السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

متلازمات العنف والعنصرية

متلازمات العنف والعنصرية
7 يونيو 2012
كوّن البحث في العلاقات الإنسانية وتشابكها والذهاب عميقاً في تلمس جوانيات الكائن البشري، ولزمن طويل نسبياً، علامات لظهور أسلوب خاص، يكاد يكون صفة ملازمة لسينما شمال أوروبا الاسكندنافية، وانغمار بيرغمان نموذجاً، وليس استثناءً كذلك لارس فون ترير و”دوغماته 95”، كعينة مقلقة وثائرة على النمط السينمائي التقليدي. فالدوغما وبقية شغله عبّرت عن طريقة تفكير أكثر منها تجريب وبحث عن أشكال سينمائية جديدة. ومخرجة فيلم “في عالم أفضل” سوزان بير سليلة هذا الإرث، إليه ترجع نشأتها وطريقة تفكيرها. وتحسب لها ديناميكيتها في الذهاب أبعد منه قليلاً مختبرة ومكرسة كما في تجربتها الهوليوودية “أشياء خسرناها في النار”. لكن سوزان تبقى إبنة الغابة الباردة التي تفرض على سكانها طريقة تفكير هادئة تستلزم التأمل، وقبل كل شيء النظر الى الداخل، فالوحدانية هي نفسها طريقة عيش. ولهذا نرى القصص المنقولة عن هذة المنطقة تميل الى تقديم الانسان في عزلته الهادئة وهو يواجه تحديات يفرضها الخارج الكبير والقوي عليه، وتحديات لا تقل أهمية مثل: المصالحة مع الذات المضطربة، والبحث لمعرفة طبيعة العلاقة بين البشر أنفسهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. كل هذا، أو قسط كبير منه، نتلمسه في أفلام سوزان بير، أيضا. فالبحث عن معنى الحب وعلاقة الرجل بالمرأة، ورؤيتها للانسان الدنماركي، حضرت في فيلمها المنتسب الى حركة الدوغما “أحبك الى الأبد” (2000). ومع ان علامات تميزها كمخرجة ذات رؤية خاصة وطريقة شغل جيدة ظهرت في فيلمها الأول “فرويد يغادر البيت”، إلا ان تجربتها مع مدرسة لارس فون ترير، وشروط حركته الصعبة، أثبتت جدارتها وقدرتها على خوض مثل هذه التجارب ومعالجة موضوعها بطريقتها الخاصة. ولهذا وقف ترير خلفها وساندها. كان هذا قبل عشرين عاماً، خلالها اشتغلت، وبنفس الروح تقريباً في أفلام: “الشيء الصحيح الوحيد”، “أشياء خسرناها في النار”، “بعد حفل الزفاف”، “أخوة”. كتب الأفلام الثلاثة الأخيرة السيناريست الدنماركي أنديرس توماس ينسين واشتركت بير معه في كتابتها. لقد شكل توماس ينسين وسوزان بير ثنائياً نادراً، متقارب الرؤى، فجاءا بموضوعات وقصص تنتمي الى روحيهما الاسكندنافية. وبطريقة ما أوجدا في أفلامهما خيوطاً مشتركة وبؤر تفاعل، متشابهة تقريباً، من بينها، أو ربما أكثرها وضوحا: العائلة والحروب، ثم تنازع ذوات أبطالهم بين الانتماء الى عالمين مختلفين، أحدهما مضطرب والآخر هادئ مثل هدوء الغابة وسكونها. هذا ما لاحظناه في فيلم “بعد حفلة الزفاف” وشاهدنا كيف عانى ياكوب من نزاع وجداني حاد، فرضه الاختيار بين بقائه في الهند، ليساعد أطفال قرية فقيرة من خلال مشروع مولته الدنمارك وثري من أثريائها، وبين البقاء الى جانب ابنته والمرأة التي أحبها يوماً وكانت تشاركه أفكاره ومواقفه من العالم وصراعاته. والى حد كبير نجد هذا التنازع في “أخوة”. فالعائلة كانت مركزا أو بؤرة شهدت صراعاً وجدانياً بين أخوين، ذهب أحدهما الى أفغانستان وبقي الآخر قريباً من زوجة الأول وأطفاله. لقد تركت هذة التجربة القاسية آثارها النفسية المدمرة على بطلها الضابط ميشيل وطرحت أسئلة وجودية وسياسية عميقة، اختفت وسطحت كثيراً، للأسف، عندما نقل الإيرلندي جيم شريدان نفس الفيلم وقدمه ثانية على طريقته. وعلى الرغم من أن شريدان لم يغير كثيراً في أحداث قصته، إلا انه أفقدها روحها “الأوروبية” الميالة الى مقاربة التفاصيل ومتابعة المتغيرات التي تظهر على الانسان، بروية وبطء، لتتيح للمشاهد فرصة ملاحقة انعكاساتها النفسية على أصحاب التجربة والمحيطين بهم. وفي فيلم “في عالم أفضل” اجتمعت أغلب تلك المشتركات ثانية. فالطبيب أنتون (الممثل السويدي ميكائيل بيرشبراند) المتطوع ضمن منظمة أطباء بلا حدود وساحة عمله بلد أفريقي، قد توزع بين عمله الذي كرس له جل وقته وبين ابنه الياس (ماركوس ريغارد) الذي تركه مع والدته (الممثلة ترينه ديرهولم) في الدنمارك. لقد وصلت علاقته بزوجته الى حد الطلاق، فاختارا، كنوع من مراجعة الذات، الإنفصال المؤقت. سينعكس هذا الوضع على ولده الذي كان يتعرض للاضطهاد من بعض زملاء مدرسته. كانوا يسمونه الأرنب لكبر أسنانه الأمامية وصمته. في هذا المناخ الموزع، سارت أحداث “في عالم أفضل” بين عالمين: أحدهما يعيش الحرب الأهلية في أفريقيا حيث فعل القتل عادي ومألوف، وآخر يسكن بعيداً، آمناً وبارداً، يعاني من مشاكله الخاصة ويواجه الموت بشكل مختلف، بصخب ووحشية أقل، لكنه يحدث ذات القدر من الوجع، الذي لا أحد يعرفه مثلما عرفه ابن الثانية عشرة، كريستيان (وليام يونك نيلسين) حين فقد أمه بعد صراع طويل مع السرطان. لقد ترك موتها أثراً عميقاً في نفسه فصار عدائياً يكره أباه والعالم. سيتخذ من اليأس صديقاً يشاركه كل أفعاله العدائية والانتقامية، ضد قوة مجردة، غيبية تسببت بموت أمه دون الناس فيميل الى تجسيدها عبر “الانتقام” من والده معتقداً انه كان يتمنى موتها كرهاً، ومن كل من يسيء اليه والى صديقه. على هذين المستويين أو العالمين، اشتغلت سوزان بير، فنقلت موقفها الفلسفي والوجودي منهما، من مجتمعها الدنماركي وكل تناقضاته، على ما يعيشه أناسه، من ترف ورخاء قياساً بالعالم الآخر، الممزق والدموي، الذي يشهده الطبيب السويدي بأم عينيه. وبقدر تجنبها الوقوع في السطحية والكليشيهات الأخلاقية المتعلّقة بفكرة الانتقام أو نقيضها، أي التسامح والمغفرة، جربت سوزان بير مقاربتهما بحذر من دون الإخلال بالبناء الدرامي للفيلم. لقد تكررت كلمات “الغفران” و”العنف”، خلال مشهد ضرب الميكانيكي للطبيب السويدي في الحديقة العامة والتزام أنتون، رغم ذلك، الهدوء. ربما كان في كل هذا نوع من الموعظة أو الدعوة المسيحية: إذا صفعك أحدهم على خدك الأيمن أدر له الأيسر! ولكنها راحت، في ذات الوقت، تعمق نقيضها في الجزء الإفريقي من العالم، حيث القانون السائد هناك: العين بالعين! بحضور هذين الموقفين عمقت سوزان من قيمة عملها. لقد تجنبت السقوط في “التراجيديا” السهلة فبقيت على مسافة منها، من دون أن تترك المشاعر تفلت وتتبدد مجاناً. اشتغلت بتوازن مذهل مما رفع مستوى عملها عالياً. اللافت كثيراً طريقة سوزان بير في تحريك الكاميرا هذه المرة. فمن شاهد أفلامها السابقة يعرف كيف كانت تقرّب عدساتها كثيراً من وجه ممثليها وتركز على عيونهم لتنقل نظراتهم وما تحمل من تعابير قوية الى المشاهد. هذه المرة، ظلّت الكاميرا بعيدة نسبياً. لقد أرادت أن يكون المشهد أوسع ليعبر عن الحالة العامة وليحتوي الناس وعلاقاتهم داخله. وربما كان المناخ المنقول بين منطقتين متباعدتين قد ساعد كثيراً على نقل الإحساس باختلاف العالم الذي نعيش فيه. فبقدر ما تبدو مشاكل العائلات الدنماركية سهلة، تبدو الحياة في قسم من إفريقيا جحيماً حقيقياً. ومع هذا ثمة روابط بينهما. فما يتسبب بظهور العنف في منطقة، يدفع بمنطقة أخرى إلى العنصرية والانغلاق! لقد بدا فيلم “في عالم أفضل” كونياً في معالجته وأصيلاً في انتمائه الى مرجعية اسكندنافية عريقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©