الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سَائقٌ

سَائقٌ
4 أكتوبر 2017 20:26
حمدي الجزَّار* إيه؟ كم الساعة الآن؟ تأخرتَ. اتركْ كل هذا العذاب، وقمْ. أَبعد كل هذه الأفكار السوداء التي تتقافز وتتلاكم داخل رأسك كأفيال غاضبة تتصارع فوق وسادة وحدتك، أسكتْ نهيمَهم المريع وانهض. لا تنظر عن يسارك إلى موضع امرأتك الخالي على سرير الزوجية، وقم. لتأتِ هي عندما تريد، لا تذهب إليها ولا تنتظرها، يجب فقط أن تبقى حيًا، وأن تذهب إلى العمل، يجب أن تترك حصى المرارة يذوب في حلقك، وتبتلع لها كل شيء، يجب أن يظل للولد وللبنت أب يعولهم. أأنت الذي يسوق أم هي؟! يجب أن تذهب للعمل، قم. «ها...أُف». صراخك لن يجدي شيئًا، لتأتِ متى تريد، لكن عندما تفتح باب بيتك بمفتاحها وتدخل يجب ألا تجد جيبك خاويًا. عاجلًا أم آجلًا ستفرغ شكواها وينضب هذيانها، وستمل كلمات أمها المواسية والمحرضة، والقاسية، ثم ستتوقف عن سماع وقول المزيد، وتعود للبيت لتواصل معركتها معك. قم، يجب أن تقود عربة حياتهم بلا سخط، بلا ضجر، وبلا طلب خاص بك. استيقظ يا رجل، استيقظ، العمل.. العمل، الساعة الآن السادسة، البرنامج يبث على الهواء مباشرة بعد ساعة واحدة، ويجب أن تضبط الميكروفونات التي ستستقبل أصوات المذيع والمذيعة والضيوف، استيقظ يا مهندس الصوت، شد الغطاء من فوقك بحماس، هيا، قم، الشبشب تحت السرير، التقطته بأصابع قدميك، وادعك عينيك جيدًا، واذهب إلى الحمام، استحم بسرعة، شاربك مهوش ولحيتك طويلة، لم تحلق منذ أسبوع، احلق الجميع، في الدولاب قميص واحد مكوي، وبنطلون جينز لا يحتاج إلى كيّ. «أف.. المَرَة أخذت العيال وذهبت، لم أسمع صوت الولد والبنت من شهر! حجرة النوم صارت مزبلة، في الثلاجة بيضتين وحتة جبن!» استحم وكُلْ، وأسرع إلى العمل.. تأخرتَ، تأخرتَ. ارتدى ملابسه وخرج مهرولًا. لم يرفع يده بتحية أحد من سكان الشارع، ولم ينطق «سلام عليكم»، فلم يسمع «اتفضل يا هندسة». عيناه غائمتان، لم يستيقظ تمامًا بعد، هو بين النوم واليقظة يسعى، والشارع الرئيسي مزدوج الاتجاه، مكتظ بالسيارات وبالبشر. كثير من السيارات تركن في صفّين وثلاثة صفوف، والشمس في طريقها لمغادرة سماء الحيّ، ويجب أن يتوقف تاكسي، وإلا. رفع يده، مرة ومرات، يستوقف كل سائق تاكسي يمر به. واحد لا يريد أن يعلق في زحام وسط البلد، والثاني نفْسه أولًا في طبق كشري من المحل الشهير بالشارع قبل أن يوصله، والثالث لم يعجبه أن يسأله إن كان العداد شغالًا أم لا، ومضى ساخطًا، مشوحًا له بيده. أخيرًا توقف السائق المأمول بعد أن تجاوزه بعشرين مترًا، جرى خلفه وأدخل رأسه من النافذة المفتوحة ونطق: ماسبيرو. خلف عجلة القيادة هز رأسه عجوز بجلباب أبيض ولحية رمادية وافرة، وهو يتلو غيبًا آية من سورة «الرحمن»، وأشار له بيده أن افتح الباب، واجلس إلى جواري، فركب حامدًا الله. لم تتوقف شفتا العجوز عن التلاوة. كان صوته حشرجة رتيبة، يخطئ كثيرًا في الرفع والنصب والجر، ويجهل أحكام التلاوة تمامًا. لم يقل له شيئًا، ونظر أمامه. «كلها20 دقيقة وأصل». رن جرس هاتف العجوز المحمول بدعاء. تكلم العجوز: السلام عليكم.. الحمد لله، أنت بخير وزي الفل.. يا سيدي طلعنا العفريت من جسمك في آخر جلسة، والحمد لله أنت دلوقتي نظيف وطاهر وزي الفل، وتقدر إن شاء الله على النكاح الشرعي.. توكل على الله واخطبها. مع نفسه ضحك مهندس الصوت ثم سكت. «لكن متى ستعود زوجتي للبيت، لا عارف آكل ولا أشرب، ولا....» السائق الشيخ إلى جواره قطب جبينه، وغضب لظنه إنه يضحك منه، فانتقل إلى التلاوة من سورة «الكافرون». «يجب أن أضبط الميكروفونات بدقة ومهارة، والليلة معي مذيع ألثغ، ومذيعة صوتها كصوصوة الكتكوت». رن جرس هاتف العجوز ثانية: وعليكم السلام، يا أخي قلت لك، إحنا خلصنا على ما كنت تشكو منه، قلت لك إنه جن أحمر كافر، حرقناه بفضل الله، قلت كان تعبك قوي، حبسناه عنك بقدرته سبحانه، أنت بخير الحمد لله، توكل على الله وروح ميعادك..اتوكل. بدا له وجه العجوز كوجه مارد قديم، وجه مغطى بتجاعيد وأخاديد عميقة منذ ألف عام. ليس هذا ما يخيف، البشع هو الصوت المريع الذي يخرج من الحنجرة. رن الهاتف مرة ثالثة فصرخ العجوز: وبعدين!! اعمل إيه معاك يا أخي، قلت لك مرارًا وتكرارًا إنك الآن صاغ سليم، بفضل الله وعونه حرقنا الجن اللعين اللي كان راكبك، والذي أفشل كل مشاريع زواجك السابقة، وببركة القرآن داويناك وعالجناك لوجه الله، ولم تدفع لي سوى المصاريف فقط لا غير، ولم آخذ أجري عن معروفي، عايز إيه تاني، الله يهديك. كانا معلقين فوق كوبري أكتوبر، والسيارات بالكاد تسير. «متى تعود أم العيال للبيت؟ لم أفعل ما يستحق كل هذا، الطلاق كلمة سهلة على لسانها كأنها تلوك بين شفتيها قطعة لبان دكر!» نظر في ساعة هاتفه المحمول، لم يبقَ على البث المباشر سوى عشر دقائق. عاد العجوز لتلاوته الجهيرة، وهذه المرة من سورة «الحشر». السيارات من حولهما تسير ببطء خاشع كأنها في موكب جنائزي. السيارات صامتة، والناس داخلها لهم وجوه حائرة وعيون قلقة، وأيدي تعاني السأم فوق عجلات القيادة. «لكن..البيت من غير العيال لا يطاق». قبل مبنى ماسبيرو بمائتي متر عاد هاتف العجوز للرنين: السلام على من اتبع الهدى، ما لي أنا بعقيدتك وعقيدة أهلك، لكم دينكم ولي دين، أنت مش مصدق إني أخرجت من جتة اللي خلفوك الجن الكافر، وإنك بقيت سليم دلوقتي، وتقدر تتزوج زواجًا شرعيًا، اعمل لك إيه يعنى؟! أنت هتستسلم للكفر ولا إيه؟ متخلنيش ارجعهولك تاني.. لا لا.. دي كلها حاجات عادية، لا عارف تأكل ولا تشرب ولا تذهب إلى العمل ولا تنام، عارف.. ما هو كله كان منه، وأنا أخرجته، حرقته خلاص وانتهى، أنت سليم جدًا، وإن كنت تحتاج إلى جلسة طمأنة أخيرة تعالى لي الجامع بعد صلاة العشا أعمل لك تشيك وششن وخلاص.. الله، أسيب أنا شغلي ورزقي يعنى وأجيلك حالاً؟! طب تعالى الجامع قبل صلاة العشا، ولا تنسى فلوس التبرع والبركة.. وعليكم السلام». وصل الحمد لله إلى محل عمله. أخرج محفظته ومد إلى العجوز الأجرة المعتادة، فنظر إليه بامتعاض وإنكار، ونفث من وجهه أبخرة غضب سوداء وحارة. في صمت وبابتسامة غيظ مد إليه خمسة جنيهات إضافية، فالتقطها العجوز، ولم تتغير سحنته. بهدوء فتح الباب ونزل وأغلقه خلفه بلطف «سلام عليكم»، فلم يرد العجوز، وودعه بتحديق شرس كاسح، وهو ينطلق كرمح في طريق كورنيش النيل. دخل المبنى العتيق وصعد الدرجات جريًا، وصل بلاتوه الأستوديو، وبدأ على الفور ضبط الميكروفونات المثبتة بملابس المذيع والمذيعة وضيفي البرنامج، ثم هرول إلى حجرة الكنترول، وجلس على مقعده خلف «سويتشر التحكم» متجاهلاً تقريع المخرج، وأجرى على عجلٍ اختبارات الصوت.. أصابع يديه تتنقل بخفة وسرعة فتسحب أزرار الضبط، تمدها، تعليها وتخفضها، وفي أذنيه تتوالى أصوات متنوعة ومتنافرة، أصوات لا توقف لها ولا نهاية. ............................ * مصر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©