السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سوق القطارة.. ذاكرة تقارع النسيان

سوق القطارة.. ذاكرة تقارع النسيان
19 يونيو 2013 20:55
لم يكن الصباح قد شرع بعد في العمل بما يكفي ليملأ العين، عندما تحركت عجلات السيارة تخب الأرض خباً باتجاه مدينة العين. قليل من الضباب الهارب من بقايا الليل يفرش ملاءته على الشوارع، فيما النور الآتي من أعمدة الإضاءة يبدو في النزع الأخير. ساعة وانفرج الأبيض الحليبي ليترك للشمس أن تنوب عنه في بيان جمال الأخضر الذي ترتاح في حضنه العين. بدت المدينة التي تشتهر بأنها "مدينة الواحات" مثل حلم عتيق فرّ من تلال الرمل الأصفر إلى خضرة باذخة. تمطت الحدائق وأعلنت حضورها في الصباح ومعه قدمت- لي شخصياً- وعداً بنهار جميل يأخذني إلى تاريخ ينغرس عميقاً في الزمن كما تنغرس جذور نخلة معمرة في الأرض. شهـيـرة أحمــد العين مدينة لا تنام في الزهور التي تطوق جفنيها وحسب، بل تنام على تاريخ يمتد إلى آلاف السنين... سنون مأهولة بالحضارات والناس الذين أقاموا في واحات تشعل فيك حنيناً صارخاً إذا كنت من بلاد تصطبح نوافذ بيوتها بعبق الزهر والشجر.. لكن المدينة لا تهبك الحنين لتغرق فيه بل لتغرق فيها، في سكينتها وهدوئها على وجه الدقة، وهي تفتح لك قلبها الرابض بين جنبيّ جبل حفيت الذي يرسل لها مع كل شروق رسائله الحضارية، ثم يلمّ العابرين في المساء ليقضوا في فضاءاته العالية ما شاء لهم الحب وشاءت لهم الرغبة في المعرفة أن يقضوا... أخضر ضد الاختصار في عدد الواحات لا يختصر أخضر العين، ولا في نظرة العين وإن سرحت في الخضرة المباغتة.. هنا أخضر ضد الاختصار .. لكن للحقائق قولها الذي يختلف أحياناً مع شاعرية الحال التي تعتري الروح. الحقائق تقول إن في المدينة ست واحات، أما الروح فتقول إن المدينة واحة جمالية كبرى كرجت على طرقاتها خطىً بشر تركوا فيها أثرهم لينبئ عنهم.. في العين أبراج وقلاع وحصون وطبقات توغل عميقاً في معناها الآركيولوجي.. في العين سحر غرائبي يأتي من نائيات العصور ليقرأ عليك ما تيسّر من سير العابرين.. في العين حفيت وهيلي وبدع بنت سعود والجاهلي والقطارة وأثنولوجيا تفصح عن أجناس وبنيانات ثقافية ومبانٍ آثارية وتقاليد تتمطى في بقايا تساقطت من أردان التاريخ، وهو يغذ السير إلى محطات أخرى في رحلته الطويلة ... في العين قرون تطل برأسها حاملة بقايا ولقى أثرية تقول إن المدينة تمتعت في الماضي بأهمية باتت واضحة للمتخصصين في قراءة أرواح المدن على المستوى الحضاري، وتعيد التنقيبات سرّ هذه الأهمية إلى أن العين ظلت مأهولة بشكل متواصل منذ أواخر حقبة العصر الحجري، وما عليك سوى الإصغاء إلى كلمات مواقعها وبقاياها الأثرية المتنوعة التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي، والعصر الحديدي والعصر الهليني، وحقبة ما قبل الإسلام والعصر الإسلامي... لهذا، أدرجت المكونات السبعة عشر من المواقع الثقافية للمدينة في السابع والعشرين من مثل هذا الشهر “يونيو” من العام 2011 على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وفي العين سوق قديم توارى في النسيان، ثم أعادته هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، في لفتة لا تخلو من صوابية تراثية، إلى الذاكرة ليبوح ببعض ما في بطنها من أسرار... وإذ نطل اليوم على سوق القطارة فإنما لنقرأ أهمية أن يبعث مكان ما، من غياهب الغياب وعتمته إلى ضوء الحضور ووهجه... شارع للنخيل وحده الاسم يكفي ليدلك على بغيتك. شارع النخيل هو العصب الذي يقودك إلى قلب حارة القطارة التاريخية.. فعلى طول الطرف الشرقي من الطريق الذي يفصل بين القطارة وواحة الجيمي تتملى عدداً من المباني التي تمثل جزءاً من القرية القديمة أو حارة القطارة. في الطرف الجنوبي من الحارة يقع مركز القطارة للفنون الذي تم تطويره حول بيت بن عاتي الدرمكي. وبيت الدرمكي هذا بيت مختلف، فهو برج ومنزل بني من الطوب اللبن (الذي يقوم صانع بصناعته أمام الزوار على الطريقة التقليدية القديمة كما يظهر في الصورة) ويقع على جبل يشرف على حدائق النخيل لواحة القطارة. في المركز لا تقتصر الممارسة الجمالية على الأنشطة الثقافية والفنية والدورات والمعارض وغيرها مما يقوم به المركز.. وإنما تقدم للناظر ممارسة ثقافية من نوع آخر تأتي من سرداب أعيد تصميمه خصيصاً ليعرض على الزوار ما أظهرته الحفريات الأثرية أثناء عملية إنشاء مركز القطارة للفنون: خمس طبقات أو “أفق” أثرية بسلسلة طولها خمسة أمتار تمتد من أواخر العصر الإسلامي وحتى العصر الحديدي. وتشكل تركيبات العصر الحديدي الصناعية المرحلة المبكرة من هذه السلسلة التي تقدم للجمهور كجزء من التفسير الأشمل لآثار الموقع وواحات مدينة العين، أما سوق القطارة فيقبع على مرمى نظرة من المركز. في التاريخ وأنت تسير في السوق، تشاهد المحال التي تصطف على جانبيه، تسير أيضاً في التاريخ، حيث تمت إعادة ترميم السوق على الهيئة التي كان عليها في الماضي. يقول البحث التاريخي الذي أجرته هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة أن تاريخ سوق القطارة يعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين وقد تم ترميمه في عام 1976. ويتكون سوق القطارة من تسعة عشر محلاً على صفين في ممر مركزي مغطى ونحو الشمال من السوق، يوجد المنزل التراثي المتهدم جزئياً والعائد لمحمد بن بدوة الدرمكي، يخفيه بشكل جزئي بستان نخيل. لا يزال البرج المكون من ثلاثة طوابق عند الركن الشمالي الغربي من المنزل قائماً وسليماً إلى حد كبير. وتشير الأعمال الأثرية التي أجريت مؤخراً إلى أن المنزل يرجع تاريخه إلى عام 1600 ـ 1700 ميلادية، وهي الفترة التي شهدت أيضاً التنقيب عن حدائق النخيل المجاورة المغمورة في واحة القطارة، وعلى طول الطريق نحو الشمال الشرقي للسوق، يقف المسجد الغربي الصغير لبن عاتي الدرمكي، والذي تم ترميمه باستخدام الطوب اللبن، على هضبة منخفضة. يصل طول السوق إلى 35 متراً، وإلى الشرق من المحال توجد غرفة واحدة من الطوب اللبن تشكل جزءاً من مجموعات المباني السابقة التي كانت تحيط بالساحة التقليدية المهدمة جزئياً لبيت محمد بن عدوة الدرمكي. وتماماً مثل بقية المباني التاريخية الأخرى في مدينة العين، يبوح سوق القطارة بأساليب البناء التقليدي للواحات. تتمعن في الأسوار الطينية السميكة التي يتسلل منها الضوء وتسمح بدخول الهواء وتستعيد أسواقاً تاريخية كانت عامرة بالشعر والمرح والقصائد المعلقة على ستار الزمن. وإذ تتأمل جمال الشمس وهي تغازل السقف المصنوع من أخشاب النخيل لتلقي محبتها على الوجوه السمراء الطيبة التي تنهمك في العمل لترسم ملامح ماض يتنفس في جرة هنا أو دلة قهوة هناك... وربما يبصّ عليك من نافذة تآلفت مع سرود أو جفير أو فنر لطالما سرد عليها روحه في ليالي الشتاء.. تغطي سقف السوق حصر ملونة بألوان كثيرة، تحمل في طياتها جمال العشوائية والحيوية والحرارة اللونية التي تميز المصنوعات اليدوية الشعبية في كل مكان، ولا تشذ فيه الإمارات عن غيرها كما يظهر في مفردات التراث في الغالب. حصير جميل كان يستخدم في التسقيف فيما الجص المصنوع من الطين اللبن يستخدم للأرضيات والجدران. وتظهر الصور الفوتوغرافية القديمة استمرار استخدام المنازل المصنوعة من الطين اللبن، والتي تلحق عادة بتعريشات (تصنع من أغصان وأوراق النخيل) بشكل واسع في العين حتى نهاية الفترة التي سبقت اكتشاف النفط في ستينيات القرن العشرين، ولا تزال العديد من جدران المزارع التاريخية المبنية من الطوب اللبن في وقت معاصر لتلك الأبنية التاريخية قائمة مع كل واحة من الواحات. ويورد الكتيب التعريفي الخاص بالسوق أن “الصور الفوتوغرافية الأرشيفية التي تم التقاطها للقرية القديمة في القطارة في منتصف الستينيات تظهر الجزء الجنوبي من السوق الذي كان يشكل مجموعة من الغرف المبنية من الطوب اللبن والتعريشات في ذلك الوقت. أما الجزء الأوسط من الجانب الجنوبي للسوق (وتوجد فيه الآن المحال من 14 ـ 16) فيتكون في الأصل من غرفة مركزية محصنة كانت تستخدم كمدرسة وكانت تدخل من خلال باب مفتوح في الجدار الجنوبي للغرفة 14. ربما يكون ذلك هو الجزء الأقدم من المبنى الذي كان من المفترض أن يتوسع السوق من حوله. تمت إضافة ثلاثة محال هي 17 و18 و19 إلى الجانب الغربي من هذه الغرفة المحصنة، ويبدو أن دخول تلك المحال كان يتم من الجنوب. ولكن في وقت من الأوقات كانت الأبواب الموجودة على هذا الجانب مسدودة، ثم أضيف الترتيب الحالي للصفوف المتوازية للمحال على جانبي الممر المركزي، وقد أسفرت التحقيقات الخاصة بالمحال 12و13 عن وجود غرفة أخرى مبنية مقابل الجانب الشرقي من الغرف المحصنة. كانت تلك الغرفة تحتوي على مدبسة وهو مكان لعصر التمر، تخزن فيه طبقات من التمر في غرفة مغلقة ثم يعصر منها عصير الدبس الذي يؤخذ إلى شبكة من القنوات الموضوعة على الأرض ثم تجمع في جرة فخارية. لقد أظهرت الأعمال الأثرية الحديثة العديد من التفاصيل الخاصة بهذا المبنى القديم وكيف تم ضمه إلى عملية الترميم التي نفذت في منتصف السبعينيات. وقد دونت الملاحظات بخصوص جميع تلك الخصائص الأثرية أثناء أعمال التجديد الحالية للسوق وتم صونها، وقد تم عرض معظمها باستخدام تشطيب جص مختلف عن ذلك المستخدم في الأجزاء التي أعيد بناؤها في سبعينيات القرن العشرين. ويمكن لأي زائر أن يشاهد في الغرفة رقم (9) سلاسل ألواح تظهر عملية تطوير المبنى وقرية القطارة. أما راهن السوق، فيشير إلى أن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة قامت بترميمه في 2012.. وافتتح للجمهور في 2 ديسمبر 2012 احتفاء بالعيد الوطني الـ 41 دولة الإمارات. واستخدم الطوب اللبن والملاط كمادة أساسية في صون السوق وترميمه. وقد ظهر أن الطوب اللبن الضارب إلى الحمرة في البناء الأصلي أكبر وله شكل مختلف للنوع المستطيل المصنوع من الطين الرمادي الذي استخدم في عملية الترميم. لقد مر مبنى السوق بالعديد من مراحل إعادة البناء وتدخلات الصون. بدأت أول عملية تدخل لإجراء الصون في 22 أغسطس 2012 مع انطلاق مشروع سوق القطارة من قبل هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. وعلى مدار هذا العمل، تم استبدال جميع عتبات السقف المصنوعة من النخيل، والتي كانت تضررت بفعل الحشرات الضارة. كما تمت معالجة الأبواب وأطرها لحمايتها ضد الحشرات الضارة، وتم تحسين الوصلات بين الجدران الطينية، وكذلك إصلاح الأجزاء التي تضررت بفعل الأمطار أو التآكل أسفل الجدران. وحيث إن المبنى موجود في منطقة مفتوحة للجمهور، فإن هناك خطة لوضع نظام مراقبة وصيانة في المستقبل، ومن بين الأهداف الرئيسية لهذا العمل حماية الأساليب التقليدية لبناء الأسطح وبناء المباني، مع التأكد في الوقت ذاته من معالجة جميع المشكلات في المبنى باستخدام أحدث الأساليب. ناس السوق يقول محمد بن جمعة بن بخيت الدرمكي، ابن أحد ملاك الدكاكين في السوق: كان الأهالي يطلقون على السوق اسم سوق “الرقعة”، ولم تكن الدكاكين تحمل لوحات ولا مسميات، فقد كان معروفاً لمن تعود ملكية كل دكان. وكان والدي يشتري اللوازم المدرسية من دفاتر وأقلام من دبي، خاصة أنه كانت هناك مدرسة قريبة من السوق يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والحساب وتلاوة القرآن الكريم والرياضة البدنية، وكان يتابع المدرسة من موقعه في السوق (كانت المدرسة تقع في المساحة التي تحتلها اليوم الدكاكين رقم 14 ـ 16 وتم العثور على بقايا السقف الطيني الفريد من نوعه والمقنطر خلال أعمال الترميم الأخيرة). فيما يذهب عبدالله مطر الدرمكي إلى أن الناس كانوا يطلقون على سوق القطارة القديم اسم سوق “كركم”، والمنطقة تعرف بحارة الرقعة، مستذكراً علاقته الحميمة بالمكان وشجرة سمر زرعها قريباً من السوق عندما كان عمره ست سنوات وبقي يرعاها حتى كبرت، وهي لا تزال موجودة حتى الآن، مشيراً إلى أنه سمع من بعض الناس أن صالح بن بدوه من أوائل الذين أسسوا سوق القطارة القديم. ويضيف عبد الله مطر الدرمكي: كانت الأقمشة في السوق تجلب من الهند، وكانت لها مسميات محلية خاصة مثل قماش “بو تفاحة” ولونه أبيض، وقماش “الكيمري”، أو “الشربت” وهو قماش خفيف يصلح للباس وقت القيظ. كان لوالد عبدالله نصيب من تلك الدكاكين، حيث أخذ دكاناً يبيع فيه الطحين والأرز والمعلبات بأشكالها المختلفة، وفي السبعينيات بُدء استيراد أرز البسمتي والبيشاور، كما كانت الدكاكين تبيع النشا وبعد ذلك جاء “السّاقو”، وكان التعامل بالروبية الهندية.. كان بعض المشترين يتعاملون بالدَّين، حيث كان لدى الوالد دفتر خاص يسجل فيه ديون المشترين. ويصادق سهيل بن الماس بن محمد الظاهري على ما قاله الدرمكي بخصوص الاسم: أطلق الناس حينها على سوق القطارة اسم “كركم” لأنهم كانوا يشترون منه الكركم، وكانوا يستخدمون عملة الروبية الهندية ثم تحولوا إلى الدينار البحريني. ويصف سهيل السوق بأنه كان على شكل صَفّين متقابلين من الدكاكين، يضم الصف الأول دكاناً لخميس بو صبيعة، ودكاناً لعمر مبارك، ودكان مبارك بن محمد، ودُكانان لوالد سهيل. أما الصف الثاني فيضم بخاراً “مخزناً” ودكاناً للسيد جمعة بن بخيت، وخلف الدكان مدرسة، ودكاكين أخرى لأشخاص مختلفين، ولم تكن هناك رخص تجارية لأصحاب المحال، حيث منحت لهم الدكاكين مجاناً. بدأ سهيل العمل في دكان والده في سن الثامنة، وكان يقف مكان والده في المحل عندما يذهب الأخير إلى دبي لشراء البضائع . وكان والد سهيل يمتلك ماكينة خياطة ـ يقال لها محلياً كرخانة ـ يخيط بها الكنادير “دشداشات” للرجال، وكان الشيوخ يشترون العقم ـ أزرار قطنية ـ والطرابيش ليخيطوها على دشاديشهم. تعددت فيما بعد المبيعات في الدكاكين، فتوافر فيها الأرز والطحين والقهوة والسكر والملح والهيل والزعفران والنشا والسّاقو والصل ـ شحم السمك ـ الذي استخدموه كدهان لتقوية الأخشاب. وكذلك ثياب وشِيل طيّات براقع للنساء. قماش تجيل الطرف في المحال التي تعرض الأزياء الإماراتية والصناعات الشعبية التقليدية والأشياء القديمة التي تحظى عادة باهتمام السياح.. تدخل عالماً من أسماء الاقمشة: (بو طيره، مَيزع، بو قليم، صالحني، نف المطر الذي لا يخلو من جماليات شعرية على مستوى الاسم ناهيك عن امتداده في البيئة والمناخ.. تحاول أن تحرض مخيالك ليطارد كيف تكون قطعة من القماش مساحة لرذاذ المطر أو دعوة للتصالح).. تكمل جولتك بين الأدوية الشعبية (الحلول والمر والصبر والنيل والخيل والزعتر والقسط والجعدة والحبة الحمراء) وربما تشتري مكحلة عتيقة شهدت فرح صبية تعبر إلى البهجة بكامل رونقها.. تتفرس في ما حولك فيما سؤال يراودك عن ماهية العلاقة بين التجارة والثقافة.. تأتي الإجابة على لسان البحث التاريخي: كان التاجر في السوق يعرف بالدلال، وذلك لأنه بعد تحديد سعر البضاعة، ينادي بنوع بضاعته أياً كان صنفها، من مواد غذائية أو معدات أو حيوانات أو غير ذلك مع ذكر السعر (حالياً لا ينادي التجار على بضاعتهم، يعرضونها فقط للعيون الخبيرة على سبيل التعريف بتراث الدولة). بعضهم يقول إن إحياء التراث لا الكسب المادي هو الهدف من وجودهم في السوق، من دون أن يعني ذلك غياب المردود المادي الذي وصفه أصحاب الدكاكين بأنه “زين” وهي كلمة عامية إماراتية تعني جيد أو ممتاز. تعود الى ما يروي التاريخ: “العاملون بسوق القطارة كانوا يمثلون التجار، أصحاب المحال التجارية، اللذين يوفرون البضائع حسب احتياجات مرتادي السوق، وكذلك فئات التجار الأخرى، التي تأتي من أسواق وأماكن مختلفة لعرض أو شراء البضائع، ولكن غالبية العاملين بالسوق يمثلون أبناء منطقة العين. ومنطقة واحة القطارة. وإلى جانب التجار الرجال كانت بعض النساء تعملن في السوق لبيع البيض والدواجن التي تربى في المنازل، بالإضافة لمنتجات السدو من المنسوجات التي يحتاجونها في عمل بيوت الشعر والبسط، وأغطية الأواني المنزلية، وعتاد وزينة الإبل والخيول، بالإضافة لمنتجات الألبان من السمن (الكامن) والحليب المجفف (اليقط). وعلى العكس تماماً من العزلة الفردية التي تزدهر في (المولات) التي باتت علامة تجارية للزمن الراهن، كانت الأسواق التقليدية القديمة في الإمارات أماكن للألفة ومراكز للالتقاء والتواصل بين أفراد القبائل المختلفة، فبجانب البيع والشراء، كان التجوال يأخذ الناس إلى بعضهم، الجدد يتعارفون والأصدقاء القدامى يلتقون.. ولا بأس في دعوة هنا أو جلسة هناك تناقش ما يجري في الحياة أو تتبادل الأخبار. كانت الأسواق في شكلها التقليدي مساحة لروح المجتمع لكي تتجلى على مهلها في الملابس والعادات والتقاليد والأصالة. وقد برز من خلالها خطباء ورواة وفنانون وشعراء من أبرزهم، حسب الكتيب التعريفي، راشد بن عبيد بن حمر عين (رحمه الله)، وسالم الكاس، وسعيد بن هلال الظاهري. وكان في السوق أصحاب مهن أخرى، يعملون في الحياكة، والحدادة، والنجارة، والصفارة، وصناعة الفخار وغير ذلك. تراقب هذه المهن وهي تنبعث من ذاكرة الماضي حية أمام ناظريك.. يسألك راعي القهوة بوجهه الضاحك وطيبته الفائضة إن كنت ترغب في فنجان من القهوة العربية الأصيلة.. تدهمك رائحة الهيل والقرفة وتخمن أن الزعفران هو الذي منحها هذا المذاق الاستثنائي... تهزّ الفنجان في إشارة إلى اكتفائك من القهوة فيما يبدو الاكتفاء من التجوال في ذاكرة المدينة مطلباً عزيز المنال... تقرر بسرعة أن الثراء الثقافي الذي تتوافر عليه العين يحتاج حتماً إلى وقت أطول.. تتعهد المكان بعينيك واعداً نخلة باسقة على طرف الشارع بالعودة مرة أخرى.. على سبيل التوثيق يقول سمو الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان رئيس هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة: تشكل الآثار والمباني التاريخية عناصر أساسية للبيئة التاريخية لإمارة أبوظبي، كما أنها تمثل إرثاً حضارياً يعتز به أبناء الإمارة. وتحرص “هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة” على حماية هذا الإرث. والحفاظ عليه. والعمل على إعادة إحيائه، وتطويره وفق الأساليب العلمية، وتوظيفه بشكل ينسجم وروح العصر لإبراز العمق الحضاري للإمارة. ضمن هذا السياق تأتي إعادة افتتاح سوق القطارة، بعد أن خضع لعملية ترميم، أعادت البناء للحياة من جديد، نظراً لما يشكله هذا السوق من أهمية تاريخية، وما لعبه من دور تجاري واجتماعي في حياة أهالي مدينة العين فيما مضى، ولا شك إن هذا السوق الذي يعود بتاريخه لعشرات السنين لم يكن سوى امتداداً لما كانت تشهده المنطقة عموماً ومدينة العين على وجه الخصوص من نشاط اقتصادي، فقد أظهرت الأدلة العلمية التاريخية والأثرية حركة التبادل التجاري الكبيرة بين المدينة في الماضي وكبرى حضارات الشمال (بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس)، والشرق (الهند وباكستان)، وذلك عبر طرق تجارية طويلة وهامة. إنَّ إعادة سوق القطارة إلى الحياة مرة أخرى هي استعادة لبعده الاجتماعي والاقتصادي، وتجسيداً لرمزيته ودلالاته المتعددة بالنسبة لشعب الإماراتي، وستسهم أيضاً في إعادة الاعتبار للسوق والمنطقة المحيطة به. وإحياء الحرف التقليدية واستعادة مكانته في المجتمع المحلي، وتنشيط الحراك الاجتماعي والاقتصادي لأهالي مدينة العين. وفتح نافذة سياحية جديدة فيها، يتعرّف من خلالها المقيمون والسيّاح على جوانب مختلفة من أوجه النشاط التقليدي للمجتمع الإماراتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©