لكن الضجيج يقودنا للأسف الشديد إلى تلك الأعمال الفجة المصاحبة لهذا النضال السياسي والاجتماعي الذي أسفر عن ثورات غيّرت وتُغيّر أرض الواقع، وهي أعمال إنشادية حماسية ذات طابع احتفالي في الأساس، يصعب التعامل الجاد معها كقصائد ناضجة، ذلك أنها عوّلت على الحدث الكبير الملهِم، وعلى تملق الجماهير (السلطة الشعبية)، واستدرار التعاطف وربما التصفيق، ولم تعوّل على معطيات الفن الأصيل. ولا شك في أن مثل هذه الكتابات العارضة، على صخبها وانتشارها الكمي، ستتضاءل مع الوقت، وتزول بانقضاء الظرف الذي تتعلق به. إلا الشعرية ? قصيدة النثر لديك متجردة من كل شيء، إلا شعريتها. هل هي رغبة في فضح أعماق الذات الإنسانية، وتعرية العالم، بصوت هامس؟ ? ما من مجال لأي حُلِيٍّ أو حيلٍ، وقد ارتضى الآلي لذاته العُريَ بوصفه دفئًا داخليًّا يغنيه عن الملابس المصنوعة، واختار الحفاء النبيل ليصافح بقدميه مباشرةً حرارة الأرض وجاذبيتها دون وسيط. التجرد هو تحلل من أي مجاز قد يتلف الرؤية والكشف، فأنْ يخطئَ الإنسانُ الطريقَ أخَفُّ وطأة من أن تعانق خطواته رائحة إبرة ممغنطة. البوصلات كلها زيف، والغريبُ الذي يعبرُ الطريقَ، ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ، ولا كلبٍ مدرّبٍ. هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء. اللغة مطية تعين على الوصول، فقط إذا اختارت أقصر الطرق، وإلا فإنها تصير حفلة تنكرية، وأقنعة، ووجوهًا مستعارة. “التحياتُ للعناصرِ المُشِعَّةِ بذاتها، لا لمصابيحَ راضعةٍ من كهرباء”، هكذا يقول الآلي الذي سئم التنكر في ما لا يحب، وفي ما يحب. ? تتسم مقاطع الديوان بتكثيف واختزال ملاحظين، وربما أنت تكتب بالمحو أحيانًا. ألا يتعارض ذلك مع طول النص ككل (حوالي ستمائة صفحة)؟ ? بمنطق الآلي، فإن “حياة واحدة لا تكفي، لاعتناق امرأةٍ مبتسمةٍ”. هكذا هو على استعداد لإنفاق أكثر من حياة، أملاً في ابتسامة صادقة صافية (أورغانيك، بتعبير النص)، يواجه بها الألم والعبوس، بعدما أدرك أن لا أمل في الغازات المضحكة (غازات المرح، والتخدير)، فهي لا تصنع سوى ضحكات بلاستيكية جوفاء. المساحة إذن، زمانية أو مكانية، مرهونة بمحتواها. الطول والقصر نسبيّان. الحياة كلها قد تضيق عن الاتساع لاعتناق ابتسامة واحدة. لذلك، لو أن ديوانًا من عشر صفحات فقط، وفيه ما هو زائد على الحاجة، لكان ممطوطًا، وبرزت فيه مواضع التكلف والاشتغال. أنت بحديثكَ عن التكثيف والاختزال والمحو في الديوان نفيتَ حدوث الإطالة، وأعفيتني من الإجابة. أرتجف من التأويل ? ماذا أضاف ديوانك الجديد “غازات ضاحكة” إلى تجربتك “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”، بعد الجزء الأول من التجربة “البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية”؟ ? هذا متروك لمن يقرأ، خصوصًا أنني أرتجف من التأويل، وأتماهى مع الآلي تمامًا حين يقول: “أمَنِّي نفسي بسلامةِ الوصولِ، لأن جُرحي سبقني ووصلَ سليمًا، إلى الضّفّةِ الأخرى من المتاهةِ”. على أية حال، يمكن القول بشكل عام إن الجزء الأول شهد إطلالة الآلي على أمل الارتداد إلى إنسانيته المفقوده، وبحثه المضني عن ذاته المغيّبة، في حين شهد الجزء الثاني تفاعلات الآلي المباشرة مع مشاهد الحياة وتفاصيلها، ليثبت بالفعل البسيط الملموس أنه إنسان إنسان، وليس إنسانًا آليًّا، وأن العالم، ذلك الضيف الراحل، قد يعود ذات صباح (ما أجمل الصباح الذي يحضر فجأة، ربما في الصباح!). ? منذ ديوانك الأول “بينهما يصدأ الوقت”، وأنت تنفتح على حقول دلالية قد تبدو بعيدة عن الشعر، على رأسها حقل الكيمياء. ماذا عن فقاعات “غاز الضحك” أو “الغاز الضاحك” على غلاف ديوانك الجديد؟ ? قصيدة النثر، ما أجملها!، هي إبحار دائم في الذاتية والمجانية والانزياح والتوتر والمغامرة والخطر، وانفتاح لا محدود على كل الحقول والفضاءات، ووطء لكل الألغام! الآلي لم يكن متعمدًا أبدًا في ما يسلكه، وما يقوله، لأنه هارب في حقيقة الأمر من التعمد، والعقلانية، والقوانين والأنظمة الحاكمة، وكل ما هو جاهز رتيب سابق التحضير (رزقُ هذه الأرض الطيبة، هو ما يسقط سهوًا من قبلاتكِ!، كما يقول في أحد المقاطع). الموت نفسه في الهواء الطلق، أفضل من حياة مقولبة في غرفة لا تدخلها الشمس، ولا تمرح فيها الأرواح بطلاقة الأطفال، ومبادرة الأحرار. ببساطة شديدة، غاز الضحك أو الغاز المضحك (أكسيد النيتروز)، هو غاز يستعمل حاليًا في التخدير قبل جراحات الفم والأسنان، وكان يستخدم قديمًا في حفلات الأثير (المرح ونسيان الألم)، حيث تنجم عنه انقباضات في عضلات الفكين، فيبدو الفم منفرجًا كأنه يضحك، في حين أنه مخدَّر في حقيقة الأمر، ومهيأ لإجراء جراحة مؤلمة. وببساطة أكثر، وهذا مجرد مدخل تمهيدي لأجواء النص من خلال الغلاف، فإن مثل هذا الغاز يرسم صورة الضحك على الوجوه، أو هو قادر بمعنى أدق على برمجة الوجوه على الضحك الاصطناعي، في حين تظل القلوب في تفاعلاتها الحياتية المتلاحقة تنشد ما هو أصلي وحقيقي قادر على إحياء الإنسان، من داخله، وليس من مبتكراته ومنجزاته المزعومة. طقوس ? تستغرق وقتًا طويلاً جدًّا بين ديوان وآخر، مرة تسع سنوات، ومرة أربع سنوات. ماذا عن آلية الكتابة لديك، وطقوسها، وتوقيتاتها؟ ? لا أرى الصورة على هذا النحو من المد والجزر، أو الشد والجذب، فقصيدتي بفضل الله لا تنتظر حتى أدعوها! إنها لا تخون المواعيد أبدًا، لأنها، ببساطة، المواعيد كلها! زمن القصيدة ممتد عندي على مدار اليوم كله، والعمر كله، وهو أشمل بكثير من زمن التدوين النهائي على الورق. إن الإمساك بالقلم، وخط حروف القصيدة، مرحلة متقدمة جدًّا من مراحل الإبداع المتتالية. النص يبرق كفكرة أولية وامضة، في لحظة كشف روحي وعقلي استثنائية، ويظل يكبر وينمو ويتشكل داخليًّا دقائق أو ساعات أو أيامًا أو شهورًا أو سنوات، مستغرقًا الوقت كله بلا مبالغة، في اليقظة، والمنام، والغيبوبة! وحين ينسكب النص من المخيلة والذهن على بياض الورق، فإنه ينسكب طبيعيًّا مكتملاً، رافضًا مشرط الجراح، وأجهزة الشفط، والطلق الصناعي، وحضَّانات اكتمال النموّ! الثقة متبادلة بيني وبين قصيدتي، لذلك لا أتعجل أبدًا نضجها داخلي، كي لا أقهرها. ولا تتعجل هي نضجها، كي لا تخدعني أو تظلمني. لقد عاشت مثلاً تجربة “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” داخلي قرابة تسع سنوات، لم أفكر خلالها في الإمساك بالقلم للكتابة (أقصد: للتبييض) إلا بعد أن أعطتني قصيدتي الضوء الأخضر لذلك! وربما تظل أجزاء هذه التجربة تتوالى من تلقاء ذاتها، إلى أن تطلب الأبجدية مساحة من الصمت، أو هدنة لالتقاط الأنفاس. وقتها، سأرتمي فوق حشائش الرضا مبتسمًا، لحين بزوغ فجر عمل شعري جديد! وقد بدأت فعلاً في ديوان جديد خارج سياق تجربة الإنسان الآلي. لا أمارس طقوسًا من أي نوع، فمثلما أحيا ببساطة، فإنني أكتب ببساطة. أكتب في أي وقت، وكل وقت، وأي مكان، وكل مكان. لا أميل إلى الربط بين طقوس الإبداع، والإبداع كفعل حيوي، وإن كنت لا أنفي علاقة وثيقة بين تلك الطقوس (خصوصًا الغريبة والشاذة لدى البعض) وبين الترويج للإبداع، أو تسويقه دعائيًّا وتجاريًّا. أضف إلى ذلك ما يتصل بالمظهر الشخصي للمبدع، وبعض عاداته وسلوكياته، الخ الخ. على أن دارس الإبداع الموضوعي، فيما أتصور، لن تعنيه حكايا عن بيريه الحكيم مثلاً، وحماره، وعصاه، وهل كان المسرحي الكبير بخيلاً فعلاً أم يدعي البخل؟! ولن يفيد الآن عند تقييم لوحات سلفادور دالي فنيًّا أنه افتتح هذا المعرض أو ذاك وهو متجرد من ملابسه تمامًا، فأدهش حاضريه! ? بعبارة واحدة: لماذا تكتب؟ ? أكتب، في المقام الأول، كي أجد شعرًا أستمتع بقراءته، وأرضى عنه تمامًا، فأنا في الأساس قارئ يلهث خلف فراشة الشعر. “ليست مهنتي صناعة اللُّعَبِ/ ولا صدري يتسع لرهان/ هو حصانٌ وحيدٌ اخترعْتُهُ/ يمرحُ كي يحيا/ ولا تربكه عثراتُ الطريق”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©