الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختصار الحياة في لحظة شعر

اختصار الحياة في لحظة شعر
15 سبتمبر 2010 20:46
بترجمة لافتة، وطبعة جد فاخرة، تطل علينا الأكاديمية والمترجمة المغربية حذام الودغيري، حاملة لنا أشعار الشاعر الإيطالي الشهير سيباستيانو غراسّو في الترجمة العربية، وذلك من خلال دار التكوين السورية التي ارتأت أن تخرج هذا الأثر الشعري بلغته الإيطالية إلى جانب ترجمته إلى العربية. قصائد هذا الشاعر ذو الشهرة التي تجاوزت بلد دانتي، سيباستيانو غراسو الشاعر الذي ولد في صقلية سنة 1947 من عائلة أرستقراطية، أمه كانت مركيزة ووالده كان طبيباً برتبة جنرال في الجندية. وقصائد هذا الديوان شرفات مفتوحة على أطلال الروح وخرائبها، وعلى انكسارات الفرد في مواجهة الموت وزوابع الدهر، وفي علاقته مع المرأة التي يبحث عنها الشاعر كما يبحث عن لون مفقود في لوحة مستحيلة، ولعمري إن هاته هي الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تؤرق الإنسان طيلة حياته، فالشاعر يختصر عالم الإنسان في لحظة الشعر. “كأن صوتك نقش كتابي. لا أزال ابحث/ عنه فوق البحر، فوق النهر كما لو كان/ قادرا على أن يطفو. شواهد القبور تزداد/ بعدا. تتجاهل النوارس الزوبعة/ وتحلق متعبة في أدنى المرتفعات. البحر/ يتمسك بالصباح، ينفجر عند جوانب/ القرية حيث يوقظ النيام زنين النواقيس الأولى/ ويكشف الأسرار. كففنا/ عن التجذيف ليلا نحو الليل”. امرأة سيباستيانو غراسو، امرأة تستدرجه إليها ضعيفاً، منكسر الجناح يأتيها حبواً والحال إن هذا العشق الصوفي للمرأة والتعبد في محراب الحب هو معادل رمزي للسمو صوب الملكوت. “الفراشات لا تتنفس فوق شعرك/ الذي يفوح بصالون الحلاقة، تصطدم/ بالزجاج باحثة عن الشمس، إلى أن/ تفتحي الباب ـ النافذة. القلب مغتم،/ حتى وان غابت الدلائل في الضوء/ القوي ـ الواضح. انظر إلى جبينك/ وثغرك، التقط الخطوات الوئيدة بين الباب/ الخارجي والمصعد، وبعينين مغمضتين/ أراك تضغطين على أزرار الغول/ الميكانيكي الذي كان يأخذك بعيداً. أكبح/ غضبي من الانفصال ومن فراشة/ أخرى لا تدري أن الاصطدام/ الذي يزداد عنفاًِ، يلامس الانتحار/ لكن الآفاق تبقى سوداء”. أما الشاعر أدونيس، فيقول في ورقة كتبها لهذه الترجمة لديوان “أبجدية تتعرى”، ويعنونها بـ”الحياة اليومية بوصفها امرأة عاشقة: تحية إلى صديقي سيباستيانو غراسو” يقول: “عادة نهرب من الحياة اليومية إلى أحضان الحب والشعر. في قراءتي “أبجدية تتعرى أشعار 2000 ـ 2008” لسيباستيانو غراسو، رأيت، على العكس، كيف تكون الحياة اليومية هي نفسها حباً وشعراً”. ويعود أدونيس ليقول في ورقته “لكن علي أولاً أن أشير إلى أن الكلام على الشعر لا يكتمل، كما أرى، إلا بالكلام على جماليته اللغوية ـ الفنية، بحصر الدلالة. وهو ما يكاد أن يكون شبه غائب في النقد الشعري السائد، وما آخذه، شخصياً، على هذا النقد”. المفارقة هنا ـ يقول أدونيس ـ “هي أنني أقوم بعمل أنتقد أنا نفسي أولئك الذين يقومون به. وهو أنني لن أتحدث عن الجمالية اللغوية والفنية في شعر سيباستيانو غراسو، بل في (أفكاره) أو (مواقفه) وحدها. هكذا أفعل ما أنكره على غيري”. يتساءل أدونيس قائلاً في المقدمة: “ألي عذر في ذلك، أو مسوغ؟ جوابي هو نعم. من ناحية، لا أرى في شخص سيباستيانو، وحضوره وصداقته، إلا شعراً خالصاً، عميقاً ورحباً. فهو كمثل فضاء يتقطر شعراً. ومن ناحية ثانية، لا أقدر أن أقرأه بلغته الأصلية. لا أعرف اللغة التي ينام معها، ويحلم بها، ويسير برفقة إيقاعاتها الخفية والظاهرة، متخاصماً مع العالم، حوله، أو واضعاً زنده العاشق على خاصرة المرأة التي يحبها. وما وصل إلي من نصوصه التي نقلتها إلى العربية السيدة الجميلة حذام الودغيري، يبدو لي كمثل غيمة يتعذر القبض على هويتها، وإن كانت تبث رؤى وأفكاراً ومواقف وعلاقات. وفي هذا الإطار تحديداً، سأنقل إلى القارئ انطباعاتي، كمن يقف على طرف تلك الغيمة، يستشف ويتنور”. في الحياة اليومية فراغ لا يمتلئ حقاً إلا بجمال هو تحديداً، جمال المرأة: لا أية امرأة، بل تلك المعشوقة العاشقة. لا بد، إذا، من أن نعيد تشكيل هذه الحياة، بحيث تتأسس على حضور المرأة، جمالاً وحباً. حضور كمثل عطر دائم ينبعث من وردة اسمها الحياة اليومية، بتفاصيلها، وتنويعاتها ـ بيتاً سريراً، قهوة، خبزاً، ماء، هواء، شجرة، طريقاً، عملاً. حضور تتحول فيه المرأة إلى أفق للبصر، وإلى عمق للبصيرة. هكذا لا يعود الجمال يهبط على الحياة من فوق أو من خارجها، وإنما ينبثق من الأشياء نفسها ومن حضورها في الحياة اليومية. نحيا في هذا العالم، جسداً، وفكراً، ومخيلة، نفكر، نقرأ، نكتب، نذهب إلى العمل، نخلد إلى النوم، نعيد، نسافر، نعود. تنتظم الحياة وفقاً لمعجم المرأة الأنثوي، ووفقاً لإيقاعه الجمالي المحسوس. ولئن كان الواقع خاضعاً لما يهدم فينا طاقة الإبداع، ولما يعزز شهوة الاستهلاك، فإن الشعر والحب يعيدان لهذا الواقع حيويته، وذلك بتأنيثه جمالياً: يخلّصانه، في آن، من الاستيهام ومن الابتذال، ويجعلان الحياة عالية في مستوى الإنسان. طويلاً استخدم الشعراء الواقع وأشياءه لكي يبتكروا صفات تليق بالمرأة، عاشقة ومعشوقة، والتي كانوا يصورونها كأنها تهبط من عل، بوصفها خلاصاً يجمّل الواقع وينقذه. اليوم يجب أن تكون المرأة هي نفسها المرجع للواقع وأشيائه، المرجع الذي يضيئنا في ابتكار صفات وخصائص لجدّته وتحولاتها. لا تعود المرأة توصف بالواقع، بل يصبح الواقع هو الذي يوصف بالمرأة. الشعر مقترنا بحضور المرأة، جمالاً وحباً، في البيت والمعمل، في المدرسة والشارع، في المطبخ والجامعة، في السرير والحقل، قادر على بناء الحياة في أفق آخر، وعلى أن يتيح للإنسان العيش في حركة خلاّقة تفتح أبواب اللانهاية”. كما يرى أدونيس أنه “يتم النظر إلى المرأة، بوصفها ذاكرة باطنية للأشياء، بحيث يصبح الشيء كأنه الآخر الإنساني الذي نساكنه، نقيم فيه، ويقيم فينا، بحيث تصبح الكلمات في الشعر هي نفسها الأشياء. سكّة الحديد، القطار، الإعلان، المكتب، الهاتف، الدراجة، السوبرماركت، الفلّين، المزاد، الكأس، الحليب، القهوة، المقهى، المطعم، الكرسي، المظلّة، التلفزيون، الهوائيات، نشرات الإخبار، روما ـ رام الله... إلخ. هذه كلها وغيرها، تتجرد في شعر الحضور الأنثوي، من طينها اليومي، طين الابتذال والاستهلاك، وتتحول إلى عناصر مضيئة تؤلّف أوركسترا غامرة وشاملة اسمها الحياة اليومية، بقيادة غامرة وشاملة اسمها المرأة”. نشير إلى أن الشاعر سيباستيانو غراسو، نشر أول مجموعاته الشعرية “آفاق بعيدة” عام 1964. وفي عام 1970، عيّنته دار النشر “جانّوطا” لإدارة سلسلة “العالم” التي تعنى بالآداب الأجنبية، وفي هذه الفترة عكف على ترجمة كبار الشعراء الفرنسيين والإسبان أمثال بودل ير، أبول ينير، لورك ونيرودا... بعد إكمال دراسته في الآداب المعاصر التحق بسلك التدريس الجامعي لمدة سنتين، حيث درّس الأدب الإيطالي. وفي عام 1971، انتقل إلى ميلانو ليشتغل صحافياً في “الكورّييري ديلا سيرا”، الجريدة الإيطالية المرموقة، حيث لا يزال يعمل الآن مبعوثاً خاصاً ومسؤولاً عن قسم الفن. ومنذ آذار 2007 عيّن رئيسا ل “هيئة بن إيطاليا” “الجمعية العالمية للكتاب ـ فرع إيطاليا. ألف ونشر أكثر من عشرين كتاباً في الشعر والنقد الأدبي والترجمة، وبعد فترة صمت شعرية دامت عشرين سنة بعد إصداره ديوان “فصل المهرّج” عام 1978، أصدر ستة دواوين ما بين عامي 2000 و2009، قيلت في المرأة نفسها. وقد نال جائزة الشعر الدولية “ليريتشي بييا” عام 2007. كما ترجمت أعمال هذا الشاعر إلى عدد كبير من لغات العالم، وقدمت أعماله من طرف أسماء عملاقة من قبيل: خوص ساراماكو، إفجيني إيفتوشينكو. جاء ديوان “أبجدية تتعرى” في 222 صفحة من الحجم المتوسط.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©