السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوزفين وول ساحرة الجملة اللونية

جوزفين وول ساحرة الجملة اللونية
18 أكتوبر 2017 02:59
الفنانة الإنجليزية جوزفين وول (Josephine Wall)، المولودة في (فارمنهام/‏ إنجلترا/‏ 1947)، لم تستفد فقط من تجربة الفنانين القريبين لزمنها وعالمها، لكنها الساحرة المبدعة لأسرار الجملة اللونية، وإيقاعات تناغماتها بين الحار والبارد وما بينهما من تدرجات دلالية، وشبكة نصوصية، متناسقة مع مفردات الحلم الراحل، أبداً، إلى الكونية، من خلال فضاء متداخل مع الفضاء، وإيحاءات متناسلة في الإشارة وتداعياتها الخرافية، والرومانسية، والسوريالية، المعتمدة على الرموز الأسطورية، والمفردات الإيحائية، والأحداث المشهدية، وما تلتقطه المخيلة، ولا تتركه يذهب إلى الفراغات إلاّ بعدما تمنحه إيقاعات لونية، وموسيقا ميثولوجية، ونصاً مثقفاً بالأبعاد، والإيحاءات والأحداث والشخوص، والتحولات الراكضة بين الكتلة والفراغ، ومقول الدلالات التي من الممكن أن تكون حكايات وقصصاً وروايات وقصائد وأحلاماً وهواجس تقرأ بجمالية (فانتازية) تلك الخطوط والنقوش والضربات اللونية، لتنتج قاموساً لونياً خاصاً بجوزفين وول. تسيطر ملامح الفنانة على شخوصها، وكأنها ترسم حالاتها المختلفة مع الحياة، كما ترى ذاتها والآخر، في ذاكرتها، وأحلامها، والفضاء، ولربما، استطعنا أن نسقطها في زمننا الراهن على وسائل التواصل الاجتماعي، كالحالة في «فيسبوك»، أو «تويتر» ؟ أو عرفنا عنك: من أنت؟ تحدث عنك؟ والأغرب من ذلك، سؤال تطرحه اللوحات: ماذا ترى في أعماقك؟ ونلاحظ أن الإيقاع السحري لفنيات لوحاتها، يكمن في العديد من العوامل والعناصر ومنها: توظيفات اللون، خاصة (الأزرق/‏‏ الأحمر/‏‏ الأصفر) وتدرجاتهم المتضادة، وحركية الخط التي توحي بانسيابية رومانسية لأول وهلة، لكنها حركية تغور عميقاً في الفضاء الخرافي للمخيلة وإيقاعاتها وذاكرتها أيضاً، كما تعتمد على انجذابات اللاوعي بين موجات المد والجزْر حتى يصل إلى الشاطئ متخلياً عن بعض أصدافه، وحكاياته، وآثاره على شواطئ اللوحات التي يمكن تسميتها أسرار الجمال اللامرئي. محاور لا مرئية أمّا المحاور الفنية اللامرئية، فهي من أسرار أعمالها الفنية: أولها جماليات إيقاع الوقت، وخطواته بين الألوان والمفردات والعناصر والحركة والسكون، وحركته الزمنية الموسيقية التي تعزف أحياناً بسرعة (50%)، وذلك عندما تتوازى المساحة اللونية بين تدرجات اللون السماوي البارد، وتدرجات اللون الناري الحار، وتزداد السرعة الزمنية لإيقاع اللوحة كنص واحد، أو (وحدة كبرى)، كلما لامست وحداته الصغرى وأجزاؤه عوامل إنسانية لا تتلاشى، أو بالأحرى، موجودة عبْر الزمكانية، ليس لأنها ترتكز على الموروث الإنساني وهالاته الخرافية، وثيماته الأسطورية، بل، لأنها تمتد بعيداً في الحالات المتمحورة حول الإنسان، مثل: الحلم، الحب، الطبيعة، عناصر التكوين المائية والنارية والترابية والهوائية، صورة الحضور الذاتي في الوجود، ويقابلها صورة الحضور الذاتي في الآخر، وفي الطبيعة، وهو حضور متشابك بين الضمائر، والغياب، والساكن من اللون، المتحرك مع الإيحاءات. وثاني تلك المحاور الفنية اللا مرئية: ما تقدمه ظنون الإضاءة والظل، من تماوجات فراغية، ورؤى، وتحولات، لا تركن إلى إيقاعها الزمني الأول، بل تتمدد كما يتمدد الكون في الفراغ، والحلم في النص اللوني، لا سيما وهو يحلق مع الشخوص الواضحة، منها: الحصان، الإنسان، المرأة، الشجرة، الفراشة، المحارة، الطيور، الموجات، الأشجار، الحورية، الأسد، السرطان، الفراشات، الورود، ومنها الليل والنهار ومسافاتهما الزمنية المختلفة، وكذلك المكان الطبيعي من قرية وحديقة وبحيرة ومدينة وقصور وفضاء وبيوت، وإلى آخر ما هنالك من الإشارات، والشخوص اللا مرئية أو الاحتمالية، ومنها (الدلالات/‏‏ الإيقاعات/‏‏ المسافة الزمنية) وحركية الضوء المتظالل بهواجسه المتراكمة بين الحلم واللون والميثولوجيا، وانعكاساتها في مرايا اللون، وما يرشح عنها من سكونات تبدو، للمتلقي، وكأنها حالمة فقط، إلاّ أنها مثل الألوان الباردة، تشعّ بما تخفيه، تحت نصوصها، ومفرداتها، من قلق وتداعيات، تنجذب إلى هالاتها الخرافية المنسحبة من المشهد إلى لغة أخرى، قد تكون خارج اللوحة، أو خلفها، موحية بأن شيئاً ما، حدثاً ما، حالة ما، دائماً على وشك الحدوث، لأن ما حدث لم ينتهِ، بل هو غير قابل للانتهاء. أمّا ثالثها، فهو ما يظهر من مفردات مصغّرة، وشخوص وأحداث مصغرة، وعناصر أخرى، عرفها وقتنا المعاصر من خلال برامج عديدة منها (الفوتوشوب)، وأعتقد أن (وول) من الذين كتبوا أكثر من سيرة وقصة وحكاية ومسرحية في لقطة واحدة، أو لوحة واحدة، أو مشهد واحد، أو حالة واحدة. ورابع الأسرار، رسْمُها لأثرٍ كان موجوداً هنا، يتخذ هيئات مختلفة، مثل (الفراغ) وهو ما نلاحظه في إحدى اللوحات بصورة سمكة ليست موجودة لكنها من فراغ يملؤه الضوء، كما في لوحتها (اللوتس والطفلة) والموج المتقدم (المدّ) وهو يتخذ شكل تويجات (اللوتس) أيضاً المتعاكسة بضوئها مع ضوء القمر ونقاط النور التي تبدو ك (ثلوج النور) في خلفية اللوحة، كما تبدو الغيوم المحيطة بالقمر، مثل (اللوتس) أيضاً، وبذلك تبدو آثار البراءة والتوحد مع السماء والماء محوراً يتفتّح مثل (أزهار اللوتس) المرسوم منها بشكل مباشر، والمرسوم منها بشكل (الأثر الطيفي)، إضافة إلى الوردة التي تحملها الفتاة وهي تتمرأى بالموج موحية بأن (نرسيس) السلبي ليس هنا، بل وجهُ الحلم الآخر، ووجه الطمأنينة الحالمة في وقت تحدده الألوان (الشفق)، أو (الغسق). وما قبل الفجر وما قبل الليل، لا بد من أشعة فضية تتماوج على مفردات اللوحة، متحركة مع المياه إلى الشجر والشاطئ. دلالات تتحرك بصمت وإذا ما اتجهنا إلى اللوحة التي تتوسطها جوزفين، نجد دلالات متعددة تتحرك بصمت، وصوتها دلالة التساوي بين البشر، ونكتشف ذلك من خلال لون بشرة الشخصيات، وزينتهن المنتمية لمناطق مختلفة من العالم، جاعلة من هذه الدلالة حواراً بين الشعوب والثقافات والحضارات، هنود وأفارقة وأوروبيين وعرب وغيرهم، إضافة إلى التوازن بين الغوص والتحليق والتأمل في المكانين الواقعي والنفسي. ولو تساءلنا: لماذا تتألف اللوحة من خمسة وجوه نسائية؟ لربما أرشدتنا تحاليل الألوان ومفردات الزينة إلى القارات الخمسة، لكن، لماذا تتوسط الفنانة هذه اللوحة؟ ربما لأنها أرادت أن تكون محور اللحظة (الكولاجي)، ربما لتمحو الفوارق بين البشر من خلال جمعها في (الإنسان)، وقد يتساءل أحدنا: لماذا لم يكن وجه جوزفين إلى القمر، بل تركته خلفها؟ ربما لأنها تميل إلى الغوص أكثر في الحلم أو الدواخل، ودليلها حركتها الساكنة الهادئة، إذا ما استثنينا ملامح ابتسامتها، وعينيها القابضتين على حزن وأسئلة عديدة، وهي الملامح المقترنة بدلالات أخرى في لوحاتها ومنها (روح الشتاء) التي تبدو فيها العينان مغمضتين لكنهما منهمكتان في انشغالات أخرى، منها الاهتمام بالثلج وأجنحته الرقيقة وطفولته، ومنها الإطلالة على البيوت والزمان، والملفت أن الثلج ليس حالة من التراكمات المألوفة، لأنه يحضر بشكل الأعشاب، وشكل نواة الثلج التي اكتشفها العلماء. طائر الفينيق الطيران ثيمة في لوحات جوزفين، ورموزه عديدة: الريش، الفضاء، التطهر الداخلي، ويبدو طائر (الفينيق) طاووساً، يستعيد ذاته من احتراقه، مشرقاً مع الشمس، كناية للتجدد المتواصل، والألم المتواصل، والاشتعال الدائم من الرماد، و(الفينيق الطاووس) حاضر برموزه في لوحات أخرى، كريشة من ريشه المرسومة للزينة (إكسسوار)، أو كريشة في أجنحة الشخصيات، مثل لوحة (الطريق إلى الأعلى/‏‏ التحليق)، أو كوجوده في أماكن أخرى مثل حضوره في لوحة القيثارة، أو كعين تطل من الأعلى على السفن والبحر والأسماك والطيور والفراشات والموج والشواطئ وأشعة الهلال والموسيقا المنبعثة من آلة الموسيقى اليدوية القديمة. وهو انعكاس رمزي لحالة الفنانة الراغبة دائماً بالتجدد والانفلات من الجاذبية المعتادة للأرض، والجاذبية القاهرة للآلام، انطلاقاً إلى فضاءات العالم، والحلم، والفن. بحيرة الحلم والبجع الموج من العناصر البارزة في أعمال (وول)، وهو متحرك في الاتجاهات والدلالات، ولا يصمت إلا ليحكي، يشير، ويضمر تحولات الصوت ليكشف تحولات اللون من خلال وجه الشخصية (الفنانة ذاتها) المنبثق من جسد البجعة ليكون قلبها بالتحديد، الوجه المطل بحزن وتأمل على الموج وعازف الناي، والورود، والفراشات، وآثار الساكنين، وظلال المكان، وجذع الشجرة، والضبّانان، والفتاة المتكئة على الشجرة الخارجة، أيضاً، من جسد بجعة أخرى مقابلة، وسفينة شراعية وحيدة تفصل بين الوجهين (البجعتين)، وبعيداً عن السفينة التي تمثل (الأنا المبحرة) يبدو شخصان يتأرجحان في الهواء، ولا يجمع هذه العناصر سوى أثر دلالي متخفّ، لكنه يظهر من خلال معزوفة الناي المنعكسة حزناً على العينين، وأملاً على بقية اللوحة من خلال رمزها الضوئي (الشمس) وأشعتها، وحركية اللون الأزرق النازح إلى الخفوت حتى الدرجة الرمادية في أسفل الزاوية اليمنى من اللوحة، وتداعياته اللازوردية على الفراشات والعازف ولون العينين المحدقتين إلى الجوّاني أكثر من تحديقها المباشر في مفردات اللوحة، مما يوحي بأن الحلم المتموج أصبح مع شخصيته في حالة أقرب إلى التنويم المغناطيسي، وأنّ سحراً ما سيشرق في لحظة ما بعيداً عن الضبّين الناظر كل منهما في اتجاه مختلف. موجات الضوء لإيقاعات الضوء بحيراتها ذات الحركة الواعية لدى (جوزفين)، فهي ترسمها بدقة سواء بعناصرها الطبيعية (القمر/‏‏ الشمس) ومدلولاتهما المتدرجة بين الليل والنهار، المذكّر والمؤنّث، الوعي واللا وعي، اليقظة والحلم، وغيرها، أو سواء من خلال حضور آثار الضوء في كتلة اللوحة أو فراغها، بهيئة شمعة، نقاط بيضاء، أشعة متناثرة، ضوء خافت، نار مشتعلة، هالات، أطياف، شعلة، كرة مضيئة، نجوم، طمأنينة، استغراق، رحيل، ابتعاد، طيران، أجنحة، أو غير ذلك من الرموز التي تنبعث من لوحة (القارئة) المغمضة العينين والكتاب بين يديها مفتوح لتنتشر منه قصة حب حالمة بين فارس أمير وأميرة، تحيط بهما الورود، بينما تغطي الرائحة والبخار والضباب أجزاء من الحلم الذاهب القادم مع الموجات الهادئات، المنعكس عليهن الضوء من (الشمعة) المقتربة من الذوبان، المتمركزة في وسط اللوحة. ألحان الملائكة تبدو طروادة أو أثينا وراء العازفة الممسكة بالقيثارة، الراغبة في أن تكون (هوميروس) و(هيلين) معاً، المنسجمة مع ملحمتها التي تؤلفها بمعزوفة لونية تتناغم مع الهلال المطل من بعيد، ومع الأشعة المطلة من الشمس آنَ البزوغ، أو آنَ الغروب، وتحيط بالعازفة شموع من الورود، ترافق القارب الفينيقي بشكله (الطاووسي الفينيقي)، تاركة للفينيق الطاووس الثاني حركته المنسابة مع الأغصان السحرية وكأنه النغمة المعزوفة في الآفاق، المنبسطة إلى الأعلى من خلال الفتاة المنحوتة على مقدمة القيثارة، وجذع الشجرة المتصلة بالورود البنفسجية وأغصانها، لتدل على حب حالم للشخصية الرئيسة المتقمصة لبطلة الإلياذة والأوديسا (هيلين)، المطمئنة لعناصر اللوحة، ومنها الطائر الواقف على الكتف الأيسر للعازفة، وهو يصغي كما تصغي الألوان لاحتمالات الحالة وتشكيلاتها وقراءاتها المختلفة. للموسيقى، وآلاتها (القيثارة/‏‏ العود/‏‏ الناي/‏‏ المحارة كالبوق/‏‏ الآلة الموسيقية اليدوية القديمة)، حضورها المجسد في أعمال (وول) التي تسميها (ألحان الملائكة)، وحضورها الرمزي من خلال فاعلية التناسب اللوني وتركيبات عناصره المركّبة المتوزعة على مفردات اللوحة وموجوداتها، وعلى ألوانها المسحورة بالبنفسجي والأزرق وتدرجاتهما، وآثار الألوان الأخرى الهائمة مع خرافة الجملة اللونية وتداعياتها التي تظل بحاجة إلى قراءات واستنطاقات فنية وجمالية أخرى. رغبة الانعتاق الطيران ثيمة في لوحات جوزفين، ورموزه عديدة: الريش، الفضاء، التطهر الداخلي، ويبدو طائر (الفينيق) طاووساً، يستعيد ذاته من احتراقه، مشرقاً مع الشمس، كناية للتجدد المتواصل، والألم المتواصل، والاشتعال الدائم من الرماد، و(الفينيق الطاووس) حاضر برموزه في لوحات أخرى، وهو انعكاس رمزي لحالة الفنانة الراغبة دائماً بالتجدد والانفلات من الجاذبية المعتادة للأرض، والجاذبية القاهرة للآلام، انطلاقاً إلى فضاءات العالم، والحلم، والفن. شيء عن جوزفين جوزفين وول الإنجليزية ولدت عام (1947) في فارنهام، وانتقلت مع عائلتها إلى دورسيت وكان عمرها (14) عاماً، تخرجت من كلية بارنماث أند بول للفنون الجميلة (1967)، ثم عملت كمصممة فخاريات، وبدأت تعرض أعمالها المتنوعة في مختلف دول العالم، ومنها طهران وطوكيو، وأول معرض فردي لها كان (1975)، واختيرت بعض أعمالها لمول لندن (1998)، ثم أقامت معرضها الفردي الثاني والثالث (1991 - 1990) في غاليري مايفيلد في بارنماث، كما وقعت عقوداً مع شركات عالمية لنشر وتسويق وتوزيع أعمالها كطباعة وملصقات وبطاقات في جميع أنحاء العالم، وفي (2010) افتتحت معرضها الخاص في بريطانيا. صوت المساواة اللوحة التي تتوسطها جوزفين، تحمل دلالات متعددة تتحرك بصمت، وصوتها دلالة التساوي بين البشر، ونكتشف ذلك من خلال لون بشرة الشخصيات، وزينتهن المنتمية لمناطق مختلفة من العالم، جاعلة من هذه الدلالة حواراً بين الشعوب والثقافات والحضارات، هنود وأفارقة وأوروبيين وعرب وغيرهم، إضافة إلى التوازن بين الغوص والتحليق والتأمل في المكانين الواقعي والنفسي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©