السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

الشاعرة التي ابتلعت القمر

الشاعرة التي ابتلعت القمر
27 يوليو 2018 23:48
محمد عبدالسميع (الشارقة) الشاعرة التي حلمت بأنّها ابتلعت القمر ذات طفولة، ها هو القمر اليوم يودّعها بعد أن فتحت له كلّ هذه الآفاق الواسعة، ومدّته بكلّ أسباب العذوبة، وأنارت له كلّ الشرفات التي كانت في استقباله، منذ اللحظة التي جعلت فيها الصحراء أمّاً رؤوماً للرومانسيّة والحُلُم، لدرجة أنّ هذا القمر عشق الرمال وانكسر على كثبانها وطيوفها، بل واستضاء كثيراً بإبداعات الشاعرة الإماراتيّة عوشة بنت خليفة السّويدي، التي ودّعها جمهور الشعر النبطي، وهم يكفكفون دموع القمر الذي كان فأل إبداع ومسيرة كبيرة للشاعرة التي شهدت مراحل تطور الشعر في بلدها والمنطقة، ودخلت العقد التاسع من عمرها بسنوات، منذ أن سكنها في الثانية عشرة من عمرها، لتصبح نابغةً من نوابغ الشعر النبطيّ في الإمارات. مزيج عبقري واللافت في شعر السويدي، هو هذا المزج العبقريّ بين مفردتين، ظنّهما كثير من الناس متضادتين، وهما المفردة القديمة والمعنى العذب، فكأننا أمام صخر يتشقق لوردةٍ طلعت منه، ولذلك فقد احترمها كلّ من قرأ لها، أو استمع إلى معزوفاتها عالية المزاج على دندنات الشاعر البدوي ميحد حمد، في «هبّ شرتا»، هذه القصيدة السينيّة، بكلّ ما يحمله هذا الحرف من موسيقى، خصوصاً في تجاور المموسق من الألفاظ، وكذلك في قصيدة «سقى الله دارنا» الرائعة التي حملت أخيلةً ومقارناتٍ وانسجاماً بلغ حدّ اللافصل بين الشاعرة والمكان. وتمتاز «هبّ شرتا» بأنّها قصيدة من صميم التراث الإماراتي الأصيل «تأنسنتْ» على ألسنة جيل سبقته الشاعرة بعقود، فكانت قلادةً مضيئةً، جمعت حبّاتها لآلئ في مدح صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهو الشاعر العبقري الذي احترم كلّ هذه الدفقات الجماليّة لديها، وهي تقول «هب شرتا لافحٍ ترسا/‏‏ من فيوي دبي نسناسه/‏‏ ياب لي في مسمعي همسا/‏‏ حرّكت قلبي من اجراسه/‏‏ لي بذوقه تنطق الخرسا/‏‏ والبليد يرجّع إحساسه/‏‏ حي قولٍ به زها الطرسا/‏‏ يشبه الديباج بالماسه/‏‏ له قوافي كالصخر ملسا/‏‏ المنقّى من حجر ماسه»، وهذه عيّنة على قوّة قصيدة جمعت بين الأضداد، في صور فنيّة عظيمة كتشبيه القوافي بالصخر الأملس، «المنقى من حجر ماسه»، وهو الشعر الذي به «البليد يرجّع إحساسه»، وهو الشعر الذي مفرداته وموسيقاه «حرّكت في قلبي أجراسه». إنّ القصيدة أعلاه نموذج من نماذج شعر مغنّى قابل لئلا يموت أو يندثر، وما ذاك إلا لتقصّد الشاعرة عوشة السويدي عناصر الإبهار الجمالي والصوتي الموسيقي، وكذلك المعنى الذي ربّما لا يستطيع شاعر أن يفيه حقّه في ألفاظ صعبة، وتلك هي عظمة الشاعرة وسرّ إعجاب الجيل اللاحق وجيل الرواد بها وجمعهم أشعارها التي تشهد بعد رحيلها اليوم على مشروعها الشعريّ الكبير. مورد لا ينتهي في قصيدة «سقى الله دارنا» التي أبدع غناءها الفنان ميحد حمد، تقول السويدي: «حدّ مثلي بات مشجنّه/‏‏ حلم طيفٍ مرّ خطّافي/‏‏ واغتنم من وجدي الونّه/‏‏ يوم كلٍّ بالكرى غافي/‏‏جرح في جاشي مخفّنه/‏‏ والخوافي ضربهم خافي/‏‏ لي محبٍّ منّي ومنّه/‏‏ حب مثل الجوهر الصّافي»،... والقصيدة طويلة ومكتنزة بصور وألفاظ غاية في السحر والبراعة والبيان، خصوصاً في نهايات الأشطر وفي القوافي، والتزام «الفاء» حرف روي، هذا الحرف بكلّ دلالته الصوتيّة المؤثرة، خصوصاً حين يُغنّى، ليثير أشجاناً، وهي الأشجان أيضاً التي أبدعها إلقاء الشاعرة الدافئ الحميم وعدم تصنّعها أو تكلّفها، وتلك ميزة تُحسب لعوشة السويدي، في أنّها تصدر شعرها لا للمناسبة فقط، وإنّما لأنّ إحساساً عالياً يتملّكها لتنطلق بدفقاتها الوجدانيّة الفخمة المنتقاة، والتي تضعنا بجو الطقس والحُلُم والعهد والوفاء والعتاب، فالمشهديّة واضحة بين زمنين إذ تقول «سقى الله دارنا عقب المحولي/‏‏ حقوق الغيث من سحبٍ سرايا/‏‏ مطرها من مخايلها هطولي/‏‏ تشع ابروقها مثل السرايا/‏‏ يزافن رعدها برقٍ شعولي/‏‏ وتسمع له دويٍّ في الخفايا». ليس عجيباً، إذن، أن يصل شعر عوشة السويدي، الخليج العربي كلّه، فتلقّب بـ «فتاة الخليج»، ولا ريب أيضاً في أن يصل شعرها إلى العرب، ولذلك فقد أطلق عليها اسم «فتاة العرب»، الشاعرة التي نعاها صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وشهد لها بالشعر بهذا المسمّى، فهي مورد لا ينتهي من الشعر والقصائد التي تأتي على السجيّة بانفعالات تلقائيّة تزيد أشعارها جمالاً، لأنها شاعرة مطبوعة، نشأت واثقةً وتألقت بلا خوف في شعر نسائي جهرت به، في ظروف قديمة كان شعر المرأة فيها شبه محرّم، فكانت مجاراتها للشعراء الكبار في الإمارات، سبباً في ثقتها العالية التي تعززت بمشاكاة مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حين أبدع قائلاً «يا ركن عود الهوى وفنّه/‏‏ شاقني جيلك بالوصافي/‏‏ طيف رويا لي امشجّنه/‏‏ شطّ بك والحقك لتلافي». قوة الحرف من قصيدة «بارد النسناس»، وهي عيّنة مهمّة أيضاً على اشتغالات الشاعرة السويدي، نقف على قوّة الحرف لديها، وهي تتخيّر «الجيم»، فرحةً في مشروع لا يعكّر صفوه أيّ أمرٍ آخر، فالجماليات الشعريّة لا ينبغي أن تُكتب حيناً وينشغل عنها الشاعر أحياناً كثيرة، ولذلك فإنّ القصديّة المسبقة للشاعرة هنا في انتخاب الحروف، لم يكن لمجرّد الإتيان بحروف غريبة أو قويّة، وإنّما لتصنع منها قلادةً مرصّعةً بالمعنى، وهنا فإنّ الانسجام يبلغ ذروته والمعنى يكتمل والصوت يعلو حتى دون أن نجهر به، وهذا سرّ خلود القصيدة، حين تقول عوشة السويدي: «بارد النّسناس بالنّفح الأريج/‏‏ ياب هن العود بالمسك العبوق/‏‏ والنّسايم لي بها الذكرى تهيج/‏‏ ما يضمّه نابض القلب الخفوق/‏‏ ينتعش به كلّ مغلولٍ عويج/‏‏ لو يجاسي من مصابه ألف عوق/‏‏ عند من في الجيل موزونه يشيج/‏‏ بالمعاني لي لها في الفنّ ذوق/‏‏ لؤلؤٍ مفروز من غزر اللّجيج/‏‏ ما يرابح فيه للطّوّاش سوق/‏‏ من وحي لالهام مبروم النّسيج/‏‏ اسفرت به شمس دنيانا شروق/‏‏ مرحبا يا بلسم الجرح الغميج/‏‏ ساري المفعول في نبض العروق/‏‏ مرحبا ترحيب من ولهٍ شفيج/‏‏ يوم عاين لي على شوفه شفوق/‏‏ أصطبح به من عقب نومي شويج/‏‏ واستلذّ اللّيل به وقت الغبوق/‏‏ يا ذرى من فيه يعتزّ الرفيج». ولعلّ هذه الأبيات من القصيدة الطويلة تعدّ نموذجاً آخر على تسلسل الشاعرة وتأنيها ورسمها صورها الشعريّة في إطار كلاسيكي، بمعنى أنّ لغة الشعر كمحتوى فني وبلاغة وتصوير وجماليات لا تتنافى مع وعاء القصيدة من الألفاظ والتراكيب التي جاءت على حرف الجيم، وهو حرف وعر وقوي ويتهيّبه الشعراء، بينما أقدمت عليه السويدي أولاً لأنّ اللهجة الإماراتيّة الأصيلة تُكتب به، فالقاف يلفظ جيماً، كما في «الرفيق» الذي هو عند الشاعرة والقدامى «الرفيج»، وكذلك الصديق، وكثير من الألفاظ، وفي هذا مشروع لغوي في ما يخص اللهجة ويضعها أمام القرّاء والباحثين بهيّةً بكل طبيعتها النقيّة القديمة، وهذا بحدّ ذاته مشروع دراسة يستمر لنقرأ من خلاله المرحلة الشعريّة في الألفاظ التي بقيت ثابتة، والمعنى أو الصورة الفنيّة التي ظلّت متألقة ومذهلة منذ ذلك العصر الذي وُلدت فيه الشاعرة حتى اليوم، وهي صور ستكون حتماً مصدر إلهام لشعراء أخلصوا كثيراً وواكبوا، فاستحقّوا أن يُشهر شعرهم اليوم على الملأ وأن يُدرس، كما تؤكّد ذلك نورة الكعبي وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة، إدراكاً منها لريادة هذه الشاعرة في مشوارها الناجح الطويل.لقد اشتغلت الشاعرة على المعنى وإبراز الصورة الشعريّة الفطرية والدفقات الحارة القويّة، فهي تشتغل على هذه المساحة الفنيّة، ببساطة لأنّها لا تستطيع أن تختار لهجةً غير لهجتها، أو تبدل ألفاظاً بألفاظ حداثيّة، أو أن تصطنع، لكنّها استطاعت أن تبدع في مساحة واسعة وقوّة فنيّة بتراكيب لفظيّة قديمة. الشاعرة التي وُلدت في المويجعي بالعين، واعتزلت الشعر في التسعينيات، رحلت أمس، فكان رحيلها خسارةً كبيرة، ليفقد الوسط الشعري الإبداعي رائدةً من روّاد الكلمة وفارسةً كبيرة قدّمت كثيراً وتظلّ كلماتها تتردد على الألسنة ما بقيت الحياة وبقي الوفاء لهؤلاء الروّاد الكبار الذين صنعوا عالماً من الإبداع لا نزال نتفيّأ ظلاله اليوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©