الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الناجون.. بالعلم

الناجون.. بالعلم
18 يوليو 2018 19:48
حين يثار الحديث عن العرب والصين، يتذكر المرء أنه بشأن علاقة بين حضارتين كبيرتين، الحضارة العربية الضاربة جذورها في باطن التاريخ من جهة، وعلى الجانب الآخر الحضارة الصينية التي تعود إلى نحو خمسة آلاف عام، ولا تسبقها من الحضارات القديمة المعروفة سوى الحضارة الفرعونية التي يتراوح عمقها بين أربعة آلاف وسبعة آلاف سنة. قد يكون من غير المقبول لدى البعض التساؤل: هل يمكن للعرب أن يتعلموا من الصينيين؟ لكن الشاهد أن أفضل تعريف يمكن للمرء أن يجده للحضارة هي أنها معين بشري من الحكمة والمعرفة، صب فيه الجميع وقت الفيض، وأخذ منه البعض في أوقات النضوب، ما يعني أن الحضارات سلسلة متصلة من التجارب البشرية، وعليه يضحى من غير الواقعي تصادمها، كما ذهب عالم الاجتماع السياسي الأميركي الراحل صاموئيل هنتنجتون، بل الأدعى هو أنه مع تبادل خبراتها بين عموم البشر، يسود النفع ويعم الخير. في كتابه «طبقات الأمم» يصف أبو القاسم حامد الأندلسي (ألمرية 1029 ـ 1070 طليطلة) (419 هـ- 462 هـ) المعروف بابن صاعد الأندلسي بقوله: «وإن الصين أكثر الأمم عدداً، وأفخمها مملكة، وأوسعها داراً، وحظهم من المعرفة التي برزوا فيها عن سائر الأمم هو إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن التصورية، فهم أصبر الناس على مغالبة التجديد في الأعمال وتحسين الصنائع». أما الأديب والفيلسوف الفرنسي الأشهر فولتير (21 نوفمبر 1694- 30 مايو 1778)، فيشير إلى رسوخ هذه الحضارة بقوله: «دامت هذه الإمبراطورية الرائعة أربعة آلاف سنة، من دون أن يطرأ عليها أي تغيير يذكر في القوانين والعادات واللغة والأزياء، وطبائع وحكمة الناس». ونصل إلى المفكر والجغرافي المصري الكبير الراحل جمال حمدان الذي يذهب إلى تقرير حقيقة أن «ضخامة الصين وحجمها الساحق بسكانها الكثير، وعمقها الجغرافي الكبير الأقرب شبهاً بالمحيط، والذي تذوب فيه كل العناصر الدخيلة، وتبيد كل الضربات الخارجية، جعل الصين تمتاز بقوة امتصاص نادرة، ومكنها من هضم كل دخيل عليها، ومثلتها في جسمها الضخم في صبغة صينية مثيرة». فيض الحكمة يخلص المرء من السطور السابقة إلى أن الصين لديها الكثير الذي تعطيه، ليس للعرب فقط بل لسكان المعمورة كافة، سيما وأن لديها فيضاً من الحكمة والفلسفة، من الصنعة والأسطورة، فقد عاشت في عزلتها الطويلة، كما يقول الكاتب والمفكر المصري الدكتور جمال العربي في كتابه «الليالي الصينية/‏‏ الاقتراب من التنين»، عاشت تصنع الحضارة بعيداً عن البرابرة، ولا يتباهى الصينيون بثقافتهم، فهم يرون أن الثقافة ليست مطلباً لذاته بل هي مطلب من أجل صنع حياة أفضل. يمكن القطع أن الرؤية الصينية للفعل الثقافي باتت مطلباً مرغوباً ومحبوباً في عالمنا العربي الصاعد، ولا يغالي المرء، إن قلنا إن دولة الإمارات العربية المتحدة بشكل خاص، تتمثل في حاضرات أيامنا الرؤية والنهج الصينيين تجاه الطروحات والشروحات الثقافية، لتصبح فعل حياة مضافة، يكسبها ألقاً مضافاً إلى ألق، ويفتح أمامها أبواب التلاقي الخلاّق مع من سواها من الأمم من شرق المسكونة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حين نتحدث عن تعلم العرب من التجربة الصينية تتعدد بنا المناحي وتتفرق بنا نواصي الحديث، ما بين نجاح التجربة الصناعية، إلى الحد الذي جعل الناتج المحلي الإجمالي هو الثاني حول العالم بمقدار (12) تريليون دولار، ومرشح في القريب لأن يتجاوز الناتج الأميركي، ونجاح التجربة التنموية، وما بينهما نشوء وارتقاء جيش يحسب له الجميع ألف حساب. تجاوز الجمود لكن التجربة الصينية بقضها وقضيضها لم يكن لها أن تدرك مثل تلك النجاحات الحقيقية، من دون انفتاح على الآخر، أو من دون تلاقٍ حضاري ومعرفي يكاد يصل حد «الانثقاف» التاريخي إنْ جاز التعبير، ومن هنا يمكن للعالم العربي أن يتوقف عند تلك التجربة، ويقارب بينها وبين أحوال أمة اقرأ التي توقفت عن فعل الأمر الرباني «اقرأ» أول آية في القرآن الكريم. فعل القراءة الدائمة يجعلنا نطرح علامة استفهام جذرية في إطار البحث عن سبل البراجماتية المستنيرة بين العرب والصينيين: كيف استطاعت الصين تجاوز عقبة الجمود الأرثوذكسي السياسي والانسداد التاريخي عن ملاحقة العالم؟ الجواب نجده عند المفكر الغربي المعروف هـ. ج. كريل في مؤلفه الشائق «الفكر الصيني»، والذي يروى أنه قرابة منتصف القرن التاسع عشر سئل عالم صيني: هل يعتقد أن طلب العلم يتحقق بالتنقل في البلاد خارج الصين؟ وقد كان جوابه: «إن من كان على علم بالدراسات الصينية القديمة ليس به حاجة إلى مزيد من العلم». والثابت أن هذا الجواب ولا شك يضرب لنا مثلاً للقناعة الذاتية وعدم الرغبة في استطلاع العالم الخارجي، الأمر الذي يعتقد كثير منا أنه من سمات الصين. كانت تلك الرؤية سداً وحداً لجهة نهضة الصين الحديثة، إذ أقامت جسوراً بينها وبين العالم الخارجي، الأمر الذي سبب لها لاحقاً الكثير من المتاعب الاقتصادية والسياسية، غير أن الصين عرفت كيف تنتشل ذاتها بذاتها من تلك الكبوة، فلم تعد تجهل ثقافة الغرب أو لا تعيرها اهتماماً، بل أصبح الغرب يكاد لا يعرف شيئاً عن الصين، ولا يبذل من الجهد إلا القليل للتعرف عليها، ولهذا انقلبت الآية وبات الغرب الآن هو من يدفع ثمن جهله بالحضارة والتجربة الصينية، ومرشح لأن يدفع ثمن تلك الإشكالية. الأخلاق والقوة تجربة الصين الثقافية الرائدة، والتي يمكن للعالم العربي أن يتمثلها تمثلاً حقيقياً وبما يلائم جذوره التراثية، وتجربته الحياتية، بدأت حين شرعت أبوابها للارتحال نحو الغرب المتقدم علمياً وتكنولوجياً، وفي أجزاء كثيرة منه إنسانياً. لكنه لم يكن ارتحالاً بقصد التقليد والمضاهاة، وإنما بغرض إضافة المزيد من المعرفة البناءة، ومراكمة التجارب البشرية الناجحة، والعودة بها وصبغها بصبغة صينية، كل ذلك من دون أن تعمد إلى عزل فكر الآخر، في صغر ذات لا يليق بتاريخها الحضاري، أو إقصاء لا يتفق ورؤية المؤسس للفلسفة الصينية الحكيم كونفوشيوس. ذهب كونفوشيوس -وليت العرب يذهبون مذهبه- إلى أن هناك أوقاتاً يجب أن يلجأ فيها ذوو الأخلاق إلى القوة كي يحموا أنفسهم والعالم من أن يستعبدهم، أولئك الذين يرون أن القوة هي حجتهم الوحيدة، وضامنهم الأوحد الذي يتفقون عليه، ولكنه كان يعتبر أن القوة هي الملجأ الأخير، والأمر الذي يجب أن يكون تابعاً دائماً لا من الناحية الفكرية فحسب، بل لحقيقة ثانية لسلطة العدالة. وعلى المستوى الشخصي، يقول كونفوشيوس: «إذا ما أحست بقلبي إنني مخطئ، وجب عليّ أن أقف خائفاً، حتى لو كان عدوي أقل الناس قوة، ولكنني لو أحسست بقلبي إنني على صواب، فسأسير قدماً حتى لو كنت سأواجه آلافاً أو عشرات الآلاف». تجربة الصين الثقافية والانفتاح الذي قاد إلى حضورها القطبي العالمي الآني، لم يكن لها أن تمضي قدماً من دون نسيج اجتماعي داخلي قوي متناغم ومتماسك، ضمن روح واحدة تؤمن بتجربة مغايرة عن تجربة الغرب التاريخية ولكل منهما نجاحاته. الوجود والتناقض الحضارة الغربية مبنية، كما يعلّمنا المفكر الموسوعي الراحل أنور عبد الملك، أبو علم الاستشراق الصيني في القرن العشرين، على التفكير الأرسطي، أي على المبدأ الأحادي، أي أن الظاهرة هي الظاهرة، وخارج الظاهرة هو اللاظاهرة، والظاهرة وخارجها يتصارعان مما ينتج معه ظاهرة جديدة. بينما التفكير الشرقي الآسيوي، والذي هو كونفوشيوسي في الأساس، فيرى أن الوجود «كل»، وأن التناقض هو جوهر الوجود، ولا يوجد وجود من دون تناقض، وأنه يمكن تحريك مراكز التناقض من اليمين لليسار، أو العكس من دون استبعاد الآخرين، وهذا يتطلب مستوى عالي جداً من القدرة على التعايش والقدرة على ممارسة التحريك دون الهيمنة. كان لا بد للتجربة الصينية أن تعلو علواً كبيراً، لكن يبقى السؤال الرئيس: هل التجربة الثقافية العربية تتماهى مع تلك النجاحات الصينية؟ تخبرنا التجربة الثقافية العربية عن انقسام العرب إلى فسطاطيين ولا يزالوا منقسمين. الفريق الأول اعتقد أن الغرب يملك قولاً وفعلاً حجر الفلاسفة، وعليه فقد تماهى معه إلى أبعد حد، إذ اعتبره التجربة الناجحة، بل الجامعة المانعة لكل الخبرات الموفقة، وكأني بهذا الفريق كان يمضي مقتفياً أثر عالم السياسة الأميركي الجنسية الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما حين تحدث في شمولية عن الرأسمالية بوصفها نهاية التاريخ. هذا الفريق الثقافي العربي، يتوقف فقط عند القول بفوقية التجربة الغربية، بل ذهب إلى أبعد، حين رأى وجوب نقل تجربته بالحرف إلى العالم العربي، خاصة إذا أرادت الشعوب العربية الانتقال إلى حيز الدولة الحديثة لا الحداثية. فيما الفريق الآخر، رأى أن الخير في كل سلف وأن الشر لا يأتينا إلا من كل خلف، وأن ثوابت الأمة في العودة إلى جذورها وتراثها والتمترس وراءها، من دون إقدام على التغيير، انطلاقاً من أن الآخرين لا هم لهم إلا الانقضاض على حضارتنا وتاريخنا، وزعزعة ثوابتنا، وتغيير ذهنية أجيالنا الصاعدة، أي التسليم المطلق بنظرية المؤامرة. هل لهذا لا تزال غالبية شعوبنا العربية -إلا من رحم ربك- تدور في فضاء مفرغ، تنظر للأمام في خجل وللماضي في وجل، ليلها أرق ونهارها قلق؟ ذات مرة كتب أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو في مذكراته الخاصة التي تحمل عنوان «لا مذكرات» يقول: إن العرب لا يزالون يغطون في بئر النسيان ويسيرون في درب التيه الكبير، وساعتها غضبت منه الانتلجنسيا العربية، لكن يبدو أن هذا التيه قد صار قدراً مقدوراً في زمن منظور. يمكن للعرب أن يتعلموا من الصين ومن تجربتها الفكرية الرائدة درساً رائعاً.. القدرة على المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، والمواءمة بين التراث والحداثة، عبر أنموذج أنطولوجي عربي فريد، يستلهم خبرات الحضارة العربية وتراث العلوم والإبداعات العربية من جهة، وبين واقع حال عالم يقفز بمعدلات بات من الصعب اللحاق بها إذا انتظرنا حسم جواب المقاربة الفلسفية بين الماضي والحاضر. تبقى أبواب التعاون العربي الصيني مشرّعة لتبادل الخبرات، ذلك أن ما لدى العرب أكثر كثيراً من نفط وغاز فقط، لديهم الكثير من منظومات ومصفوفات وعلوم حضارية علّمت الغرب، يستطيعون بدورهم تقديمها للصين ولغيرها من شعوب العالم حال أحسنوا قراءة تاريخهم والبناء من فوقه.. فطرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات وليس من الآخرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©