الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مصائر على حافة الغرق

مصائر على حافة الغرق
9 يوليو 2018 01:01
إبراهيم الملا يستعين المخرج الإسباني رامون سالازار في فيلمه الجديد «آلام الأحد» Sunday’s illness، المشارك مؤخراً بمهرجان ترايبيكا السينمائي، بكادرات بصرية واسعة تحاكي الطبيعة المحيطة بالفيلم حيث المياه السارحة، والغابة الممتدة على الحدود الإسبانية الفرنسية، وحيث الريح الباردة تعبر بين الأشجار والبيوت الريفية مثل طيف يعانق الجمال بسخاء ملحوظ. ولكن هذه الفسحة البصرية لن تكون سوى متاهة خدّاعة ومراوغة عندما تقترب الكاميرا من الشخصيتين الرئيستين بالفيلم وهما الأم أنابيل (تقوم بدورها سوزي سانشيز)، والابنة كيارا (تقوم بدورها بربارة ليني)، ذلك أن العلاقة التي تجمع بينهما لن يكون من السهل تفكيكها طوال زمن الفيلم، فهي علاقة تأسست منذ بداية انطلاق الحدث الروائي بالفيلم على سوء فهم عميق ومتشعب، وعلى صدمة وجودية عانت منها الابنة طوال ثلاثين عاماً، عندما تخلت عنها أمها فجأة ودون سابق إنذار، وتركتها مع والدها وهي في الثامنة . بعد هذا الغياب الطويل، تقتحم كيارا حياة والدتها صاحبة الحظوة الاجتماعية للطبقة المخملية، عندما تعثر على عنوانها، وبعد ارتباط الأم برجل إسباني ثري عوضاً عن زوجها الفرنسي السابق الذي لم يملأ شغفها وحواسها الظامئة أبدا لحرية لا يمكن تأطيرها بحدود ثابتة. تشترط كيارا على أمها الحضور لمنزلها القديم والبقاء معها مدة عشرة أيام، وتوقع مع محامي العائلة الثرية عقداً بعدم المطالبة مستقبلا بأية حقوق قانونية تجاه الأم، ورغم خوف زوجها الجديد من نتائج هذه المغامرة غير محسوبة العواقب، توافق الأم على مرافقة ابنتها إلى المكان الذي هجرته منذ عقود، لتميط اللثام عن نوايا ابنتها الغامضة أولًا، ولتمارس نوعاً من التطهير الذاتي ثانياً، تطهير سوف يلامس في دواخلها هذا النكران غير المبرر لعاطفة إنسانية لصيقة بكل أم مهما كانت دوافعها، ومحاولة لترميم التلف الروحي المنهدم فيها، والمكسو بالصمت والنسيان. وهناك في ذلك المكان النائي والبعيد تتشكل تلقائياً ملامح علاقة جديدة بين الطرفين، علاقة ترتفع فوق مستوى الخوف من ردّات الفعل، إلى مستوى آخر من ترتيب الفوضى الداخلية التي خلّفها الهجران المرّ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بكيارا المثقلة بالأسى والاغتراب واستعادة الذكريات الموحشة ابتداء من تلك اللحظة التي غادرت فيها الأم المنزل ولم تعد إليه أبدا، تتحدث كيارا عن يوم الأحد الحزين الذي انتظرت فيه قرب النافذة عودة والدتها، فوسط هذه المتلازمة الأسبوعية اللعينة، ظلت كيارا تدور في حلقة مفرغة من الكآبة، ومن آلام باتت تتسع يوماً بعد آخر، وسنة بعد أخرى، تروي كيارا في منزل الذكريات الخاوية هذا، ما لحق بها من جروح غير مرئية وغير قابلة للشفاء أيضاً، وتجيبها الأم باعتذارات ستظل واهية بالنسبة لطفلة كانت في الثامنة من عمرها، ولا يمكن لها تفسير الانفصال العنيف والممزّق لكل أمل في عودة حياتها الطبيعية لسيرتها الأولى. تستند هذه النوعية من الأفلام السيكولوجية على عنصر مهم بالأداء التمثيلي وهو «دراسة الشخصية»، لأن بؤرة الأحداث فيها تنطلق من الشخصيات الرئيسية وتحوم حولها ثم تعود إليها دون أن تكون هناك حاجة للاستعانة بأحداث خارجية تعمل على تطوير الحالة المرتبطة بهذه الشخصيات أو نقلها لمسار جديد ومختلف مع تصاعد الحبكة، لا شيء طارئ هنا، ولا شيء مقحم، تتحكم كل من كيارا وأنابيل في الفواصل الروائية للفيلم وفي الزخم الأدائي ، ولن تكون الهوامش المحيطة بالشخصيات المتوترة والقلقة، سوى أطياف وأشباح لتاريخ فردي متأزم حتى النخاع، تاريخ يغدو شبيها برحلة لا نهاية لها في نفق اللاوعي، فكل ما هو متجمّد بات يسيل، وكل ما هو مسكوت عنه بات اعترافا، وكل مقفل بات مفتوحا على ندم واسع لا يمكن رتقه أو تجاوزه. وعندما تضيق زوايا التصوير في الفيلم كي تقترب بهدوء وتمهّل تجاه ملامح هاتين الشخصيتين، نكتشف أن عاطفة الأمومة غير التقليدية، تتحول تدريجيا لعلاقة صداقة متأخرة، علاقة تعويضية بالأحرى، ولكنها تبحث في ذات الوقت عن حل للمأزق الكبير لهذا اللقاء الأخير الموعود بالريبة والمفاجآت الصادمة. تكتشف الأم قبل انتهاء المدة المتفق عليها، أن ابنتها مصابة بمرض خطير وأن بقائها على قيد الحياة هو مجرد وقت لا فكاك من تبعاته، وقت يعبر سريعا وعليهما أن ينهيا المسألة قبل أن يخيم صمت الموت على أي حوار آخر بينهما، تهمس كيارا في أذن والدتها بطريقة الانتحار الذي اختارته لإنهاء حياتها قبل مواجهاتها الحقيقية والمرعبة مع الموت، وتلحّ على الأم لتنفيذ طلبها رغم غرابته، مطلب سوف يكشفه الفيلم في النهاية بطريقة شعائرية وطقوسية لا تخلو من عذوبة وسحر، بغض النظر عن الأسلوب المأساوي الذي اتخذه المخرج لصياغة اللحظة الفارقة في خاتمة الفيلم. فيلم «آلام الأحد» من الأعمال السينمائية التي يمكن وصفها بالداكنة على صعيد المحتوى والشكل وبيئة التصوير، ولكنها تتضمن إشراقات متفردة على مستوى البنية الروائية للقصة التي كتبها المخرج نفسه، وتعامل معها بصريا ككتلة مشهدية تمتزج فيها الرقّة الخارجية بالتوحّش الداخلي، وهشاشة الزمن بصلابة الذاكرة، وما يترتب على هذا العناق الدموي بين النقائض، من جموح مستميت لمحاكمة الذات والآخر، وصولا للطهرانية المنشودة وسط غابة من الذنوب والخطايا، تصدّرها حالات وقصص ومصائر منذورة للتلاشي في سديم أقدارها الغامضة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©