الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيّاعو الخيال..

بيّاعو الخيال..
16 يناير 2013 19:47
يقوم هذا الكتاب على فكرة رئيسية مفادها أن الرسامين والفنانين التشكيليين منذ العصور القديمة وإلى اليوم، لديهم باستمرار شهوة كبيرة للمال، ورغبة جامحة تصل إلى حد اللهفة للحصول عليه وربحه ببيع لوحاتهم، واليوم فإن هذا النهم تفاقم وازداد. وحسب مؤلفة كتاب «Les artistes ont toujours aimé l’argent - الفنانون أحبوا دائماً المال» جوديث هويت، فإن الرأي السائد لدى العامة ولدى النخبة في الغرب؛ والقائل بأن الرسّامين المشهورين همّهم الأول هو المال قبل الفن والإبداع، هو رأي صائب وصحيح وحقيقي، حتى أن سعر بعض اللوحات، وإن كانت عديمة القيمة الفنيّة، صار خيالياً فقط لأنها تحمل توقيع رسّام شهير، بل إن أسعار بعض اللوحات لفنانين تشكيليين مشهورين من القدامى ومن المعاصرين حققت أرقاماً لا يصدقها العقل، ولهذا بات شراء بعض اللوحات استثماراً مربحاً لدى الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال. جشع الطريف في هذا الكتاب أنه يظهر أيضا أن الرسّامين في العصور الماضية كانوا هم أيضاً من محبي المال حباً جماً، وخلافاً لما يعتقده البعض من أن الرسّامين في عصور سابقة كانوا من أتباع وأنصار نظرية «الفن للفن»، فإن ما جاء في هذا الكتاب يظهر عكس ذلك تماماً، ويبيّن أنهم كانوا شرهين في حبهم للمال وتكديسه إلى حد الجشع. مؤلفة الكتاب، وهي صحفيّة مختصّة في «سوق الفنّ»، وتكتب في مجلة «لوبوان» الأسبوعية الفرنسية تولت البحث في مسألة علاقة الرسامين الأوروبيين بالمال، وركزت في جزء من بحثها على فترة عصر النهضة، وانتهت إلى القول، بعد تنقيب وتمحيص، بأنهم كانوا من المتهافتين، تماماً كما هو حال الفنانين المعاصرين اليوم، على جمع الثروات من خلال بيع لوحاتهم وإنتاجهم الفني. لقد سعت المؤلفة من خلال تحرياتها وأبحاثها إلى تقديم جواب مقنع وحقيقي، وهي لا تطلق الأحكام جزافاً بل تسوق الأدلة وتأتي بالحجج على ما تقول، حيث إنها بحثت وجمعت الوثائق والشهادات التي تؤيد استنتاجاتها، وأوردت أمثلة دقيقة لرسامين كبار مشهورين ويعدون أعلاماً في مجالهم مثل: ماغريت Magrite الفرنسي ذائع الصيت الذي تقول المؤلفة في كتابها إنه رسم أحياناً لوحات كثيرة لم تكن لها قيمة فنيّة تذكر، وقبله سلك كراناش Cranach نفس المسلك وكان همّه الأول هو المال، ورغم أنه جمع ثروة طائلة إلاّ أنّه كان جشعاً، وكشفت أنّ الرسام الشهير «فان غوغ» ورغم أنه مات فقيراً فإن شقيقه Théo كان أحد أكبر تجار اللوحات الفنية في باريس بعلم شقيقه وبالتنسيق معه. قدمت المؤلفة في كتابها ثلاثة عشر نموذجاً من الرسامين والنحاتين المعاصرين والقدامى والقاسم المشترك بينهم جميعا، هو حب جمع المال الوفير وسعيهم إلى تكديسه ببيع لوحاتهم بمقابل مرتفع، مؤكدة أن أي رسّام معاصر شهير، فإنه تطبع بهذا السلوك حتى أنه مع كلّ لمسة بريشته على لوحته فهو يصنع ذهباً. ومن خلال التحقيق الذي أنجزته في هذا الكتاب، فإن الكاتبة أكدت أن من يقتني هذه اللوحات هم عموماً من الأثرياء، ومن المولعين بجمع اللوحات، ومن هواة الرسم. وهم يدفعون من دون حساب والبعض منهم يستثمر أمواله بشراء لوحات لرسامين مشهورين. وأوردت اعتراف فنان واحد فقط من الرّسامين المعاصرين المرموقين في فرنسا (فرنسيس كريستيان بولتانسكي Francis Christain Boltanski) والذي صرح لها بأنه من اليسير لرسّام شهير أن يجمع ثروة طائلة. سوق الفن وتطرح المؤلفة في كتابها سؤالاً جوهريّاً هو: ما معنى أن يقال «هذا رسّام كبير»؟ وهي الصفة التي يسوق بها تجار الفن وسماسرته في الكثير من الأحيان لوحات لا قيمة فنية لها لتباع بأسعار تفوق الخيال، ولقد تبيّن للمؤلفة من خلال تحقيقها حول 13 من أشهر الرسامين من عصر النهضة الأوروبيّة إلى اليوم، أنّ القاسم المشترك لدى كلّ هؤلاء هو حبّ المال والسعي إلى بيع لوحاتهم بأغلى الأسعار. وإذا كان معلوما أنّ رسّامين كباراً كـ (Andy Warhol آندي وارهول) أو (Damiehirst- دايمن هيرست) أو (Jiff Koons - جيف كنوز) من المعروفين بجمعهم لثروات طائلة، فإن أسماء أخرى لرسامين مشهورين، ممن قد يذهب ظنّ البعض إلى أنهم مارسوا الفن للفن، وأنهم كانوا من الزاهدين في المال وهمهم الأول هو حبهم للفن، لم يكونوا أقل منهم حباً وطمعاً في المال، وكلهم صنعوا بريشتهم ذهباً! وهي تعترف بأنهم رسّامون موهوبون، ولكن هناك من هم أقلّ موهبة وأحياناً لا موهبة لهم وإنما عرفوا كيف «يسوقون» أنفسهم ويبيعون لوحاتهم بأثمان خياليّة، فسوق الفنّ التشكيلي لها قواعد عجيبة ولها دهاليز وسماسرة، والقيمة الفنيّة للوحة ليست هي المقياس المعتمد، وضربت المؤلفة مثلاً بالرسّام الألماني في عصر النهضة (Albrecht Durer - آلْبْرِخْت دورِر) ووصفته بأنه كان «بطلاً» في تسويق لوحاته التي جمع منها ثروة ضخمة. وبينت المؤلفة أن بعض الرسامين في عهد النهضة وخاصة منهم من كانوا بارعين في رسم «بورتريات» النبلاء والبورجوازيين غنموا مالا وفيراً برسمهم لوجهاء القوم من الطبقات الاجتماعية الغنية. وجاء في الكتاب أن كثيراً من الرسامين الإيطاليين في عهد النهضة على غرار Canaleho (كاناليتو) كانوا «تجاراً» بحق، فقد اختصّ هذا الأخير بتصدير لوحاته عبر وسيط إلى إنجلترا وجلّها لوحات ترسم مدينة البندقيّة. وتؤكّد المؤلفة أن هذا الرسّام وبدهائه كان يضفي على لوحاته المجسدة لمشاهد من مدينة «البندقيّة» الكثير من خياله، لاجتذاب أثرياء إنجلترا الذين كانت لهم «صورة مثاليّة» عن مدينة البندقيّة وهكذا كان يبيعهم خيالاً ويجمع مالاً وهم يظنون أن مايشترونه منه هي لوحات تصور مشاهد واقعيّة. وتستنتج المؤلفة أنّ (كبار) الرسامين عبر التاريخ وإلى اليوم ليسوا أبداً «ملائكة» بل بشر يحبون المال ويبدعون من أجله. وخصصت المؤلفة فصلاً كاملاً من كتابها للرسام الشهير «بيكاسو»، ولم تجد حرجاً في أن تطلق عليه تهكماً نعت «صانع الأوراق النقدية» في إشارة واضحة إلى ارتفاع ثمن لوحاته، كما خصصت فصلاً آخر للرسام الفرنسي الشهير مونييه، وثالثاً للرسام البلجيكي المعروف ماغريت. هذا كتاب إشكالي بامتياز، فالمؤلفة جوديث هويت التي تكشف النقاب عن خفايا عالم الرسامين منذ عصر النهضة إلى اليوم، وتفضح الكثير من الممارسات التي تبدو بعيدة عن قيم الفن الحقيقي لم يكن هدفها، كما تقول، فضح وتعرية حقيقة الفنانين بل كان غرضها أن تقدم خدمة للتاريخ وللحقيقة. في المقابل هناك من النقاد من رأى أن المؤلفة إنما هي «تحاكم» الإنسان وليس الفنان وأن أحكامها كانت بلا رحمة على الرسّامين الذين كانوا دائما يحذقون «فنّ جمع المال»، وقد قيل قديماً: «إنّ إحدى السبل للقضاء على فنان هو أن توفّر له كلّ ما يحتاج إليه».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©