السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سوء التدبير.. بين التصغير والتكبير!

10 أكتوبر 2017 21:30
إذا خيروني بين التهويل والتهوين، فإنني أختار التهويل وأرفض التهوين.. لكن آفة العرب أنهم يرون الأمر هيناً وهو عند الله عظيم ويختارون مصطلحات التهوين التي تختلف لهجات النطق بها بين الدول العربية، لكن المعنى واحد «ما عليه.. ما في مشكلة.. معلش.. يصير خير.. عادي.. ولا يهمك»، وغير ذلك كثير من عبارات التسويف والتهوين والمماطلة واستصغار الكبائر. وقول الكلمة لا يلقى لها المرء بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً. ورذيلة التسويف والتأجيل والإرجاء. وأذكر هنا بيتاً للمتنبي أرفضه تماماً وأراه يرسخ فينا فضيلة التهوين واللامبالاة والبلادة حين يقول مادحاً سيف الدولة الحمداني: وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها... وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ ليس عظيماً أبداً من يستصغر الأمور ويراها هينة، بل هو بليد ومخدوع.. ليس عظيماً أبداً من يرى الأمر هيناً وهو عند الله عظيم.. بل العظيم من يرى الأمر عظيماً حتى إذا رآه غيره هيناً.. العظيم من يعي ويفهم ويدرك أن معظم النار من مستصغر الشرر.. الصغير البليد الأحمق من يستبعد الخطر ومن يرى أن الوقت ما زال مبكراً ودعونا ننتظر ونترقب. وقد ذم القرآن الكريم هذا النوع من البشر في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً)، «المعارج: الآية 6 - 7».. بمعنى أن الناس على رأي المصريين «سارقاهم السكين».. وهم يرون أن يوم القيامة بعيد وأن الوقت ما زال فيه متسع فلا داعي للتوبة الآن. حتى الدين يستخدمه العرب للتهوين والتسويف والتأجيل.. فهذا قضاء وقدر ولا حيلة لنا فيه.. هذه إرادة الله.. وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.. وإن شاء الله.. ودع الخلق للخالق.. دع الليالي تولي في أعنتها ولا تبيتن إلا ناعم البال.. ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.. والزهد في عرف العرب يعني الانصراف وعدم التفكير وترك الدنيا. فالتفكير حرام وإعداد العدة مرفوض والتخطيط للغد اعتراض على حكمة الله. وكل العبارات التي تبدو دينية وإيمانية هي في الحقيقة كلام حق يراد به باطل. والعرب من أكثر الناس في العالم استخداماً لكلام حق يراد به باطل مثل القتل باسم الله والذبح بهتاف الله أكبر. وكل الدعاة إلا ما رحم ربي يستخدمون الدين للتهوين والمماطلة والتسويف.. فلا شيء في الدنيا يستحق الاهتمام.. حتى الصبر وهو فضيلة عظيمة يأمرون به للتهوين والتسويف. فالصبر يعني عدم الاكتراث ويعني التهوين، رغم أن الصبر ثلاثة: الصبر في الأمر والصبر عليه والصبر عنه. فالصبر في الأمر هو الجلد والإصرار والإقدام مثل الصبر في ميدان الحرب والصبر على الأمر يعني أيضاً الجلد والقوة في مواجهة الشدائد والمصائب والصبر عن الأمر يعني تحمل الجوع والعطش وكبح الشهوات والغرائز. فالصبر في كل الأحوال ليس تهويناً ولا عدم مبالاة ولا بلادة، ولكنه جلد وقوة وصلابة، وأن يكون المرء أقوى مما يصبر فيه أو عليه أو عنه، لذلك يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي هو الذي يرى الأمر عظيماً والمؤمن الضعيف هو الذي يرى الأمر هيناً ولا يستحق. والعرب «يضبطون» إرادة الله والقضاء والقدر على هواهم ويجعلون ذلك شماعة أو مشجباً يعلقون عليها الخيبات المتوالية والأخطاء الناجمة عن التهوين والتسويف والمماطلة والتواكل والتأجيل. رغم أن القرآن الكريم أكد في غير موضع أن ما أصابنا من خير فمن الله وما أصابنا من شر فمن أنفسنا. وأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. حتى اليسر في الدين جعلناه تهاوناً وتهويناً رغم أن يسر الدين حجة علينا وليس حجة لنا. الخلاصة أن كل مآسي العرب مردها إلى التهوين والاستصغار، وتأجيل المواجهة. وهذا بالضبط ما حدث في تعاملنا مع جماعة «الإخوان» الإرهابية ومع الإرهاب عموماً ومع قطر ومع إيران ومع الفساد ومع الانفلات الأخلاقي ومع مواقع التواصل الاجتماعي ومع التعليم ومع الاقتصاد والسياسة والثقافة، حتى اشتعلت الحرائق من مستصغر الشرر. تعاملنا بالتهوين والاستصغار واستبعاد الخطر حتى فوجئنا بأن جماعات وتنظيمات الإرهاب وعلى رأسها «الإخوان» سحبت البساط تماماً من تحت أقدام الدول الوطنية، وخطفت الشعوب وجندتها فكرياً وحركياً لصالح المشروع الفوضوي التخريبي الذي يرتدي عباءة الدين. فوجئنا بقطر، وقد صارت عراب الإرهاب الدولي ومموله وداعمه وحاضنته.. وقد كنّا من قبل نهون من قطر وخطرها وأمرها ونرى الأمر لا يستحق العجلة ولا التهويل. فوجئنا بكذبة كبرى اسمها المجتمع الدولي الذي عولنا عليه كثيراً، فإذا به وهم ومجرد كيان افتراضي يمكن شراؤه وإخضاعه بالمال.. قلنا كثيراً إن التاريخ سيقول كلمته. ونسينا أن هذا العالم المعاصر لا يمكن كتابة تاريخه فيما بعد... فكل شيء فيه سائل مائع لا يمكن تحديده. كل شيء فيه رمادي باهت لا نعرف له لوناً. العرب يحاولون عبثاً إطفاء حرائق نجمت عن التهوين، وكان يمكن تجنبها لو اتبعنا التهويل في مستصغر الشرر..والمأساة أن التهوين مستمر وأننا نلدغ من جحره كل يوم عشرات المرّات، وأننا ما زلنا نردد بلا اكتراث: أن تصل متأخراً خير لك من ألا تصل أبداً. والحق أنه قول غبي وأحمق.. فألا تصل أبداً خير لك من أن تصل متأخراً.. فإذا وصلت متأخراً، فقد عانيت مرتين.. مرة بعناء الطريق ومرة بعناء عدم لحاقك بالقطار أو بالطائرة. والعرب تقول في أدبياتها: كل شيء يأتي في وقته، فقد مضى وقته.. وكل الدول التي حققت التقدم والرقي اعتمدت على فضيلة التهويل وترك رذيلة التهوين. وهناك أمور يراها العرب تافهة جداً، لكنها تقيم الدنيا في الغرب. فيمكن أن ترى مظاهرات وضجة كبرى ومحاكمات وأحكاماً قضائية ضد أم تركت طفلها يصرخ داخل المنزل وخرجت عشر دقائق لتشتري شيئاً ما أو لأن نادلاً في مطعم وضع الأطباق على مائدة الزبائن بقلة ذوق.. بينما يمكن في دولة عربية أن يأكل الناس لحم حمير أو كلاب في مطعم عدة سنوات وعندما يتم اكتشاف الأمر يقال: «معلش.. علشان خاطرنا سامحوه.. ودعوه يسترزق.. ولن يكررها مرة أخرى». نحن نرى المهول هيناً وهم يرون الهين مهولاً. لذلك تقدموا وتخلفنا وكبروا وصغرنا. ونهضوا ونمنا. فما أسوأ سوء التدبير بين التصغير والتكبير! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©