الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نظرة نيبول الخاوية

نظرة نيبول الخاوية
29 أغسطس 2018 23:47

جاك دي كورنوا
ترجمة: أحمد حميدة

ما انفك فيديادر سوراجبراساد نيبول مند قرابة ثلاثين سنة يجيل بصره في العالم الذي من حوله، محاولاً استلهام راهن الإنسان، ولا يتوقف عن الكتابة. وقد كان مسهباً في كتابته تلك، حتى أنه ألّف عشرين كتاباً، ولكنه كان في كل مرة يبدو وكأنه يعيد تأليف الكتاب نفسه.. الكتاب نفسه عن نفسه. وقد دفع هذا «الكتاب الأوحد» بعض النقّاد الأميركيين والأوروبيين، بعد الإطلاع عليه، ودون ترك أية مسافة بينهم وما جاء في ذلك الكتاب، إلى الاعتقاد بأنهم باتوا يتملّكون مفاتيح قضايا منطقة الكاريبي، ويقفون على دقائق مشاكل الأفارقة وتيارات الإسلام الشرق أوسطي والآسيوي.

لا شك في أن الإمعان في السفر من لندن، التي كانت مقر إقامته، وكونه سليل أسرة هندية مهاجرة خلّفت ذرية لها في ترينيداد، فضلاً عن الزاد المعرفي الذي تحصل عليه في أوكسفورد، قد شكّلت عوامل مساعدة جعلته يخوض في تلك الحقائق المعقدة والمتنوعة، طالما لم ينظر لها عبر الموشور المشوّه والنرجسي لتغربه الإرادي. وإلا فإن «كتاباً أوحد» كان سيكفي للتعرّف على سيرته، التي تخللتها ثلاث محطات مهمة: ميلاده بترينيداد سنة 1932، قدومه إلى بريطانيا سنة 1950 لمزاولة دراسته الجامعية، وبداية من سنة 1960، رحلاته الموصولة والمتكررة عبر الكاريبي وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.

منفى طوعي
قد اختار نيبول أن يكون منفياً في بريطانيـا، ولكن لا أثر في مسيرته لإجراءات إبعاد أو لرحيل طوعي لأسباب سياسية. كما لا أثر لمشاركة له في الجدل الجماعي الذي كان قائماً عن العلاقات بين الكاريبي والولايات المتحدة، عن أميركا الشمالية والجنوبية، عن الشرق والاستشراق وعن الزنوجة والغرب. فلا قاسم مشترك يجمعه مثلا بمثقفين مثل ديبيستر أو كورتزار أو إدوارد سعيد. لقد تم الاحتفاء به في الغرب فحسب بوصفه كاتباً بريطانياً مهماً في هذا العصر، ولأنه اعتبر «إنساناً حراً»، نَشَرَ بشكل إرادي جذوره، حتى لا يكون له أي سلف أو أي ماض قد يعود إليه ليتخـاطب معه. فيكون نيبول بهذا المعنى، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، قد اختار أن يكون مفكراً متغرباً، منبتّ الجذور، وفي نظر الكثيرين التجسيد الأدبي للمثقف المتأرجح، صاحب النظرة الخاوية، الذي ينبذ الانتماء إلى أي من التيارات الفكرية، أو الانتساب إلى أية أيديولوجيا.

أيديولوجيا متشائمة
قد يبدو هذا الرأي صارماً بالنسبة لذلك الذي قد يحتج بالوصف الذي لا يخلو من ظرافة للشعب الهندي الصغير في رواية «شارع ميغال»، أو بذلك السرد الذي كان مضجراً في رواية «منزل السيد بسواس». ومع ذلك ففي تلك المؤلفات تحديداً يكون نيبول قد توفق في التحدث عما كان يعرفه، محاولاً التجذّر في بيئته، وفي ذات الوقت التفلّت من كل ارتباط أو انتماء. لا شك أنه، لو تشبّث بانتمائه الفكري لترينيداد، كان سيدرك العالمية؛ ولكنه كان بحاجة إلى أن يشيّد انطلاقاً من ذلك العالم الجُزُري الصغير عملاً شاملاً، كما وليام فولكنر الذي جسّد عبقريته في «منديل للجيب». غير أن نيبول آثر الهروب، ومن غرفة فندق رثة بضاحية لندن، كان أحد أبطاله، رالف سينغ، يتحدث في رواية «الرجل المقلد» عن الحياة السياسية بجزر الكاريبي.
كان ولا بد أن ينتهي ذلك الخيار الأيديولوجي بتحليـل اختزالي ومتشائم للواقع، ولكن لا لأن نيبول ينكر بعض البديهيات، فقد لمح هنا وهناك إلى صراع الطبقات وإلى الاستعمار الجديد، وإلى النتائج المدمرة للسياحة. غير أنه كان يرى أن البنى الثقافية والسياسية للمجتمعات المختلفة التي قام بزيارتها، في صورة ما إذا كانت تلك البنى موجودة أصلا، هي بنى متسلطة لا مستقبل لها، وغالباً ما تكون بلا ماضٍ.
«إن الإنسان.. سيّد ذاته، لا يشعر بالارتياح إلا متى انتبذ أقرباءه وتقيّأ أعرافهم»، هذا ما ذكره نيبول حين كتب سيرته الذاتية؛ وكان أحد أبطاله، السيد بسواس، لا يتنفس إلا حين يكون منعزلاً عن الناس لا يرى أحداً؛ ولو قمنا بإعادة صياغة كلمات لكامو، لقلنا إن نيبول كان يمحو كل عنصر متضامن، ويرى فيه عاملاً مُغِماً، لفائدة من يكون أميَل إلى التوحد، حتى وإن كان هذا الأخير.. سوقياً.

رؤية مشوّهة
إن مثل هذه الرؤية للعالم، ومثل هذه المقاربة للأفراد، لا يمكن أن تجعله متهيئاً لفهم المجتمعات «الأخرى» وإدراك خصوصياتها. ومع ذلك فإن نيبول يعد لدى الكثيرين مراقباً موثوقاً في معرفته لأوضاع الأميركتين وإفريقيا والبلدان الآسيوية. غير أن قراءة أعماله الروائية وتحقيقاته الصحفية تشي برؤية مشوّهة لتلك البلدان، لا تخلو من أبعاد كولونيالية، بل عنصرية.
يقول نيبول، إن زيارته لجزر الأنتيل جعلته يشعر بالغثيان؛ وإن لم يكن وصفه لها، في بعض جوانبه، غير خاطئ، فأنه كان وصفَ صحفيٍ عادي، على عجلة من أمره، ويسارع لأخذ الطائرة التي ستقله إلى لندن. لا شك أن ضيق الوقت، وذلك التسرّع، لن يسمح له بقراءة إيمي سيزير المقيم بالأنتيل، ذلك الكاتب المبدع الذي خبر على نحو أصيل أحوال وثقافة أهالي تلك الجزر. كما قد ننخدع بزياته الأقْصرَ لجزر الكاريبي الإنجليزية (وقد نتساءل إن كانت تلك الزيارة حقيقية أم متخيلة؟) ويحملنا على التساؤل: ألم يكن الكاتب أصيل تلك المنطقة؟ وفضلاً عن ذلك، فقد نتساءل: لماذا أهمل نيبول حكاية العصابات المتمردة (الغريييروس) التي قام بسردها بأسلوب الكاتب جيرا ردي فيلييه، سرد قد يخرج منه القارئ باستنتاجات عامة غريبة عن الأنتيل وجزر الكاريبي. وقد نخمّن تلك الحكاية حين نقرأ وصفه لأفراد تلك العصابات المتمردة «ذوي العيون المتقاربة والمحتقنة دما»، برؤوسهم «الشبيهة بقناديل البحر».. حتى أنه لن يكون بالإمكان عدم تشبيههم بجماعة «الرفيستريس»، طالما أن شعورهم كانت هي الأخرى «مزينة على شكل ضفائر مُنْتفِشة».
ففي الكاريبي التقى نيبول «بحكم السود» وبتجلياته الثقافية، وفي رواياته أشار هنا وهناك إلى وجود موسيقى «الريغي». «نحن هنا.. في بلد دمرته الموسيقى».. ذلك ما ذهب إليه أحد أفراد العصابات المتمردة، وهو يتحدث على لسان نيبول عن أهالي جامايكا. غير أن تلك الموسيقى من حيث أصولها وأهميتها لم تكن محل دراسة جدية ورصينة من قبل نيبول، الذي رأى في أعمال بوب مارلي وجيمي كليف «موسيقى ضارة، وخالية من كل قيمة تاريخية أو سياسية».

استهانة وتنكّر
وفي رواية «الممر الأوسط» كان نيبول وهو يتحدث عن الكتّاب الأميركيين، قد أشار إلى أن الموضوع الذي يتناوله الزنجي، أي زنوجته، «لا يمكن أن تشكل أي أساس لأدب رصين»، مضيفاً أن الزنجي الأميركي «ليس لديه ما يقوله». وحين تحدث عن الكتابات المنشورة في الهند الغربية، كان يرى أن أدباءها «لم يخفقوا فحسب في درء المرض عن مجتمعهم، وإنما ساهموا في تفاقمه». وهنا أيضاً، نلمس استهانة نيبول بتمرد الزنوج من أجل تأكيد هويتهم الثقافية، وتنكر لحقهم في الدفاع عن الزنوجة كسبيل لتنمية وعي سياسي عميق لديهم.
وفي رواية «العصابات المتمردة» كتب نيبول: «لم تنتج هذه الجزيرة رجالاً عظماء، وقد استنفدت كل الإمكانيات المتاحة لها»، ويتحدث بصددها عن فراغ اجتماعي وثقافي، وعن «عفونة مكدسة فوق عفونة»، وعن «عالم في حالة تحلل». وتلك مواضيع نجدها مبثوثة في كل كتابات نيبول.
وتنسحب تلك المواقف على مناطق أخرى من العالم مثل الأرجنتين التي تجاهلها نيبول تماما، وزائير بإفريقيا التي لمس فيها حالة من العدمية، وساحل العاج التي كانت في نظره طريق سيارة فحسب تقود إلى خندق التماسيح في بيماسوكرو. أما أفريقيا في رواية «في دولة حرة» كما في رواية «عند منعطف النهر» فهي تبدو عالماً لاعقلانياً، مجنوناً، سقيماً، ومثيراً للإزدراء والسخرية. ويرى نيبول أن ذلك العالم الذي يظل في حال الترقب، الذي لا تموضع فيه للفرد، مآله العودة إلى العدم، إلى الغابة، وإلى العفن والفراغ. كما يتبدى الأفارقة في هذا المشهد على هيئة أناس انتهازيين وقتلة وسكيرين، وأحيانا على هيئة مثقفين يدورون حول بيض لعوبين. فإفريقيا كما الهند تبدو بعيني نيبول بلا أمل.. «إنه لأمر جيد أن يكون الهنود عاجزين على النظر مباشرة إلى أوضاع بلادهم، لأن التعاسة التي قد يرونها قد تصيبهم بالجنون». وخلال سنة كاملة قضاها بالهند وهو يبحث عبثاً عن جذوره، لم يلتق خلالها هندياً واحداً له مثل نظرته الخاوية. وإن كانت لغاندي في نظره مثل تلك «الرؤية الشفافة»، فذلك لأنه كان يحمل إلى حد ما عقلية المعمرين الإنجليز... والحال أن التحقيق الذي أنجزة نيبول عن الهند، لا يعدو كونه سفراً في استيهاماته، التي جعلته يحلم بهند بلا هنود، هند مطهرة وجميلة كنزل عالمي. أما أوصافه المزدرية للهنود الذين يتغوطون في الطبيعة، فأقل ما قد يقال فيها، هو أنها مثيرة للضحك وغنية عن كل تعليق. ثم إنه لم يحتفظ في ذهنه، عن اقتصاد شبه الجزيرة الهندية، إلا بالقضية الغامضة لصادرات من منتجات مغشوشة؛ لعله كان بحاجة إلى اختزال الاقتصاد النمساوي في فضيحة الخمر الممزوج بالمواد المقاومة للتجمد.

خيال قاصر
يقيناً أن نيبول كان قد أدرك أن نمط الحياة الغربي متى تم إسقاطه على مجتمع تقليدي، لا يولّد غير ردود فعل عنيفة. لقد كتب ذلك وهو يتحدث عن إيران الشاه. غير أنه لم يسلم عند تقصيه لمشاريع السلفية الإسلامية من مراكمة الأخطاء وسوء التقدير. ويقول بأنه خدع من قبل الإيرانيين الذين أخفوا في نظره المحتوى الديني. فمن حقه مثلاً أن يتذكر حكايات تولستوي ولرمنتوف، ولكن ثمة مصادر أخرى لتقصي الحقيقة. من حقه أن ينصب فخاخاً للماليزيين والأندونوسيين الذين التقاهم، والذين لا تخلو خطاباتهم من تناقضات، ولكن كيف لنا أن نثق في تحقيقاته الخالية من كل وجاهة تاريخية، والتي تريد أن تقنعنا، دونما تنسيب، بأنه ليس ثمة غير فهم واحد للإسلام.
ويقر نيبول في كتابه «هند بلا أمل» أنه ليس بوسعنا «مؤاخذة الكتّاب على انتمائهم إلى هذا المجتمع أو ذاك»، ليضيف أنه «بإمكان السيرة الذاتية تشويه الحقيقة في ترتيبها للوقائع والأحداث، وأن الخيال لا يكذب أبداً، ويكشف عن الحقيقة الكلية للكاتب».
قد لا نؤاخذ نيبول على قطع صلاته بمجتمعه الأصلي وتخيره لمجتمع بديل، كما قد لا نعيب عليه ارتهانه في مجال الكتابة الأدبية إلى الخيال، غير أن أعماله الخيالية لا تختلف في شيء عن تحقيقاته الصحفية، وجاءت لتقدم لنا عنه صورة بالغة الدقة: كاتب منذهل يجيل نظرته الخاوية في العالم الذي من حوله، غير أن قصر نظره لم يسمح له بمعرفته والإحاطة بحقائقه. وما نجاحه الذي اكتسى مظهراً أدبياً، وانتهى به إلى حيازة جائزة نوبل، إلا علامة كاشفة عن حقيقة الزمن الذي نعيش.

موسيقا ضد العنصرية
موسيقى «الريغي»، الجامايكية الكاريبية الأفريقية، التي ينتقدها نيبول، هي واحدة من الأشكال الحضارية التي ابتدعها سكّان تلك المناطق للتعبير عن آلامهم المتمادية، وقد كان لهذه الموسيقى التي ذاعت شهرتها خلال ستينيات القرن الماضي، دور تحريضي وتأطيري في الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول القارة، في الحركات الاحتجاجية التي انتظم فيها ألوف الشبّان للتعبير عن رفضهم للسياسات العنصرية ضد السود، والاستعمارية في مواجهة الدول الفقيرة.
وقد كان بوب مارلي، الذي ينتقده نيبول، السفير الأشهر «للريغي» دولياً. فمنذ أيامه الأولى مع إحدى فرق الروكستيدي حتى سنواته اللاحقة عند دخوله الراستافارية ونشاطه سياسياً، زرع بوب مارلي نفسه بعمق في قلوب أنصار «الريغي» في أنحاء العالم كافة.
ويعتبر بعض النقّاد مارلي بأنه المسؤول بشكل خاص عن شعبية «الريغي» حول العالم، ولكن الفنانين الآخرين، مثل جيمي كليف وبيتر توش، ساعدوا على ازدياد هذه الشعبية.
ويميّز «الريغي» الإيقاع الثقيل، الذي ولا يمكن إيجاده في الموسيقى الأوروبية أو الآسيوية التقليدية. وتستخدم غالباً في هذا النوع من الموسيقى القيثارات، والطبول، والأرغنات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©