الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مالك شبل.. إسلام الأنوار

مالك شبل.. إسلام الأنوار
16 نوفمبر 2016 19:51
هاشم صالح فوجئنا برحيل المفكر الجزائري الشهير مالك شبل في باريس قبل يومين بمرض السرطان الرهيب.ومعلوم أنه كان أستاذاً جامعياً، ومحللاً نفسانياً، ومدافعاً كبيراً عن إسلام الأنوار.وكان قد ولد في الجزائر العام 1953، أي أصغر مني بثلاث سنوات. ومع ذلك فلم أمت أنا حتى الآن. ولا أحد يعرف لماذا؟ «كأنك في جفن الردى وهو نائم». أقول ذلك على الرغم من أني مرشح بقوة للظفر بهذه النعمة التي لا تقدر بثمن. ولكن سبحان مقدر الأعمار، وهادم اللذات، ومفرق الجماعات. ولله في خلقه شؤون. لكن دعونا من هذه الاعتبارات الميتافيزيقية التي تجل عن أفهامنا وتتجاوز عقولنا ولندخل في صلب الموضوع. تفوق علمي كان مالك شبل قد ولد في مدينة «سكيكدة» الساحرة المستلقية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الجزائر الغناء. وهي مدينة محاطة بالغابات والتلال والكثير من الجمال. فقد حباها الله من خيرات الطبيعة ما تحسدها عليه مدن كثيرة. وبعد أن نال شهادة البكالوريا في الفلسفة والآداب العربية انتقل الى جامعة قسنطينة لإتمام دراساته الجامعية. ومن هناك انتقل العام 1977 إلى باريس لتحضير شهادة الدكتوراه، كما يفعل المثقفون المغاربيون عموماً. وهناك نال أولاً شهادة دكتوراه في علم النفس والتحليل النفسي على يد جان لابلانش أحد كبار المشاهير، بالإضافة إلى جاك لاكان. ثم نال شهادة دكتوراه ثانية العام 1982 في الأنتربولوجيا وعلوم الأديان. ولم يكتف بذلك وإنما نال شهادة دكتوراه ثالثة من معهد العلوم السياسية في باريس. وهكذا نال المجد من جميع أطرافه، وأصبح «الدكاترة مالك شبل» كما كنا نقول الدكاترة أحمد زكي. وفي باريس استقر بعد أن تفتحت مواهبه الابداعية كما يحصل للكثيرين. فباريس مؤاتية للإبداع وتفتح العبقريات بفضل حرياتها ومكتباتها وجامعاتها ومحاضراتها ومغازلاتها وعفى الله عما مضى. باريس أكبر مركز ثقافي في العالم. وراح يشتغل على خطين أساسيين: خط الكتابة الأدبية عن كنوز تراثنا العربي الإسلامي التي تضج بالعطور والروائح والجمال والحب والجنس وألف ليلة وليلة، وخط الكتابة الفلسفية عن تراثنا الإسلامي الذي كان مملوءاً بالنزعات الإنسانية والعقلانية الفلسفية إبان العصر الذهبي، بمعنى آخر فقد كرس مالك شبل حياته لتقديم الصورة الحضارية المشرقة عن هذا التراث العظيم الذي شوهت صورته مؤخراً. لقد آلمه جداً ألا يعرف الفرنسيون والغربيون عموماً إلا هذه الصورة المشوهة المجتزأة المبتورة التي يبثها المتطرفون من جهتنا والحاقدون علينا من الجهة الأخرى. آلمه أن تبقى الصفحات المضيئة من تراثنا الأدبي والفكري والديني مطموسة ومجهولة من قبل حتى العرب أنفسهم. فشمر عن ساعديه وراح يصدر الكتب تباعا عن هذه المسائل الحساسة. والشيء المدهش هو أنه أصدر عشرات الكتب في عمر قصير. لقد أصدر أكثر من ثلاثين كتاباً وهو لما يتجاوز الستين إلا قليلاً. وكلها بالفرنسية. لا أعرف فيما إذا كان يكتب بالعربية التي كان يتقنها جيداً. من بين الكتب المكرسة للمحور الأول من اهتماماته نذكر: الجسد في الإسلام 1984، كتاب الإغراءات متبوعاً بعشر أقوال مأثورة عن الحب 1986، الخيال العربي الإسلامي 1993، موسوعة الحب في الإسلام 1995، التحليل النفسي لألف ليلة وليلة 1996، مائة اسم للحب في اللغة العربية 2001، الخ. هكذا تلاحظون أن تراثنا لم يكن كارها للحب والعواطف والحياة الجنسية والعشق والغرام كما يوهمنا التيار المتقعر المتزمت. لقد فاجأ مالك شبل الفرنسيين إذ كشف لهم عن هذه الجوانب الرائعة والجميلة جداً من تراثنا الأدبي. بل واستشهد بالحديث النبوي الشهير: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة». صورة مغلوطة يعتقد مالك شبل أن هناك صورة مغلوطة منتشرة عن الإسلام وتراثه. وهي صورة تقول بأنه مضاد للحياة والحب والمتع الحسية المشروعة. إنها صورة تظهر الإسلام على هيئة دين متجهم كالعبوس القمطرير.وهذه الصورة لا تعبر عن حقيقة الإسلام الأول إطلاقاً وإنما عن التشوهات التي تعرض لها بعد دخولنا في عصر الانحطاط. فالإسلام دين الإبداعات والحضارات الراقية من دمشق الأموية إلى بغداد العباسية ألى غرناطة أو قرطبة الأندلسية، إلى القاهرة الفاطمية، الخ، .إنها حضارة لطيفة ناعمة مرهفة صاحبة ذوق رقيق في الحياة والشعر والأدب والفن. إنها أجمل حضارة في العصور القديمة عندما كانت أوروبا لا تزال همجية، فظة، جاهلة. لقد ترجم مالك شبل العديد من النصوص العربية التي تبرهن على ذلك لكي يطلع عليها الفرنسيون ويعرفوا العرب والمسلمين على حقيقتهم. فالإسلام العظيم لا يمكن اختزاله إلى الصورة القمعية السائدة عنه حالياً بسبب المتطرفين الجهلة الذين قدموا له ولنا أسوأ خدمة في التاريخ. يقول مالك شبل ما معناه: بإمكانك أن تكون مسلماً حقيقياً ملتزماً تعاليم الدين من دون أن تحتقر المتع والملذات، ومن دون أن تنظر إلى المرأة نظرة دونية احتقارية، كما يفعل البعض حالياً. فالرسول الكريم كان يرفعها إلى أعلى مقام. وتالياً فشتان ما بين موقف النبي وموقف هؤلاء المتزمتين المظلمين. ينبغي أن يعلم الجميع أن الفهم السائد عن الإسلام حالياً معكوس ومغلوط. نقطة على السطر. ثم يردف قائلاً: الأصوليون يكرهون كل شيء له علاقة بالجسد والحب والجنس ويعتبرونه رجساً من عمل الشيطان.ولكن هذا موقف مضاد للموقف الحضاري الذي ساد العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية. اقرأوا تلك الصفحات الرائعة من كتاب ابن حزم الشهير «طوق الحمامة في الألفة والألاف». إنه من أجمل ما كتبته العرب عن الحب والجنس.وابن حزم هذا ليس متهتكاً ماجناً وإنما هو أحد كبار فقهاء الإسلام. وبالتالي فقد جمع المجد من طرفيه علم: الدين وعلم الدنيا. ليت أن شيوخ الإسلام المعاصرين يقتدون به أو يطلعون عليه على الأقل. أين الثرى من الثريا. إسلام الأنوار اشتهر مالك شبل بكتابه «بيان من أجل إسلام الأنوار» الكتاب الصادر العام 2004. وربما كان أول من أطلق مصطلح «إسلام الأنوار» في اللغة الفرنسية. ثم أخذه عنه آخرون. بل وصدرت سلسلة من الكتب عن إحدى دور النشر الباريسية بهذا العنوان ولا تزال. وأعتقد أنه يشرف عليها عبد النور بيدار، الفيلسوف المجدد للإسلام في العمق. وعلى أي حال فالحاجة أم الاختراع كما يقال. لو لم تكن هناك حاجة ماسة للمصطلح لما انتشر كل هذا الانتشار. فالناس كانت عطشى إلى فهم آخر للإسلام، فهم مستضيء بنور العلم والعقل. والإسلام أساساً هو دين العقل والأنوار. الله نور السماوات والأرض. هل قرأتم سورة النور؟ نور على نور. هكذا كان في العصر الذهبي أيام المعتزلة والفلاسفة والأدباء والشعراء الكبار. هكذا كان أيام الجاحظ والتوحيدي والمعري والمتنبي والفارابي وابن سينا، وبقية الأعلام والمشاهير.ويحتوي الكتاب على 27 مقترحاً لإصلاح الإسلام. نذكر من بينها دعوة المفكر الجزائري المسلمين إلى القيام بتفسير جديد لنصوصهم المقدسة على ضوء المناهج الحديثة. ولكنه يستبعد الإلحاد كحل. فالحداثة الإسلامية لن تكون إلحادية وإنما علمانية وإيمانية في آن معاً. ومعلوم أن العلمانية غير الإلحاد. كما ويدعو شبل المسلمين إلى الكف عن أعمال العنف باسم الإسلام. وبهذا الصدد يدعو إلى إلغاء كل الفتاوى الدينية الداعية إلى الاغتيالات وهدر دم المثقفين أو سواهم. كما ويدعو إلى التخلي كلياً عن العقوبات البدنية المرعبة كالجلد والرجم وقطع اليد الخ، ثم يدعو الباحث الراحل المسلمين إلى احترام حرية الضمير والمعتقد، وكذلك احترام الحرية الفكرية. ويدعو أيضاً إلى احترام الآخر المختلف دينياً كالمسيحي أو اليهودي أو البوذي الخ، باختصار شديد فإن الكتاب يدعو للتوصل يوماً ما إلى إسلام عقلاني، مستنير، إصلاحي، متصالح مع الحداثة والعصر. وهذا هو جوهر الإسلام. ثم أصدر مالك شبل كتاباً آخر بعد هذا الكتاب، بعنوان شديد الدلالة والمغزى: الإسلام والعقل. معركة الأفكار. وقال فيه بأن صوت العقل غير مسموع حالياً بسبب هدير الأصوليات المزمجرة والأحداث المستعرة. ولكن العالم الإسلامي لم يكن هكذا طيلة الوقت. فالواقع أنه مر بفترات ازدهار وسلام وإبداع ورغد من العيش.وبالتالي فقد تناوبت عليه فترات الصعود وفترات الهبوط، فترات العصر الذهبي وفترات عصر الانحطاط. وكان دائماً يشهد الصراع بين تيارين أساسيين: تيار التزمت والانغلاق، وتيار التجدد والانفتاح. يكفي أن نفكر هنا بمعركة المعتزلة مع الحنابلة، أو الفلاسفة مع الفقهاء المتشددين. يكفي أن نفكر بمعركة ابن رشد مع الغزالي الذي كفر الفلسفة على الرغم من علمه الغزير.وبالتالي فالمعركة الجارية حالياً بين المثقفين العرب وقادة الإسلام السياسي تخترق تاريخ الإسلام من أوله إلى آخره.ولكن للأسف فإن الغرب لا يرى من الإسلام إلا القاعدة وداعش وما أشبه.وهذا ظلم وإجحاف. ففي الماضي كان الإسلام مبدعاً ومجدداً في المجالات كافة. وعبر التاريخ كانت هناك فترات طويلة من السلام والازدهار والسعادة في أرض الإسلام. وبالتالي فغيروا صورتكم أيها الفرنسيون والغربيون عن الإسلام. فحركات التطرف ليست كل الإسلام، بل إنها أقلية قليلة فيه.ولكنها بتفجيراتها وفرقعاتها الكبرى غطت على الوجه المشرق للإسلام والحضارة العربية، بهذا المعنى فقد كانت كارثة ليس على الغرب فقط وإنما على المسلمين أنفسهم بالدرجة الأولى. يقول مالك شبل واصفاً إسلام الأنوار: لقد قدم للعالم علم الجبر والحساب والفلك والطب والفلسفة وحتى صناعة العطور والمطبخ اللذيذ والموسيقى الرائعة. هذا هو الإسلام الحضاري. كما وقدم في عصر المأمون وبغداد وغرناطة وقرطبة كل الفكر الفلسفي إلى الغرب المسيحي. لقد قدمه له هدية سائغة. وساهم بذلك في تنوير أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات العصور الوسطى. وبالتالي فالإسلام أكثر إبداعاً وتسامحاً وإنسانية مما يظن الكثيرون. إنه دين الحب والتسامح لا دين العنف والإرهاب.ولكن مالك شبل يعترف بأننا وقعنا في مغطس رهيب بسبب حركات التعصب والتزمت الحالية. ولا أحد يعرف متى سنخرج من هذا المغطس. ويرى أن أغلبية المسلمين في فرنسا واقعة بين فكي كماشة: جماعات الإسلام السياسي التكفيرية من جهة، والجمهور الغربي الذي يشتبه فيهم من جهة أخرى، بسبب جهله الكامل بالإسلام وحضارته.وبالتالي كان الله في عوننا.. أخيرا ينبغي ألا ننسى أن مالك شبل ألف ثلاثة كتب بعنوان: قاموس عاشق للإسلام، وقاموس عاشق لألف ليلة وليلة، وقاموس عاشق للجزائر. وهذا أكبر دليل على مدى ارتباطه بالأصل والجذور كجزائري مسلم عربي. لقد كان حب التراث يجري في دمه وعروقه. ولم تنسه إياه الأضواء الباريسية والأمجاد التي حققها في شتى جامعات العالم. فقد كان محاضراً في أكبر الجامعات الأميركية من بيركلي الى ستانفورد الى سان فرانسيسكو ونيويورك الخ.وكان عضواً في لجنة الحكماء التي شكلتها المفوضية الأوروبية أيام رومانو برودي بغية تحقيق التقارب بين الاتحاد الأوروبي والعالم العربي الإسلامي، أو بين كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط. رحم الله مالك شبل الذي يتحضر الآن لرحلته الأخيرة حيث سيعود إلى مسقط رأسه في مدينة «سكيكدة» الرائعة لكي يدفن فيها. هناك حيث ستحتضنه الأرض الطيبة، أرض الوطن الحنون الدافئة. من هو مالك شبل؟ مالك شبل، مفكر جزائري بارز، من مواليد مدينة سكيكدة العام 1953، درس في الجزائر قبل أن يزاول دراسته في باريس، حيث درس التحليل النفسي ومارسه لفترة من الزمن. متخصص في الفلسفة وانثروبولوجيا الديانات، درّس في جامعات عدة عبر العالم، وبدأ في الآونة الأخيرة يتخصص أكثر فأكثر في القضايا الإسلامية الراهنة، وهو مبتكر عبارة «إسلام الأنوار» العام 2004، والمتخصص في دراسة «الإسلام في أوروبا». لمالك شبل مؤلفات مهمة عدة، منها «قاموس الرموز الإسلامية» الصادر العام 1995، و«الرق في أرض الإسلام» (والكتاب يعتبر رداً غير مباشر على أطروحات برنارد لويس عن الرق في أرض الإسلام)، و«أسماء الحب الـ 100»، «الإسلام كما شرحه مالك شبل». حصل شبل، سنة 1980، على دكتوراه أولى في علم النفس من جامعة باريس7، قبل أن يحصل على الثانية في الأنثربولوجيا والاثنولوجيا وعلم الأديان سنة 1982، ثم الثالثة، سنة 1984، في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس. مكنته كفاءته العلمية من تبوء مكانة متميزة على الساحة العلمية والفكرية الأوروبية، وسرعان ما أصبح أحد الأساتذة المشرفين على البحث العلمي في جامعة السوربون، وأحد أبرز المحاضرين عبر العالم. كما أنه صار أحد المستشارين الكبار في ما يتعلق بقضايا الإصلاح الديني والإسلام عند عدد من الجامعات الأجنبية. ولا غرابة في أن يُمنح، في وقت سابق، مقعداً ضمن مجموعة الحكماء لدى رئيس اللجنة الأوروبية رومانو برودي. توفي مالك شبل في 12 نوفمبر 2016. دين حضاري يعتقد مالك شبل أن هناك صورة مغلوطة منتشرة عن الإسلام تقول إنه مضاد للحياة والحب والمتع الحسية المشروعة. إنها صورة تظهر الإسلام على هيئة دين متجهم كالعبوس القمطرير. وهذه الصورة لا تعبر عن حقيقة الإسلام الأول إطلاقاً، وإنما عن التشوهات التي تعرض لها بعد دخولنا في عصر الانحطاط. فالإسلام دين الإبداعات والحضارات الراقية من دمشق الأموية إلى بغداد العباسية إلى غرناطة أو قرطبة الأندلسية، إلى القاهرة الفاطمية.. إلخ. إنها حضارة لطيفة ناعمة مرهفة صاحبة ذوق رقيق في الحياة والشعر والأدب والفن. إنها أجمل حضارة في العصور القديمة عندما كانت أوروبا لا تزال همجية، فظة، جاهلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©