الثلاثاء 7 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إجابة معلقة على سؤال آخر

إجابة معلقة على سؤال آخر
22 يونيو 2011 20:24
شرعت الهيئة العربية للمسرح مؤخرا بإصدار سلسلة “نصوص مسرحية” التي تُعنى بنشر النصوص الأدبية المسرحية عربياً. كانت باكورتها ثمانية نصوص مسرحية من الإمارات صدرت في جزأين، ضمّ كل منهما أربعة أعمال لم يسبق نشرها كما لم يجرِ عرضها على الخشبة من قبل، سواء مأخوذةً كما هي أو تمّ إعدادها. هنا يواصل “الاتحاد الثقافي”، تباعا، نشر متابعات نقدية وقراءات في هذه المسرحيات. ما يلي قراءة في النص الأدبي المسرحي الذي يحمل العنوان: “ماذا بعد؟” للمخرج والكاتب المسرحي الدكتور حبيب غلوم. في التوطئة كما في توصيف الشخصيات اللتين يمهّد بهما الدكتور حبيب غلوم لنصه الأدبي المسرحي تتكشف للقارئ حكاية المسرحية وطبيعة أدوار الشخصيات الثلاث في العمل: الرجل والمرأة والشاب، بحيث يدخل قارئ النص تخييليا إلى قراءة هذا النص بتصوّر مسبق عن “ماذا بعد” وتلك المقولة السياسية فيه والدلالة الواسعة التي تصب إليها عناصر النص الأدبي المسرحي حيث الأداة الوحيدة للكاتب هي اللغة مزودا ببعض الخيال الذي من الممكن أنه حصيلة مشاهدات لعروض مسرحية قامت على متخيَّل أدبي سواء إعدادا أو اقتباسا أم عملا مسرحيا قام على نص مسرحي أدبي كما هو دون تأويل له أو إعادة قراءاته وترتيب عناصره من جديد. تبدو شخصية “الرجل” هي الأساس الذي تقوم على حكايته درامية العمل، في حين أن دور الشخصيتين الأخريين: المرأة والشاب، هما دوران فاعلان، من وجهة نظر فنية، للإعلاء من القيمة الدرامية ككل عبر إبراز دور “الرجل” بوصفه الشخصية الرئيسية والمحورية التي يدور حولها العمل. و”الرجل”، مثلما توحي توطئة الدكتور غلوم، هو مصنع الأحلام والأشواق العليا التي تتطلع نحو مستقبل أفضل وتعمل على ذلك عبر الكتابة الصحفية، غير أنه ما إن يصل إلى سن النضج على مستوى الكتابة والمقدرة على التعبير عن آرائه بحرية وتكتمل تجربته في ممارسة تأمل الواقع الراهن وكل ما يدور من حوله حتى يُحال إلى التقاعد، وبمرور الوقت يتكشف أنه يعيش وضعا بائسا يضطره إلى تقديم تنازلات لشخصية انتهازية تطرق باب حياته لتصنع ارتقاءها في السلم الاجتماعي من أفكار “الرجل” رغم أنها شخصية خاوية. المرأة الطيف من هنا، تنبثق شخصية “المرأة” لا من لحم ودم، كما توصف الشخصيات المسرحية على جاري العادة، بل هي الطيف والذكرى معا وما يسرّي عن ضيق العيش والحلم والمثال والواقع، إنها ابنة خيال الشخصية الرئيسية ما يوحي مسبقا بأن العلاقة التي تربط أحدهما بالآخر هي علاقة محكومة لتداعيات هذه الشخصية ومقدرتها على جلب التفاصيل الخاصة بهما من الذاكرة إلى “خشبة” النص الأدبي. ما يعني أن ما تقوم به الشخصية هنا هو ما يتم تحديده من قبل الشخصية الرئيسية، إذ هي غير مستقلة عن ماضيه ولا عن حاضره بالتالي فهي شخصية غير مستقلة، بل ربما تكون وجها آخر للشخصية الرئيسية التي يريد منها الكاتب أن يعمّق من أزمة الشخصية الرئيسية أكثر فأكثر. أيضا هي شخصية مسرحية غير منطقية بل لها منطقها الخاص وفاعليتها الخاصة، لكن هذه الفاعلية مرتبطة عضويا بتقلبات الشخصية الرئيسية. لكنها في الوقت نفسه هي نموذج أنثوي لما هو طاهر وبريء في هذا العالم لذلك فهي الزائر الوحيد في هذه العزلة المطبقة التي تعيشها الشخصية الرئيسية بعيدا عن العالم ولا تجد شيئا يدفعها إلى الاستمرار في العيش المحض، ربما، سوى هذه الشخصية الأنثوية، أي ذكرياته معها. أما الشخصية الأخيرة فهي شخصية الشاب، الصحفي الثلاثيني، الانتهازي بطبعه. لكنه الذكي أيضاً إلى حدّ أنه فكّر في استغلال المأزق الإنساني والوجودي الذي يعيشه الرجل، ليحقق من خلاله مآرب أخرى تخصه وحده فقط، إذ ما تحتاج إليه هذه الشخصية هو ممارسة نوع من السلطة على “الرجل” لابتزازه وتجيير ذكائه الخاص ومجمل خبراته المهنية والإنسانية دون مقابل. وهذه “السلطة” يشير إليها الكاتب، تبعا لعدد من المواصفات التقنية في التوطئة، هي سلطة ناشئة أو شابة مزودة بجهاز كمبيوتر محمول وعلى أهبة الاستعداد لخنق الأفكار المختلفة أو المعارضة في قبر لا يتسع إلا لشخصية الرجل وحده. بل هي شخصية تثير الخوف أيضا، إذ إن “قامته ـ أي قامة شخصية “الشاب” ـ تطول كلما جاء للزيارة دلالة على ترقيته وعلوّ شأنه على حساب إبداعات الرجل”. هذا هو المعلوم/ المجهول الذي سيشكل من البدء تعاطفا مسبقا مع شخصية “الرجل” وموقفا مسبقا من السلطة الناشئة متمثلة بشخصية “الشاب” إذ هما الشخصيتان اللتان من لحم ودم وبموقفين متناقضتين يدور بينهما صراع ما تتكشف خيوطه كلما تقدم المرء في قراءة الحوار الذي تبقى الشخصية الرئيسية هي الأداة الأكثر حضورا في مخيلة القراءة المسرحية والأكثر تأثيرا فيها. شخصيات بلا هوية ولعله من غير المجدي كثيرا بالنسبة لقارئ نص أدبي للمسرح التوقف بإزاء ما يورده الكاتب تحت العنوان: “إشارة” إذ أنه اقتراح عملي يخص أهل الاختصاص من مخرج وصانع سينوغرافيا، وربما يحد مسبقا من مخيلة القراءة في الانفتاح قد يُلهم بها الحوار إذ يدور بين الشخصيات. في هذا الصدد يبقى القول أن الشخصيات الثلاث هي شخصيات بلا هوية فهي مجهولة الأسماء، حيث من المتوقع دائما أن للأسماء معاني بعينها، بل وظلالا لهذه المعاني تعكسها مقولات وتصرفات الشخصية في العمل، أي أن احتمال أن تكون شخصية القارئ، التي هي شخصية رابعة في العمل بمعنى ما، هي أي شخصية موجودة في العمل ذاته. أما المكان الذي تدور فيه أحداث “ماذا بعد؟” فهو ليس بذلك المكان الذي يصلح لعزلة تستفز التأمل، بل هو مكان لاختناق الشخصية بكل ما تنطوي عليه من مشاعر وأفكار، فهو تبعا لوصف الكاتب أشبه بقبو في أسفل عمارة أو برج سكني، لا تسكنه سوى العتمة والأحلام التي من الخير بها دفنها قبل تعفنها، باختصار. لكن المكان أيضا ووصف طبيعة علاقة الشخصيات به هو فاتحة العمل بل لعله ما من مبالغة في القول إنه من غير الممكن القفز عن وصف المكان ووجود الشخصيات فيه. فالنص الأدبي هنا يبدأ من لحظة حلمية مبعثها الإحساس الباهظ بالتعب والاستغراق في العيش في زمن لم يعد زمن الرجل ولا العالم عالمه كما كان في السابق، إنها لحظة انكسار وتجلٍّ للخيبة الفردية التي تشرف فيها المخيلة على الموت في حين يظل البقاء لما هو ميكانيكي وعادي في حياة الرجل يقاوم من خلاله ذلك الموت بالرغبة في العيش بدلالة تجليات ظهور المرأة وبما يتركه حضورها الحلمي في شخصية الرجل فيتحكم بانفعالاته ومواقفه التي تتبدى من تضاعيف حواره مع شخصية “الشاب”. غير أن المرأة تبدو في العمل شخصية مكتملة النضوج وإنسانية تماما، وكل ما في الأمر أنها تظهر للرجل وحده وتتلاشى في ذاكرته مبتعدة عن الخشبة، إنها تقيم حوارا فيه أخذ وردّ ونقاش وجدل لا يخلو من انفعالات ومشاعر بل وتأنيب ولوم في أحيان أخرى ويوظف الكاتب هذا الدور في تأجيج التوتر الدرامي بين الشخصيتين الأخريين أو يصنع انعطافات فيه تتسم بسرعة الحدث والميل إلى الاختزال فيه، إذ تتأكد طبائع الشخصيات الثلاث منذ الصفحة الأولى من الحوار ضمن المشهد المسرحي وتتحدد النقاط الفاصلة فيما بينها، غير أن هذا النضوج أو الاكتمال في الشخصية المسرحية على هذا النحو ما كان ممكنا لولا التوطئة ووصف الشخصيات ووصف المكان على نحو ما جاءت عليه سابقة للحوار، فكما لو أن ما وُصِف في الأسطر السابقة بأنه موقف مسبق من الشخصيات هو الذي يعينها على أن تتبلور في ذهن قارئ النص الأدبي المسرحي بهذه السرعة وهذا الإحكام، حتى أنه ما من مجازفة بالقول إن الدكتور حبيب غلوم كتب هذا العمل الذي يناقش أزمة اجتماعية محلية قد كتبها بوصفه الكاتب والمخرج معا وليس بوصفه كاتباً فحسب. وتتفرع عن هذه الأزمة أزمات أخرى ومشاكل عديدة ذات صلة بالحرية وإشكاليات الثقافة وطبيعة التعامل معها في مجتمعات لا تؤمن بها واحدا من المحرّكات الإنسانية للتقدم الاجتماعي، فتتفجر عندما يمارس “الرجل” ما لا يريد أن يمارسه كتابة عن الأزمة ذاتها في حين يتم نشر مقالاته باسم شخص آخر لا يحظى منه سوى بالفتات الذي يبقيه على قيد الحياة قريبا من امرأة مخيلته التي أخذت شكل زوجته مناكفة لا تكف عن إثارة غضبه بتبرمها من عيشهما المشترك في مكان يسمى بيتا في حين لا يصلح سوى للجرذان. ومعنى المرأة ـ الزوجة هنا لا يتحدد في مناكفتها، بل إن حضورها بالنسبة إليه مبعث طمأنينة واستقرار نفس هو الذي يكاد يصل إلى حافّة الجنون، بالتالي فهي المحرّض على ذلك البوح الذي يشبه الصراخ في قول كل ما يريد قوله لها من دون، إذ إن هذا البوح ليس سوى المتنفّس الوحيد الذي يمارس من خلاله إنسانيته ويقاوم موته البطيء. أيضا شخصية “الشاب”، فهو ليس السلطة أو صورتها الحاضرة أبداً في مقدرتها على إحداث الإقصاء دائماً، بل هو أقرب ما يكون إلى الجابي أو محصّل الضرائب الذي يقوم بعمل من المطلوب منه القيام به. فهو يبدو محايدا ومراقبا عن بُعد لتحولات الشخص الذي أمامه إذ يتأرجح ما بين الجنون والعبقرية وما بين الهذيان والصحو، وهو أيضا شاهد تلك السلطة عليه على الرغم من أنه يحاول أن يجاري السيد “الرجل” أحيانا في شطحاته فيخبره بأن الوطن خارج هذا البيت بحاجة إليه وإلى أمثاله ذلك أن هذا الوطن لم يعد يبني مجتمعا، بل يبني أشخاصا كل منهم يهتم بشأنه الخاص بعيدا عن الكارثة المحدقة المتمثلة بغياب أي ملمح أصيل لهذا الوطن. و”ماذا بعد” هو السؤال الذي يطرق جدران الوعي على امتداد هذا العمل القصير الذي يمرّ به القارئ كجرعة واحدة من ألم مبرّح، و”ماذا بعد؟” إدراك مرارة هذا الواقع؟. وفي الوقت نفسه يحسب المرء أن النص الأدبي المسرحي “وماذا بعد؟” أقرب إلى أن يكون موقفا ناجزا لمثقف يرى الواقع من حوله بوضوح من داخل المكان ومن خارجه متمثلا في شخصيته الرئيسية “الرجل” أو “بطله”، إذ في حين هو يرفض كل ما يفعل الغرباء والانتهازيون بوطنه من نهب منظم أو بيع له بالقطعة، فإنه لا يدرك تماما أن الحلّ لا يتأتى بالنباح على البيت من الخارج، بل من فعل على الأرض في الداخل، ويعتبر أنه له الحق الكامل في أن يتفيأ ظل النخلة التي سقاها بعرق اجتهاده وكدّه دفاعا عن وطن ممكن وجميل وان على الوطن الذي لعق ترابه صغيرا، كأنه السكّر أن يستمع إليه عندما كَبُر وكبرت معه دربته في الكتابة وخبراته في العيش ومواجهة الظلام بالقلم. العمل هنا لا يطرح حلاً مباشراً أو موارباً، بل يترك السؤال معلّقاً على سؤال آخر هو بمعنى آخر: “مَنْ يعلّق الجرس أولاً؟”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©