السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معيريض.. حارسة الماء

معيريض.. حارسة الماء
14 يونيو 2012
هي الكائن المستبد، هي الومضة الحارقة، هي رفّة، هي نزفة في الجذر والقدر الميهمن، تسترخي عند خاصرة ونافلة، تهيم في الأبد نسقاً مترامية في الأطراف والأعطاف، حالمة مسالمة، في الكلام، تنصت بإمعان لأحاديث الطيور في الصباحات الباكرة، وتكتب روايتها بصمت الراهبات المعتصمات بحبل الرغبة الكامنة، وبريق الحرقة المداهمة.. هي، في التاريخ مفاصل من فقدان وأحزان، هي في التضاريس ألق متألق يفاقم وعيه الأزلي في ذاكرة العشاق، وربقة الأشواق وغشاوة الأحداق.. الذين مروا من هنا قوافل ومحافل وأشياء أخرى كدمعة الملح وشمعة الكيروسين، وما صرصر في الأبواب القديمة، وما دغدغ خوص العريش في الليالي المصهدة، وما حاور الأوراق المدلاة عند خصلة وفاصلة، وما ابتسم وما احتدم وما تنعم بالشهيق في الذروة القصوى وما انعدم ساعة التشظي. البقعة المباركة هي.. هي البقعة المباركة من جغرافيا اقتصرت خطوط الطول والعرض، وخط الاستواء والانحناء، هي من ربط حبال الأراجيح وقت الظهيرة أيام العيد، وغنت لها ما بين الصراطين، كاعبات ناعسات، ناهدات، حور عين، متشوقات مدنفات والهات لكلمة الله في خلقه للسر الدفين وأقطاب هوى بحري غسل ثوبه الأشف بالملح والشقاء متوارياً في الزرقة، متفادياً كل ما يسفر وما يحفر في التراب اللدن. هي في الصباح المتدحرج على قارعة الأرصفة الهادفة تقول بوجه صبوح: يا الله يا فتّاح يا رزاق، ثم تلثم النسيم مستبشرة بيوم أرق من جناح عصفورة عاشقة.. هي وليست سواها.. الاستثناء والتفرد، أنشودة وإلياذة، وأوذيسة، ورسالة غفران لسجين المحبسين، هي الرغبة الجامحة على مر السنين تقبر الأشياء في أحشائها ثم تمر مرور الكرام على الشواهد، والمراقد، تمضي بخيلاء الخالدين وتعظم الوجود بالقدرة الفائقة بطاقة الذات، تقول للذاهبين بعيداً أيها المسافرون إلى الأبد، ليس الموت حبل المسد، وما شيء من كمد، إنه الخيال الوسيع، إنه الورطة اللذيذة حين ينطفئ الضوء وتنام الطوية بلا غاية قبيحة، ويبقى الجسد المحفوف بصمت وسكون خرقة تحللت من قذارات يبقى الجسد، شجرة تحررت من صفرة الأوراق، وريش العصافير المتحاربة. هي لون من ألوان التداعي الطليق لا تنتهي فصوله ولا خاتمة لأحداثه، مفرداته من رمل وأمل، ومقل شعت وشاعت وأشاعت خبر اليقين، عندما زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الجبال أثقالها وسجر البحر، وانتحر البدر عند قدمي قرية قديسة نابهة، نسيت جوازات السفر ولم تنس الاسم المبجل المجلل بالهوى “معيريض”. هي المسافة ما بين الشريان والشريان هي حاسة الشم لرائحة ثوب امرأة مرت من هنا فاستوطنت فاستولت فاتسعت نفوذاً وما تحاشت فرض العقوبات ما تفادت كسر الضلع وترك حقيبة القلب بلا أقلام تسجل ما جرى ليلة انحسار البحر، واندحار القمر وتضور من انفلت زمام الشوق من بين يديه صار شيئاً شائهاً أو أشبه بالعدم. هي لسيدة وقورة، هي حلم الأولين ببقعة أو رقعة تغير مجرى اشتياقاتهم، هي راهبة راغبة في التصدي لملفع الشظف هي لا يعرف سرها غير الطير المستيقظ باكراً يسأل رفيقته عن حبة وقبلة ثم يرخي الجناحين متوارياً في نخوة أنثاه متسرباً في حنايا الدفء يحاصره هواه وفطرة أنبل من كل النظريات أجل من كل الاعتبارات أوقع من زئير المواعظ والخطب.. هي في الأصل من نسل أعظم من أبهى المدن، هي من سلالة تنحدر من أول وهله، رجم السائل فيها بكتلة من جحيم.. هي السر الكامن في عين الطير وجذر السدر، ورائحة النبق وطيب اللوز، ساعة توهجه، واستنفاره لأجل الاحتدام الرهيب.. هي لغة مجازفة تمارس عنها بوعي، وتكرس الاشتهاءات بدقة وحرقة تمتص تفجيراتها كالإسفنجة لا تقنع ولا تشبع ولا ينام الصهيل مهما تقاعست جهات التعاطي.. هي يا رب من محور السماء من دار النجوم من منازل تلون جدرانها بالأمل وتنسق أوراقها بأنامل التعب وتسقي عروقها من أجاج، والصبر في عقيدتها ملح القلوب هي اللوعة المستدامة المتطورة نسلاً من شخوص الإبصار إذ تقرع القارعة ولا يجزع سوى الراجفين الغارفين من شعثاء وعشواء، المتسربين عبثاً في أواني الغيبوبة، المسربلين غياً في أصفاد الذاكرة المثقوبة، المتهاوين في فجوة وجفوة وفجاجة.. هي اللقطة المتساقطة من مشهد التاريخ، هي التاريخ المتساقط من لقطة أخيرة. جزيرة متبتلة هي حبيبة لبيبة، نجيبة هي كجزيرة متبتلة مبتهلة تحرس الماء وتمد لقواربه أشرعة بلا أقنعة، هي “معيريض” وحدها، الجاثية منذ الأزل بجدران عالية من ألوان الطيف وأحلام أشبه بالظلال ووعي كرماد يحثو جمره للريح عسى ولعل تستيقظ الطيور النائمة وتفتح الأسئلة، عن سنبلة، عن قبلة، عن جديلة امرأة قصها التهور ساعة نسيت بعض أصابها في الشعر الكثيف، فتهافتت في هلع وجزع، أين المشط.. أين المفرق عند الجبين.. هي شيء من سمات امرأة قمطت الصغير، وسعت لجلب السائل السحري لأجل حياة بلا ظمأ، لكنها تذكرت بعد حين أن في “الحديبة” الآبار ناشفة متغشية في العبوس، وأن الطريق الحصوي، صار معجوناً تحت العجلات المتهورة، وأن اللواتي كن يصاحبنها إلى العيون صاروا ذاكرة فقط.. هي، “معيريض” المتوسلة لأيام خلت المتسللة من بين أصابع الذهن تطفو كأنها سمكة نافقة لكنها تزهو بألوان الخيال الرفيع، فتغدق البحر، ما تدفق من أنفاس وإحساس. هي كطائر شايخ تقاعس عن الطيران فاقتعد كرسي الجندل ينظر إلى الخلاء بتمعن اليائسين ثم يشيح في وجوم يهجو القوافل التي مرت ولم ترطب ريقه برشفة يسرد بطولات وصولات وجولات ثم يغمض العينين متحسفاً متأسفاً رافساً العراء بقدمين راجفتين. هي تبدو جذلانة بخذلانها لكنها عندما تزيح الرمل عن الحجر، تبرز النتوءات والحفر، تبدو هي كما هي لا رتوش ولا نقوش، بل خدوش تشي بالوعكة المدمرة.. هي المكان، هي البيان، على صفحة جبين لجين، هي ساعة الصفر التي لم تحرك عقاربها قيد أنملة، رافضة متعارضة مع دورة الكواكب وحركة النجوم نقول للذاهبين بعيداً المشي على الأقدام خير من امتطاء حصان أجرب والوقوف عند القارعة خير من الخوض في معمعة الغبار، والتفرج خير من اللعب بأوراق الفشل.. هي تستمرئ هذا اللون الرمادي، وعندما لا تجد لوناً فإنها تختار اللا لون، لأنها في خارج النص تجد ضالتها، تجد خلودها، تجد قدرة بالغة التفوق على القراءة وتحكي عن حكمة ابتدعتها هي فقط، أن الذين يسرعون لا يستطيعون القراءة، ولا حتى إحصاء عدد الكلمات في الصفحة الواحدة، بينما الماشون بتفرده، فهم متأنون مسيطرون يتقنون القراءة بوعي يجيد تلحين صوت الريح وترديد هديل الحمام.. هي قد لا ترى في عزلتها غير نعيم مقيم من زمن عاد وثمود، لما خسفت الأرض هناك أشرقت الشمس عليها لتبدأ الطيور من جديد إعادة ترتيب أعشاشها، ولكن لأن ما حولها كان يستقل قطاراً سريعاً، وجدت نفسها في حال التعب، فاختارت المكوث بلا توقع للقلق ولها حكمة في ذلك.. تقول إن توقع القلق أخطر من وقوعه، فلذا هي لا تقلق ولا تتوقع القلق، هي تمضي في السكينة ممسكة بأطراف الخيوط، متمسكة بالحكمة القائلة .. من يهم في الغوص عميقاً يغرق. هي هكذا، رائعة في تسلقها جبال من خيال، وحياكتها ثوب المعرفة بخيال من محال.. هي هكذا تعلمت من البحر المجاور كيف تطرز زمنها وكيف تضع النقوش على التاريخ وكيف تلون الذاكرة. هي هكذا ريانة بالخيال، فقد يكون وهما وقد لا يكون لكنها على يقين بأن الحقيقة ما يعتقده الناس، وما عدا ذلك فلا يقين.. هي هكذا ساحرة ساخرة مبهرة مزخرفة وأحياناً تبدو متعجرفة، لكنها لا تبدو غير أنها ملفتة مسهبة في الدهشة، وأجمل ما يميزها أنها محبة أزلية، وهذا ما يجعلها لا تقبل الوقوع في فخ النسيان.. هي هكذا متوحشة أحياناً وموحشة أحياناً فاشية أحياناً متفشي أحياناً أخرى مقفرة أحياناً ومسفرة أحياناً أخرى، هي في المجمل كائن مذهل يحمل متناقضاته في ذاته.. ولأنها مستوطنة للموت والحياة معاً، فإنها لا تغني أبداً لا تغني ورغم انخفاض جدرانها، وضآلة أزقتها، إلا أنها جسورة إلى حد الجبروت.. جبارة إلى حد الجسارة الأشياء من حولها تتكسر، بينما هي منثنية لا منكسرة مطوية لا منتحرة منحنية لا متفجرة.. هي هكذا شيء من الخارق الطارق للآذان والأذهان الحارق اللا محترق، المحتفي بوجوده، هي الصدع في الفؤاد اللا متصدع، هي الكائن الورع اللا متورع، هي سحابة تظلل ولا تمطر.. هي هكذا نقطة الالتقاء ما بين الوجود والعدم، هي المسرحية الهزلية تناقش واقعاً تراجيدياً، عقيماً عديماً، وقد لا يكون للمعنى معنى، ولكن الأشياء هي التي تسبغ على المعاني معانٍ، وكما يضع الإنسان على الأشياء معانيها .. وأحياناً لا يفعل فتظل بلا معنى.. هي هكذا.. “معيريض”، الناخرة في الجغرافيا، الموغلة في التاريخ، المدنفة وجداً في المثول أمام البحر لتقرأ دوماً تفاصيل الموجة وتنصت للوشوشة ساعة الالتحام الرهيب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©