الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سؤال الثقافة الموجع

سؤال الثقافة الموجع
27 يناير 2010 21:13
يضع التقرير الثاني للتنمية الثقافية الذي يصدر عن مؤسّسة الفكر العربي في بيروت أصبعه على جرح غائر في جسد الثقافة العربية، ويثير جملة من الأسئلة الموجعة عن الحال العربية ثقافياً والاستحقاقات المترتبة عليها تنموياً. وأعتقد أن كل من يقرأ التقرير بعناية لا قراءة العناوين والمقتطفات السريعة التي وضعت على جانبي التقرير في معظم الصفحات، يستشعر غير قليل من الخجل بسبب بؤس الحال الثقافية والتنموية التي تعكسها الأرقام، وإن حاول التقرير التخفيف من وقعها بالحديث عن “بدايات جيدة” و”إمكانيات نهوض” وغيرها من التعبيرات التي لا تفلح في تقديري في “تبييض” السواد غير القليل الذي برز واضحاً في شتى المجالات، والملفات الخمسة التي تتبعها التقرير بالتفصيل هي: المعلوماتية كرافعة للتنمية الثقافية، التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي، الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام، الإبداع، الحصاد الفكري السنوي. أرقام لا تتجمل لا يختلف اثنان على أهمية تقرير من هذا النوع، أولاً لأنه يقدم للمثقف والمختص والأهم صاحب القرار العربي صورة جادة للثقافة العربية يمكنه الاستناد إليها في وضع الخطط ورسم السياسات، وثانياً لأنه يعتمد في ثلاثة من محاوره على الأقل على بيانات وإحصاءات وأرقام وهذه هي “كعب إخيل” أو العملة الغائبة تقريباً في العالم العربي رغم ضرورة توفرها لأي عملية نهوض قومي، فضلاً عن إسباغها نوعاً من المصداقية والحياد على ما جاء في التقرير، فالأرقام لا تكذب ولا تتجمل. بيد أن أهم ميزات هذا التقرير، في تقديري، هو كشفه للتباينات والاختلافات العميقة بين الدول العربية في أكثر من مجال، وإظهاره أن الفارق التقني ومن ثم المعرفي يتسع وبوتائر عالية بين الدول العربية التي ستنقسم إذا ما سارت الأمور على نفس المنوال في السنوات المقبلة، إلى دول متخلفة وأخرى متقدمة، إلى شمال وجنوب ليس بالمعنى الجغرافي بل بالمعنى العلمي والحضاري، مما يعني أن ثمة فجوة معرفية ليس فقط بين العرب والعالم بل بين العرب أنفسهم حيث يجري فرز أو تمايز ثقافي سوف تكون له مخرجاته القاسية في السنوات المقبلة، لا سيما في ظل التنامي الكبير لدور التقنية على الصعيد الثقافي. ففي مجال التقنية واستخدامها نجد أن المجتمعات التي سجّلت تقدماً فعلياً على صعيد حرية الوصول إلى المعلومات وتداولها، هي نفسها التي سجّلت تقدماً في توظيف تقنية المعلومات كأداة من أدوات التنمية الثقافية (رغم أنه تقدم طفيف جداً وبالكاد يلحظ)، وهي نتيجة يشير إليها التقرير من دون أن يفصِّل ماذا تعني ولا ما هي مدلولاتها ولا تبعاتها المستقبلية. كما برز التفاوت الشاسع مرة أخرى في ملف التعليم ( لجهة الإنفاق على التعليم)، أما من حيث الجودة والمخرجات التعليمية فمن الواضح أن التعليم العربي مأزوم. ويطرح رجحان الكفة في هذين الملفين تحديداً لصالح دول الخليج العربي، أسئلة أساسية عن دور المال والتقنية في التنمية الثقافية، وعن الخطط والسياسات التي ينبغي اتباعها لاستخدام الموارد المالية في التنمية الثقافية من جهة، ويرسم سؤالاً كبيراً عن مصير فكرة مثل (التكامل العربي) وضرورة مراجعة وإعادة النظر في أكثر من مقولة ثقافية سائدة من جهة ثانية، كما يلقي عبئاً حقيقياً على الدول الأقل حضوراً في عالم المعلوماتية لتحاول اللحاق بالركب. بعد هذين الملفين يتوقف التفاوت (وهو على كل حال تفاوت على مستوى الكم لا النوع)، وتقترب المسافات لنصبح متقاربين في ضآلة الإسهام في التقنية العالمية ونغدو (كلنا في الهمِّ عرب) في مجال الإبداع، فيما ندور في الفلك نفسه في ملفات الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام والحصاد السنوي. فالعرب في الإجمال (مع فروق فردية غير دالة إحصائياً) بريئون براءة شبه تامة من الإسهام في براءات الاختراع، والدول التي توفرت عنها بيانات سبعة فقط هي: الكويت، السعودية، الإمارات، الأردن، مصر، سوريا والمغرب، يبلغ المتوسط العام لعدد البراءات فيها أقل من براءة اختراع واحدة (0.59 براءة لكل مليون نسمة) وليس في الجو ما ينبئ أن الدول التي لم تصدر بيانات أفضل حالاً. والاستثناء الوحيد هو الكويت التي جاءت في مقدمة الدول العربية من حيث براءات الاختراع القابلة للتطبيق (2.25) وتحتل المركز 37 عالمياً في معدل براءات الاختراع. رغم ذلك، ثمة ما يفرح في التقرير، فالإمارات حسب المعطيات المتعلقة بملف “المعلوماتية كرافعة للتنمية الثقافية” تفوّقت في أكثر من مؤشر، حيث احتلت المركز الأول عربياً والمركز الـ 17 عالمياً وفقاً لمؤشر انتشار تقنية المعلومات والاتصالات في المكاتب والمدارس والدوائر الحكومية وأعداد المشتركين. وفي مؤشر حماية الملكية الفكرية جاءت الإمارات الأولى عربياً وفي المركز الـ 24 عالمياً. كما احتلت المركز الأول عربياً والخامس دولياً طبقاً للمؤشرات الخاصة بمستوى تقنيات المعلومات والاتصالات في قائمة أولويات الحكومات العربية. كما جاءت السعودية في المركز الأول عربياً والسابع عالمياً وفقاً لمؤشر القدرة على الإبداع والابتكار. وجاءت قطر الأولى عربياً والـ16 عالمياً في مؤشر جودة النظام التعليمي وقدرته على دعم احتياجات التنمية. واحتلت تونس المركز الأول عربياً والـ28 عالمياً في مؤشر مدى إقبال الشركات والمؤسسات داخل الدولة على تمويل البحوث، والمغرب الأولى عربياً والـ34 عالمياً في مؤشر نسبة صادرات تقنيات المعلومات والاتصالات. ويمكن للقارئ أن يتبين حجم الفجوة الرقمية التي تعيشها الدول العربية على مستوى البنية المعلوماتية، رغم المؤشرات الإيجابية (كمياً) إذا ما نظرنا إلى قضية المعلوماتية (نوعياً)، وتتبعنا التراجع في المكانة العالمية مع التفوق عربياً. فمن حيث الكم تضمن الملف من الأرقام ما يثير التفاؤل أحياناً، ويستثير القلق أحياناً أخرى، حسب ما يقول الأمين العام للمؤسسة الدكتور سليمان عبد المنعم في مقدمة التقرير، فدول المجلس مع تونس قطعت، وفقاً لما تثبته الأرقام الموثقة، شوطاً بعيداً على طريق تكريس مجتمع المعلومات (احتلت هذه الدول أحد المراكز العشرة الأولى عالمياً في أحد عشر مؤشراً من مؤشرات تقنية المعلومات) لكن وفي المقابل فإن موقعاً عربياً واحداً فقط دخل قائمة المواقع الألف الأولى الأكثر ارتياداً على شبكة الإنترنت، وهو موقع سينمائي، وبخلاف مواقع السينما والموسيقى، لا يوجد موقع عربي ضمن قائمة العشرة آلاف موقع الأكثر زيارة على شبكة الإنترنت (!). ناهيك عن الضعف الشديد في حضور اللغة العربية على الشبكة، ووجود الكثير من المواقع “العربية” بلغات أجنبية، والضعف الملحوظ في دور المواقع العربية الرسمية وغير الرسمية في مجالات التعليم الإلكتروني والمكتبات الرقمية والأدب والفولكلور والآثار. ويظهر التقرير وجود 203 ملايين خط هاتفي (محمول وثابت) في العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه 342 مليون نسمة، ويستخدم 55 مليون شخص الإنترنت بصورة أو بأخرى، لكن ما يصدم العقل ويؤلم القلب أن عشرة من كل مائة عربي يملكون جهاز كمبيوتر (!). الأقل حظاً ولا يبدو التعليم أفضل حالاً من حيث الجودة والمخرجات التعليمية، وواقع البحث العلمي، خاصة في التعليم العالي. وإذا كان حجم الإنفاق الحكومي السنوي على الطالب معياراً للجودة التعليمية فإن الأرقام ترسم صورة مرعبة لتردي الواقع التعليمي في الدول العربية سواء تلك التي تنفق أقل أو أكثر لأن الإنفاق في الثانية يجافي البحث العلمي، الأقل حظاً، والذي لا يحصل سوى على نسبة ضئيلة جداً من مجمل الميزانية: (800 دولار في كل من مصر والأردن وسوريا والمغرب. 1.800 دولار في لبنان وتونس. 8.000 دولار في السعودية. في حين يصل في كل من إسرائيل وفرنسا إلى أكثر من 10.000 دولار، وفي الولايات المتحدة الأميركية يبلغ 22.000 دولار). ويطرح التقرير نموذج “الوقفيات” الجامعية كبديل مناسب أثبت جدواه في دول عديدة، ويلفت إلى أن مصطلح “الوقف” المعروف في الثقافات الأجنبية يستمد مصدره التاريخي من اللغة العربية بينما يبدو دور الوقفيات التعليمية في عالمنا العربي أقل بكثير من دورها في المجتمعات الغربية. علاقة ملتبسة “الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام” هو القضية التي تتبعها ملف الإعلام مستعرضاً في البداية أهمية الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام والأهداف المتوخاة من تحليله. ودرس التقرير هذا الخطاب في الصحافة العربية متتبعاً مستويات اهتمام الجرائد اليومية العربية بالصفحات الثقافية، وخصائص المضمون الصحفي بخطاب المجلات الثقافية العربية والقضايا الإشكالية المركزية داخل خطاب هذه المجلات، ثم الخطاب الثقافي في الفضائيات العربية. وأكد التقرير أن خطاب العلاقة بالآخر “الغربي” يبدو مجللاً بالتبجيل والاحترام خصوصاً في ما يتعلق بتقديره للعلم والعلماء، لكن هذا الخطاب قد يأخذ منحى ناقداً للآخر الغربي، خصوصاً الأميركي، منطلقاً من أطروحة “سيطرة المادية على الحياة في الغرب”، ومن أن التنوع السياسي أو العرقي في الغرب يعكس في جوهره حالة اقتصادية تعتمد على الطبقية الشديدة. ويشير التقرير إلى أن العلاقة ما بين الثقافة والسلطة في العالم العربي شديدة الالتباس، وأن تجذر الهزيمة في الواقع العربي دفع المثقف إلى اتخاذ واحد من ثلاثة طرق: الالتحاق بالسلطة، أو الهرب إلى الغرب أو البقاء هنا والحفاظ على الحد الأدنى من قيمه وارتباطه بناسه. ويخلص التقرير الى عدد من النتائج اللافتة في المجال الإعلامي خاصة على مستوى المضامين الثقافية في القنوات والبرامج التليفزيونية، خصوصاً أنه استند في هذا الملف إلى دراسات وبحوث سابقة تصدت للموضوع، ما جعل النتائج أكثر قابلية للتعميم خلافاً للصحف والمجلات التي بدت عينة محدودة (4 أعداد من كل مجلة من المجلات المبحوثة، والأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2008 بالنسبة للصفحات الثقافية) يصعب تعميم النتائج المترتبة على تحليل مضمونها. الإبداع الملف الإبداعي توزع على الأدب والمسرح والسينما، وأثار التقرير في معالجته للإبداع الروائي أسئلة الرواية وهمومها وتحولات الواقع العربي وتناقضاته، ومحاولة عدد من الروايات استعادة الماضي، والشعر وتراجعه لدى القراء، خاصة على صعيد شراء الدواوين والمجموعات الشعرية، وترجمة الأعمال الأدبية العربية، والمعايير الأدبية التي يخضع لها اختيار الروايات التي تترجم إلى لغات أجنبية. أما ملف الإبداع السينمائي والدرامي فحمل الكثير من التساؤلات حول المهرجانات السينمائية العربية، لا سيما مفارقة التمويل السخي لبعض المهرجانات السينمائية من دون اهتمام مقابل بتمويل حركة إنتاجية أو دعم المبدعين في بعض البلدان. ولم يخل ملف الإبداع المسرحي من إثارة التساؤل حول ضعف البنى الثقافية التي تشرّع لوجود المسرح العربي سواء فيما يتعلق بالمنظومات الإدارية والمالية أم بسبب إشكالية الرقابة على حرية التعبير. لكن هذا الملف خلا من الإحصاءات والبيانات وإن ساهمت بعض الجداول في توضيح الصورة وإلقاء ضوء توثيقي على جوانبها المختلفة. عينة البحث تكونت العينة التي بحثها التقرير في ملف الإعلام من 36 صحيفة يومية من 12 دولة عربية هي: (المملكة العربية السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، الأردن، قطر، الجزائر، سلطنة عمان، سوريا، لبنان، البحرين، مصر، اليمن)، وعلى صعيد المجلات اختيرت (الهلال المصرية، الآداب اللبنانية، العربي الكويتية، الصحيفة الثقافية المغربية، فوانيس وهي مجلة إلكترونية)، وبالنسبة للفضائيات اختيرت (قناة النيل الثقافية، قنوات الثقافة الشعبية السعودية، برنامج الصالون الثقافي بالقناة المغربية). وفي المتن أو الجدول تحدث التقرير عن الصفحات الثقافية في هذه الصحف ما عدا صحيفة الرأي الأردنية والنهار اللبنانية التي اختار منهما الملحق الثقافي، في حين جاءت صحيفتا الاتحاد والخليج الإماراتيتان على سبيل المثال للحصر خلواً من ملحقيهما الثقافي. وإذا كان تجاوز صحيفة البيان مفهوماً باعتبارها من المؤسسات الإعلامية الراعية للتقرير فإن اختيار الاتحاد والخليج من بين الصحف المبحوثة ثم تجاوز ملحقيها الثقافيين يستوقف النظر، ويصعب نسبته الى النسيان أو القول إنه “سقط سهواً”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©