الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وطنية المال

وطنية المال
14 يونيو 2012
طلعت حرب شخصية مهمة ومؤثرة في التاريخ المصري والعربي الحديث ولم يجد بعد من المؤرخين والدارسين الاهتمام اللائق بالدور الاقتصادي الوطني الذي لعبه في تاريخ هذه الأمة، وباستثناء فتحي رضوان الذي وضع كتاب “طلعت حرب - بحث في العظمة” لا نجد عنه سوى بعض المقالات الصحفية. ويدهش المرء أن كاتباً وباحثاً مثل العقاد الذي ترجم لكثير من معاصريه لم يلتفت إليه حق الالتفات. يعد فتحي رضوان، طلعت حرب من رجال الدول، أسس دولة كبرى هي بنك مصر بشركاته المتعددة حوالي 15 شركة في عهده وبرغم الطنطنة الكبرى في مصر منذ سنوات لرجال الأعمال، فإن أحداً لم يتوقف بجدية أمام طلعت حرب ليستلهم تجربته، وفي ظل الحديث المتنامي عن المجتمع المدني أو الأهلي فإن الكثيرين لم يهتموا بدراسة تجربة بنك مصر باعتباره حالة من حالات المجتمع الأهلي والمدني، تأسس هذا البنك بجهد أهلي خالص تماماً، وما أحوجنا جميعاً إلى أن نتذكر ونتدارس هذه التجربة الآن. حي الجمالية لم يكن أحد يتصور أن طلعت حرب يمكن أن يكون شخصية اقتصادية هائلة على هذا النحو، ولد يوم 25 نوفمبر سنة 1876 في قصر الشوق بحي الجمالية، قلب قاهرة المعز، نفس الحي الذي ولد به بعد ذلك نجيب محفوظ، كان والده موظفاً صغيراً في مصلحة السكك الحديدية، نزح الوالد من محافظة الشرقية إلى القاهرة، حيث مكان عمله، وهكذا نشأ طلعت في مجتمع القاهرة الإسلامية، ولكن بروح ريفية في أغلب عاداته، وكان يعد نفسه أن يكون كاتباً، أصدر سنة 1899 كتابه الأول وكان رداً على كتاب قاسم أمين حول حرية المرأة، ولقي الكتاب نجاحاً في ظل الحملة على قاسم أمين ومشروعه، وفي سنة 1905 أصدر كتاباً آخر عن دول العرب والإسلام وفي سنة 1910 برز اسم طلعت حرب في العمل العام متصدياً لمشروع مد امتياز قناة السويس لمدة 40 عاماً أخرى، كان بطرس غالي وسعد زغلول أبرز المتحمسين لهذا المشروع، كان بطرس ناظر النظار، وكان زغلول ناظر الحقانية “وزير العدل”، وكان محمد فريد الزعيم الوطني هو من قاد تلك الحملة، والمعنى هنا أن طلعت حرب كان متأثراً بأفكار الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل وتولى قيادته محمد فريد من بعده، وكانت فكرة بنك مصر مطروحة داخل الحزب الوطني وكان طلعت حرب مشغولاً بها. إنشاء بنك وطني فكرة قديمة تعود إلى عصر محمد علي، فبعد اتفاقية سنة 1840 ومحاصرته دوليا داخل مصر، أمر محمد علي في سنة 1258 هجرية بتأسيس بنك على غرار بنوك الممالك المتحدة ويكون له امتياز وسلطة في تسعير العملة والأوزان وتسعير سائر أصناف الزراعة والتجارة. تأسس بنك محمد علي برأس مال قدره 700 ألف ريال، تحملت مصر منها 400 ألف وتحمل الباقي اثنان من رجال المال الأجانب، ولم يستمر هذا البنك طويلاً، فقد ذاب مع العديد من مشاريع محمد علي التي تسربت في سنواته الأخيرة، ثم تكرر الحلم في عهد إسماعيل باشا، وطالبت بعض الصحف به في سنة 1879، حين ازدادت الضغوط الاقتصادية والمالية الأوروبية على مصر واجتمع عدد من أعيان مصر، في مقدمتهم محمد سلطان باشا وعمر لطفي باشا بتوجيه الدعوة إلى المصريين لتأسيس بنك وطني وأصدروا بياناً جاء فيه “وإذا نظرنا إلى حال كل مملكة من الممالك الأوروبية على حدة نجد أن كلاً منها مستقلة ببنوكها المهمة وأن أسعد تلك الممالك وأوسعها تجارة وأنجحها صناعة وأنفذها كلمة، وأقدرها سلطاناً هي أشدها استقلالاً ببنوكها. ويقول البيان “رأينا جمهور نبهائنا ووجهائنا متبصرين في سبيل الخلاص حتى هداهم الله إلى إنشاء شركة مالية وطنية عرضها عليهم بعض التجار فتلقوها بالبشر والترحاب واقبلوا عليها وعقدوا العزم على إظهارها إلى الفعل، وستظهر عمّا قريب إن شاء الله محلية باسم كريم تفاءلنا به خيراً ألا وهو البنك الوطني المصري..”، ولم تتحقق الفكرة لتدافع الأحداث ونعرف من “بلنت” محامي أحمد عرابي، أن الزعيم المصري كان يفكر في تأسيس بنك تسليف زراعي ليحل مشاكل الفلاحين، لكن هزيمته أمام الإنجليز أطاحت بكل أفكاره.. تخمد الفكرة وتكاد تنسى حتى نجدها تثار داخل الحزب الوطني سنة 1908 وكان عمر لطفي عضو الحزب هو أبرز الداعين إليها، متأثراً في ذلك بالتجربة الألمانية، وسنجد طلعت حرب يدرس سنة 1916 التجربة الألمانية في الاقتصاد والبنوك.. وكان طلعت من الحالمين بفكرة البنك الوطني حتى واتته اللحظة المناسبة وهي قيام ثورة 1919. اكتتاب وطني استغل طلعت حرب الحماس الوطني الذي أثارته الثورة ودعا إلى اكتتاب عام لإنشاء بنك مصر، يكون بنكاً وطنياً يعمل بأموال المصريين ولا يترك أموالهم في أيدي الأجانب، لم تكن الفكرة جديدة، كان قد سبق تناولها في بعض الصحف، الجديد كان هو اللحظة المناسبة التي هيأت للناس الحماس وهكذا اكتتب 126 مصرياً بمبلغ 80 ألف جنيه، تأسس بها البنك في 7 مايو سنة 1920 وبدأ العمل، بعد 5 سنوات بلغ المبلغ 500 ألف جنيه وفي سنة 1927 وصل إلى مليون جنيه وبلغت الودائع في السنة نفسها 5.5 مليون جنيه بينما كان للبنك مركز واحد في القاهرة، حين تأسيسه، صار له 20 فرعا في عام 1935، وفي نفس السنة شارك البنك أو ساهم في تأسيس 14 شركة أخرى منها شركة مصر للطيران وشركة مصر للملاحة البحرية وشركة مصر للتمثيل والسينما وغيرها. والذي أسعد المصريين بهذا البنك ليس فقط مشروعاته وشركاته، ولكن أن اللغة العربية نجحت في أن تكون لغة البنوك وتعاملاتها، وأن البنك درب جيلاً من رجال البنوك المصريين، وكان التصور من قبل أن لغة البنوك هي الفرنسية أو الانجليزية وربما الألمانية، لكن ليست العربية وان رجال البنوك هم على الأغلب من الأجانب “الخواجات” ومن اليهود تحديداً، وحطم بنك مصر تلك الأساطير كلها، حيث تكون جيل من المصريين المسلمين. المعنى الآخر الذي كشفه هذا البنك هو مدى الوحدة الاقتصادية العربية، عمل البنك في فلسطين وفي سوريا وفي الأراضي الحجازية، وصار نموذجاً عربياً يحتذى به في الاستقلال الاقتصادي. تعرض البنك لأزمة بعد قيام الحرب العالمية الثانية وفي سنة 1940 تدخلت الحكومة المصرية لإنقاذ البنك وتم عزل طلعت حرب ليلقى نهاية لم يكن يستحقها وتوفى في سبتمبر من العام التالي 1941 واسترد البنك عافيته وعاد أقوى مما كان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©