السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من أضاع الريموت

من أضاع الريموت
4 أكتوبر 2017 20:27
أحمد الملا ظننتُ أنّ رائحةَ الجثّة لن تتسلّقَ نافذتي ولن تعلَقَ في ثيابي ثانية. ألغيتُ وظيفة التلفزيون من البيت قطعتُ أسلاكَ محطّاتِ الأخبار وغسلتُ بالضحك الجدران.. فركتُ بحذرٍ الدّمَ من عينِ ولدي ومن هواءِ أمِّه. قلتُ ستعيدُ اللوحات والصُّوّرُ المعلّقة ضخَّ ألوانِها في المنزل وتستعيدُ الموسيقى رشاقتَها ويشدُّ الرقص قامته. كنتُ على ثقةٍ من يدي كنتُ مطمئنًّا لقدرتي على اعتزالِ البغضاء السائلةِ في فضاءِ الكون أن أقتطعَ جزيرةً أزرعُها بما شئت وأعتزل الأرض. وفي غفلةٍ لم يُطرَق الباب ودون استئذان تسلّلَ الغرقى. زحفَ العالمُ على ركبتيه ورمى جسدَهُ المهشَّم على الكنبة. لقيتُ الصباحَ راجفًا في ركنِ الصالة، شهدتُ طلقاتِ قنّاصين تخطئني بالصُّدفةِ المحضة، قنابلَ موقوتة تتدلّى من السقف، أحزمةً ناسفة تقفزُ من غرفةٍ إلى غرفة. رأيتُ النوم تائهًا يشقُّ المقابرَ بمشقّةٍ مقطوعَ الأنفاس، قتلةً نباتيين في المطبخ ينقعون الرز ويقطعونَ البصلَ بيُسرٍ ويبكون.. والبيت كلُّهُ شاشةٌ ثابتة على مشهدٍ تتدحرجُ منه رؤوسُ الناس رؤوسٌ أليفة تموء وتلعقُ الأثاث. أريد أن أصرخَ ولا أستطيع أن أستغيثَ ولا أجد. بيدٍ أدفعُ عن رقبتي والأخرى تنبشُ مخنوقةً بفكرةٍ واحدة: من أضاعَ الريموت؟ فراشة أخبّئ لك رسالةَ حب في مكانٍ غامض وأنساه، لا أحفظُ منها إلا كلمةً واحدة أعيدُ ترديدها. أسمعُ عشّاقًا ينبشون الكلمات بحثًا عن مفاتيح تشفي يُتْمَهم. أتخيّل قرّاءَ مدهوشين يبتكر كلٌّ منهم حكايةً تمسُّ قلبه. أتلصّصُ عليك؛ تضعينها في يدِك وتتّكئين باليدِ الأخرى على جدارٍ يسندُك، تقرأينها غيبًا وتبتسمين بحزنٍ ناعم مثلَ فراشةٍ حمراءَ تعبرُ مقبرة. أين ذهبت الموسيقى حين توقّفت الكمان نائم في الظلام، يحلم بقوس ناحل يفتح التابوت وينطلقان معاً. القوس يحلم بيد حنونة، والكمان ضامرُ الجسد أثقله ما يكنز، يتخيّل كتفًا تحمله. مرّاتٍ قلة تحقّق لهما الخروج تحت ضوءٍ شحيح. بوصيّةِ الهمس لئلا تستدلّ عليهم الذئاب، أحيانًا يتنقّلان مكفّنين بملاءة تستر عريهما. ليست حكاية كمان بل حكاية مكان مكانٍ ناقصٍ ويضجُّ بالخسران. هذه حكاية صمت طويل، حكاية كمان موعود بنزهة صاخبة.. رفقةَ أوتارٍ مشدودة طبولٍ ساخنة ونشيدٍ حزين. حكاية طويلة لموسيقى خبيئة. حكاية طويلة عن لغة سريّة لا يتحدثها إلا عازف ملثم يتّخذ اسمًا وهميًّا حتى لا يشي به أحد. حكاية يختصرها الصمت، تناقلها مهرّبون مخبّأة في صدورهم، لا يسلّمونها إلا لأقران أقسموا على الكتمان. حكاية لم يجرؤ أحد على كتابتها خشيةً أو خجلا. الكمان يصحو الكمان يسمع لغطًا في الخارج يتحرّك يوقظ القوس يد تفتح تابوته ترفعه في خطْفة فوق مسرح مكتظٍّ بالشهود يتطلّع في جمهور متلهّف وصاخب يكاد يقفز يتلوّى يصيح يرقّ ويغنّي اليد تقبض على رقبته ترفعه إلى الضوء لأوّل مرّة ترفعه هتافاتٌ مخنوقة وتهوي به اليد على حافّة قاسية بعنف يطلق الكمان عواءه الأخير ويتطاير دم الموسيقى ملطّخًا الحياة. ............... السعودية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©