الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل من زمن الغوص.. والنفط

رجل من زمن الغوص.. والنفط
27 يناير 2010 21:05
بعض الرجال يبقون أحياء رغم الموت الذي يغيبهم عنا، ولا يستطيع الزمن أن يمسحهم من ذاكرة الوطن، ولا يمكنه أن يدفن ذكراهم تحت ركام السنين والأيام. من هؤلاء الرجال، عبدالله بن أحمد العتيبة، أكبر أولاد أحمد بن خلف العتيبة الذي وقّع شاهدا على أول اتفاقية أعطيت بموجبها شركة تطوير بترول الساحل المتهادن امتيازاً للنفط في المناطق البرية إلى جانب توقيع الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم الإمارة في الحادي عشر من يناير 1939، وكان الرجل من كبار تجار الإمارة قبل النفط ومن المقربين إلى الحاكم بسبب الدعم المالي الذي كان يقدمه من جهة وكونه والد زوجة الحاكم من جهة أخرى. أول لقاء بيني وبين عبد الله بن أحمد العتيبة يعود إلى مايو 1971 وفي مجلس المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. فقد كان عبدالله بن أحمد رحمه الله مرافقاً شبه دائم للقائد زايد “رحمه الله” على مر السنوات التي سبقت وفاته. أثار الرجل اهتمامي لسببين. الأول: قربه من القائد. والثاني: ثقافته الواسعة وحفظه للشعر العربي الفصيح وخاصة شعر المتنبي وعنترة بن شداد. وحينما كان الشيخ زايد رحمه الله يريد أن يتأكد من بيت قديم من الشعر، كان ينظر إلى عبد الله بن أحمد الذي يسرع بذكر البيت وما يليه بإلقاء واثق ودون أي لحن، مما يؤكد مدى ما وصل إليه من ثقافة ومن حفظ. وحينما بدأت ألتقي به في مجلس ابن أخيه الدكتور مانع العتيبة توثقت الصداقة بيننا حيث كنا نعزف معا على آلة واحدة هي ربابة الشعر. فوجئت وأنا أستمع إلى إجاباته عن أسئلتي بأنه ديوان شفهي للمتنبي ولعنترة، فلا أبدأ بذكر البيت الأول من أي قصيدة للشاعرين إلا وأجده يكمل الأبيات التي تلي بمنتهى الثقة بالنفس ودون تأتأة أو تعثر أو حتى محاولة تذكر بسبب النسيان. حدثني رحمه الله عن أيام ما قبل النفط، عن زمن الغوص حيث كان طواشا، يتاجر باللؤلؤ ويشرف على إدارة أعمال والده أحمد بن خلف، من كلماته التي لا ولن أنساها عن تلك المرحلة قوله: ـ كنا نعيش جميعاً كأننا أسرة واحدة، لا فرق بين الحاكم وبين الرعية، مجلس الحاكم كان عاماً للجميع، وكذلك كان مجلس الوالد أحمد بن خلف، أي مواطن يستطيع أن يأتي إلى مجلس الحاكم أو الوالد أحمد يأكل ويشرب وكأنه في بيته وإن كان بحاجة للمساعدة وجدها، فالتكافل الاجتماعي كان الخيمة التي جمعت جميع المواطنين تحت سقفها وفي ظلالها، ولذلك كنا سعداء، رغم عدم توفر وسائل الراحة التي نجدها الآن، كان الماء الذي نشربه يميل إلى الملوحة ولكننا كنا نتلذذ بطعمه ونشكر الله على توفره، وكان طعامنا بسيطا ولكنه كان طيبا وكافيا للجميع، ورغم توفر فرص للعمل وحياة أفضل في دول خليجية أخرى سبقتنا إلى اكتشاف النفط إلا أننا بقينا في أرضنا وتمسكنا برمالنا القفراء وحافظنا على الوطن بالصبر على الحرمان والمحبة التي جمعتنا كلنا في وطن الحب والوفاء. لم نكن نعرف المكيفات التي تصنع البرد، ولكننا لم نضق بحر الصيف، كنا في الصيف نقيظ في المنطقة الشرقية (العين) ونقيظ يعني نقضي فترة الصيف، وأحيانا نقيظ في واحات ليوا، حيث النخيل والمياه العذبة والزراعة الطيبة. لم يكن عبد الله بن أحمد العتيبة يحب الجلوس في القاعات المكيفة، وكان يلتقي في ذلك مع الشيخ زايد رحمه الله، كانا من أعداء المكيفات، ويعتقدان أن الجلوس في ذلك الجو المبرد اصطناعياً يؤدي بالجالس إلى مختلف أنواع المرض. وبالفعل لم أكن ألاحظ أنه يضيق بالجو الحار أو الرطوبة بل العكس من ذلك يتحاشى الجلوس في الأماكن المكيفة. تابعت بشغف الحوارات التي كانت تدور بينه وبين ابن أخيه الدكتور مانع العتيبة، في تلك الحوارات كان عبد الله بن أحمد يتناول قصائد ابن أخيه بالنقد والتحليل ويقارن بينها وبين قصائد المتنبي الذي اشترك الاثنان في حبه وتقديره والاهتمام بقصائده. وكان الدكتور مانع يحب عمه عبد الله كثيرا وكانت صور هذا الحب تتجلى في الترحيب والاهتمام والاحترام الذي كان الدكتور مانع يستقبل فيه عمه عبد الله. تقدير العلم اهتم عبد الله بن أحمد العتيبة بتعليم أبنائه، وحرص على أن يكملوا جميعاً تعليمهم العالي، ولم يخيب أولاده وبناته رجاءه فيهم، فأكبر أولاده عتيبة رحمه الله وصل إلى درجة وزير، ابنته حصة عبدالله العتيبة هي سفيرة الدولة في إسبانيا، ابنته الأخرى مريم طبيبة متميزة، ولده محمد بن عبد الله العتيبة من كبار رجال الأعمال في الدولة، وصل إلى درجة عالية في التعليم. سمعته في كثير من المرات يردد: العلم يبني بيوتاً لا أساس لها والجهل يهدم بيت العز والكرم كان عبد الله بن أحمد العتيبة يرى أن خير ما فعله القائد زايد “رحمه الله” هو فتح المدارس والجامعات وفرض التعليم على أبناء وبنات دولة الإمارات العربية المتحدة. فالعمارات يمكن أن تهدم، والمال يمكن أن ينفد ولكن لا يمكن للزمن أن يقهر من تسلح بالعلم وارتكز على الإيمان بالله وتمسك بالدين الحنيف الإسلام. وكان رحمه الله مرحاً، ابتسامته تسبق كلماته، يحترم الكبير والصغير، ويرحب بالضيف في مجلسه ويسارع إلى كل عمل فيه الخير والصلاح كانت يده تعطي بسخاء وتنجد المحتاج وتسعف المصاب، محافظا بذلك على تراث آبائه وأجداده. ولذلك عاش عبد الله بن أحمد العتيبة مغموراً بالحب والاحترام من جميع أبناء وطنه، وخاصة من المرحوم الشيخ زايد ومن ولي عهده الأمين في ذلك الزمان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله. أما الدكتور مانع، فقد كان يجله ويحترمه ويحبه إلى درجة أنه كان إذا تأخر عن مجلسه أسرع هو إلى زيارته في بيته، يصغي إليه ويسترشد بآرائه وينفذ نصائحه والتي كانت دائما نصائح عم محب لابن أخيه، ومجرب حنكته الأيام وأعطته السنين الحكمة والخبرة والشجاعة. من ذلك الرجل عرفنا الكثير عن الزمن الذي عاش فيه الآباء والأجداد قبل اكتشاف النفط، ومنه أيضا حصلنا على تفاصيل هامة عن تاريخ الإمارات. ومازلت أذكر ذلك اليوم الذي جاء فيه نبأ وفاة ذلك الرجل الطيب المميز. كنا مع معالي الدكتور مانع في لندن وبالتحديد يوم العاشر من يونيو 1981 وفي فندق بريتانيا في جروفنرسكوير. وبعد مكالمة تليفونية قصيرة، تغير وجه الدكتور مانع أدركت أنه توصل بنبأ حزين شعرت أن الدموع تتوهج في عينيه دون أن تسيل كان يبكي بغير دموع وهذا أمر أنواع البكاء. رحل العم عبد الله، انتقل إلى رحمة الله. قال ذلك وتركنا في صالون جناحه لا نعرف ماذا نقول ولا ما نفعل، فنحن نعرف مدى حبه لعمه. في المساء تمت ولادة أول قصيدة رثائية نظمها الدكتور مانع وكانت لعمه عبد الله بن أحمد العتيبة، ويقول فيها: رحلت فلبيت داعي السماء إلى الخلد حيث يطيب البقاء رثيتك والقلب فيه اعتلال فقد يفرج الهم بعض الرثاء بكيتك بالقلب لا بالعيون وهذا لعمري أمر البكاء فكم ربطتنا إليك صلات تفوق التراحم في الأقـرباء عرفتك يا عم ذاك الأديب وفيك الوداد وصدق الوفاء مضيت وكنت السراج المضيء ولكن ذكراك تبقى الضياء وكنت قريبا كحبل الوريد إذا مسني ذات يوم شقاء يعز عليّ غدا أن أنادي فلا تستجيب لذاك النداء أيا عم صعب علي الفراق وما لي بفقدك هذا عزاء بعينيك كانت تنام بلادي وكنت الوساد وكنت الغطاء وكنت تقول لجيل جـديد يشيـد الحضارة يعلي البناء تمسك بتاريخ شعبك واعلم بأن الغنيمة للأوفياء وكنت تردد شعر التراث وتعطي ويحلو لديك العطاء لتربط حاضر شعبي بماض وتروي القلوب بصافي الدماء
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©