الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كثير من التسامح

27 يناير 2010 21:10
كان شعر بشار بن برد يمتاز بجاذبيته وقربه من أفهام السامعين في عصره. لا يتطلب من قارئه ثقافة لغوية أو معرفة فلسفية، غير أنه يتأمل بعفويته بعض التأملات اللافتة في الزمن وحوادثه، من ذلك قوله: دعيني أُصِبْ من متعةٍ بعد رقدة تكاد لها نفس الشفيق تزول ولما رأيت الدار وحشًا بها المها ترود وخيطان النعام تجول ذكرت بها عينا، وقلت لصاحبي كأن لم يكن ما كان، حين نرول بدا لِي أن الدهر يقدح في الصفا وأن بقائي حيث شبت قليل أقول لقلبي، وهو يرنو إلى الصِّبا علام التصابي والحوادث غول لعلك ترجو أم تعيش مُخلَّدا أبى ذاك شبان لنا وكهول فمع أنه يبدأ كلامه على طريقة طرفة بن العبد في الدعوة إلى انتهاز الملذات قبل فوات الأوان، فإنه لا يلبث أن يطل بمنظوره الشخصي الرصين، مستعيرا مقولات المبصرين، ليتحدث عن رؤيته لعيون المها وتذكره لعين محبوبته، وتأمله لهذه المشاهد التي يذهب أثرها كأنه لم يكن من قبل، وخطابه لصاحبه كأنه يحدث نفسه عن الزمن ومحوه، والدهر وتقلباته، والبقاء المهدد دائما بالعدم، مما يجعله يلتفت محدثا قلبه هذه المرة لمقاومة أشواقه إلى الصبا بأنه لا جدوى من التصابي في غير موعده، فالحوادث تغتال أحلامنا، والأيام تنبئنا بأنه ليس هناك مخلد يغلب الموت من الشبان أو الكهول فهذه هي الحكمة القريبة المنال اللاذعة الأثر الصادقة الوقع تجود بها قريحة بشار بتلقائية وجمال. لكنه مع ذلك رفيق بنفسه، لا يقسو عليها، ولا يكف عن مطالبة الآخرين بأن يرفقوا بأنفسهم وبغيرهم، فيقول بنبرة أسيانة مفعمة بالصدق: إذا كان ذوّاقًا أخوك من الهـــوى توجهه في كا أوْبٍ ركائبهُ فخلّ له وجه الطريق، ولا تكن مطية رحالٍ كثير مذاهبه أخوك الذي إن رِبْتَهُ قال إنما أربتَ وإن عاتبته لان جانبهُ إذا كنت في كل الأمور معاتبًا صديقك لم تلق الذي تعاتبه فعش واحدا أو صِل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة وجانبهُ إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه فإذا كان قد كتب على بشار وأمثاله أن يكون عاجزا بنفسه قادرا بغيره، تصليه عاهة نيران الشك والتوجس فيمن يحيطون به، فإنه لا يملك إلا أن يدعو نفسه ويدعونا معه لأقصى درجة من الرفق والتسامح مع الغير، خاصة عندما يكونوا من “ذواقي الهوى” ومرهفي الحس والمزاج، فأنت مع كل الأخوان والأصدقاء حيال خيارين؛ إما أن تستغني عنهم جميعا فلا أحد معصوم من الزلل، وإما أن تتسامح معهم وتلتمس لهم الأعذار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©