الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرواح حرّة

أرواح حرّة
5 أكتوبر 2016 12:03
د.حورية الظل عرف المتصوفة الانفتاح الديني والفكري، وتميزوا بالتسامح ومحبة الآخر وقبوله كما هو لا كما يجب أن يكون، وسر ذلك حسهم الجمالي المرهف وعشقهم المتأبد للحرية، وبذلك يكون الفكر الصوفي مقاوماً للتعصب ونابذاً له، كما أن له تأثيراً كبيراً في الفنون والأدب كالشعر والخط والعمارة والزخرفة والموسيقى. فكيف أثر التصوف في الفن، وهل ذلك التأثير ساهم في رقي الإنسان المسلم وفي عظمة الحضارة الإسلامية؟ الفن تعبير عن الجمال وترجمة له ووسيلة لتحرير الروح وتحررها، والله جميل يحب الجمال كما جاء في الحديث الشريف، وتأثراً بالفكر الصوفي أدرك الفنان المسلم أنه ينقل صورة أبدعها الخالق في الكون، ويؤكد ذلك المفكر السوداني الراحل أحمد عبدالعال بقوله: «التصوف الإسلامي وحده هو الذي يشكِّل مادة علم الجمال في الإسلام، وأعني بذلك التصوف عند كبار الأئمة المؤسسين من الذين تحققوا بمقولاتهم وأفكارهم، وذلك كأساس لوحدة الشعور والفكر والقول والعمل، وما ذلك إلّا لأن المتصوفة أقاموا الجمال في البنية الحية في الإنسان، باعتبار أن الفن هو تجاوز المعتاد من رؤية الحياة لسبر حقائق الوجود الذي يفضي إلى القرب الأتم من صانعه جل جلاله». واهتمام المتصوفة بالفن ترجمة لوعيهم الأكيد باعتباره وسيلة من وسائل تجلية الجمال ونشر المحبة والتسامح والرقي والانتصار لإنسانية الإنسان والإسهام في شحذ جانب الخير فيه وجعله ينتفع بالجمالي والأخلاقي ويصل حسب «إيفا ميروفيتش» إلى: «الكمال الروحي»، لذلك يرى «كولن ولسن» في كتابه «الشعر والصوفية» بأن الفن والتصوف هدفهما: «إعادة الروح إلى عالم تتآكل فيه روحانية الإنسان»، والجانب الروحي للفن لدى المتصوفة وسيلة معتبرة لتطهير الإنسان وتحرر الروح لتحقيق القرب من الحضرة الإلهية، ويتحقق ذلك عن طريق فك قيود «الأنا» الكاذبة التي تجعل الإنسان يحس من خلالها بأنه متميز ومتفرد عن الآخرين لكن تحرره من تلك «الأنا» بمنحه القدرة على أن يفجر «أناه» الفعلية والخالدة والتي هي أساس كل جمال. وبذلك تكون الفنون الإسلامية قد اغترفت من ينابيع التصوف، لأن المتصوفة احتفوا بالجمال، وعدوه من القيم العليا التي تتجاوز المادي المحسوس، وحسب محمود إسماعيل فإن: «دور المتصوفة في إثراء الفن الإسلامي غلب على موقف الفقهاء الذين حرموا التصوير». أبعاد روحيّةويتمظهر أثر التصوف في الفنون أيضاً من خلال منح الجمالية الإسلامية ذلك البعد الغيبي والروحي المحيَّد عن الجمالية الوضعية ذات المنظور المادي والحسي، لذلك جنح الفنان المسلم من خلال فنه، لتصوف يبتعد من خلاله عما هو عرضي ومتحقق في الواقع، إلى وحدة أسلوبية عُدت جوهر هذا الفن، فجرد الأشياء من قيمتها بنقلها إلى الفن، وعكف على إبراز قيمة الأشكال، بدل التركيز على مظهرها الخارجي ومضامينها، لأن قيمة العمل الفني وجماليته، تتوضح من خلال جوهره وليس عرضيته، وأيضاً من خلال تلك اللمسة الروحية التي يضفيها عليه الفنان، فتتجاوب معها النفس، وتشعر بانتمائها إلى عوالم روحانية، توحي بالسلام والطمأنينة، ومن ثم فإن جمالية الفن الإسلامي تدرك حسياً وروحياً، أو جمال يدركه البصر وآخر تدركه البصيرة، ويفضل الغزالي الجمال المدرك بواسطة البصيرة لأن: «البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر» حسب تعبيره. وما يمكن تأكيده أن النَّفَس الصوفي يسري في الفنون الإسلامية وهو الأمر الذي يمنح الأعمال الفنية نورانيتها فترقى لما هو روحي ومطلق، وحسب الناقد التونسي الحبيب بيدة فإن: «الجوهر الذي انبنى عليه الفن في الإسلام باعتباره معنى خفياً وليس شكلاً ظاهرياً، ففي مفاهيم الصوفية ومفكري الإسلام، الفن صنعة تحاكي الخلق في حركته وانتظامه وانسجامه ولا تحاكي بالضرورة الطبيعة الظاهرية كما هو عند فلاسفة اليونان». والفنون التي تأثرت بالتصوف أسهمت بدرجة عالية في الرقي بذوق المتلقي، ليطرح سؤالاً هو: كيف؟ وليس ماذا؟ فكيف يتم تلقي هذه الفنون هو الهدف الأسمى منها، حيث يكون هناك تواصل بين المتلقي والفن، فتغيب اللغة والعين المبصرة ليفسحا المجال لتوحد المتلقي مع روح الفن الذي يمثل الكمال، وهنا يتمظهر الأثر الصوفي، حيث غياب الموضوع وحضور الشكل المجرد بروحيته وسموه. فنون تأثرت بالتصوف أثر التصوف في الفنون الإسلامية واضح ويتمظهر ذلك في العمارة والزخرفة والخط والموسيقى والشعر والرقص، فما المميزات التي طبعتها كتأكيد تأثرها بالرؤى الصوفية؟ تعد الزخرفة من أرقى الفنون الإسلامية، ونتيجة للجمالية الصوفية انزاح الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة وللموجودات، في أعماله الزخرفية، فجردها من شكلها الطبيعي حتى لا توحي بالفناء، ونقلها بصورة مخالفة، وحورها لأشكال هندسية تمنح شعوراً بالخلود، معتمداً على العلوم وعلى عقيدته وعلى مشاعره الروحية والإيمانية. والزخارف والخطوط والأشكال الهندسية نستشعر فيها قيم التصوف المتمثلة في البساطة والتواضع ونكران الذات، لذلك تعد الزخرفة من أرقى ما وصل إليه التجريد في الفن الإسلامي، ويؤكد «كلود كاهن» المستشرق الفرنسي المتخصص في التاريخ الإسلامي أثر التصوف في الزخرفة الإسلامية بقوله: «إن فن الزخرفة الإسلامية يؤكد تداخل الذوق الصوفي والذوق الجمالي، إن التكرار في الزخرفة يؤكد الوجود الإلهي المتجلي في الكون». ويعد التكرار الصفة الأساسية للزخرفة الإسلامية، حيث نجد معاودة الأشكال والخطوط، انطلاقاً من النقطة، ولا يتم الأمر عشوائياً، وإنما وفق نظام هندسي رياضي دقيق، فيمنح ذلك الزخارف إيقاعاً صادراً عن حركة زمنية تترجم الاستمرارية والديمومة لهذه الخطوط والأشكال التي توحي بحركة لا نهائية كما هي حركة الكون، فتنمو وتتراكب وتظل مرتبطة بالمركز أو النقطة، تدور حولها إلى أن يصل بها الفنان المسلم إلى حدود الاكتمال. كما تُبرز أحد أسرار أصول التصوف وهي: «في الوحدة كثرة، وفي الكثرة وحدة»، أي أن كثرة الصور تؤدي إلى وحدة الجوهر، كما يتحقق الهدف الجمالي من تلك الأعمال الزخرفية، والذي سبق إلى توضيحه، محي الدين بن عربي في كتابه (إنشاء الدوائر) بقوله: «إن المعنى إذا أدخل في قالب الصورة والشكل تعشق به الحس وصار له فرجة يتفرج عليها ويتنزه فيها فيؤديه ذلك إلى تحقيق ما نصب له ذلك الشكل وجسدت له تلك الصورة». وبالنسبة إلى فن الخط فقد تأثر أيضاً بالتصوف، فوصل الخطاطون في ظل التربية الصوفية إلى درجة عليا من الإتقان، واعتبر الخط حسب أبو حيان التوحيدي: «هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية»، فامتلك تبعاً لذلك قيمة جمالية وروحية جعلت منه «أيقونة العرب والمسلمين» حسب الباحث الغربي «تيتوس بوركهارت»، فأضحى حضوره مرتبطاً بالأماكن الأكثر قدسية، كصفحات المصاحف، وجدران المساجد، ونجد في التراث الصوفي احتفاء كبيراً بالحرف، ومن الصوفيين الذين اهتموا به وتناولوه بالدراسة والتحليل، هناك ابن عربي، والحلاج، وعبدالكريم الجيلي، والبسطامي وغيرهم كثير، فالحرف عندهم ليس شكلاً تجريدياً يخطه القلم، أو دالاً ومدلولاً، وإنما هو سر، وصورة توحي بما وراءها، فشكْلُ الحرف له باطن، ويحجب خلفه سراً دفيناً، وهذا السر حسب الصوفية مكنون في النقط، وذلك ما جعل الخطاطين يطورون الخط ويجودونه مستفيدين من المبادئ الصوفية التي تهتم بالباطن على حساب الظاهر، فامتلك الحرف عند الخطاطين ثراء روحياً وجمالياً وارتقى في ظل التصوف ليصبح فناً من الفنون. أما بالنسبة إلى الموسيقى فقد ارتبطت أيضاً بالتصوف لطبيعتها في التأثير في القلوب، حيث جعلها المتصوفة مصاحبة لأذكارهم ورقصهم للبلوغ بالمتلقي النشوة الروحية، فالتصوف وظف الموسيقى لتغذية الروح والسمو بالنفس والرقي بها إلى ما هو روحاني وتحييدها عما هو مادي وجعْل قلب سامعها يفيض بوجد يرقى به ويحفزه على الخشوع والتقرب من الله تعالى بالعبادة والذكر، ومن وسائل نشر الطرق الصوفية الموسيقى وإنشاد الشعر. واستخدم المتصوفة الغناء ورافقوه بالدفوف أو الناي، واعتبروا باقي الآلات الموسيقية غير صالحة للمساعدة على إيصال المتلقي للحظة الروحية، ومن المتصوفة الذين عرّفوا السماع، «الجنيد» فيرى بأنه وارد حق يزعج القلوب إلي الحق، فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق. ومن أشهر الطرق الصوفية التي وظفت الموسيقى، «المولوية» التي أسسها جلال الدين الرومي، حيث اقترن الرقص بالموسيقى وإنشاد الشعر فسمي «رقص سماع»، والآلة التي تم توظيفها هي الناي لشبه صوته بأنين الإنسان، ولا زالت طقوس المولوية تمارس في العديد من البلدان العربية ورغم منع مظاهر التصوف في تركيا فهي تمارس اليوم كجزء من الفن الشعبي التركي. ومن المعروف أن أغلب المتصوفة عبر التاريخ كانوا ينظمون الشعر، وشعراء التصوف هم من عرّفوا العالم بحكمة التصوف من خلال ترجمة أعمالهم إلى لغات الأخرى ومن هؤلاء الحلاج وابن عربي وذو النون المصري ورابعة العدوية وغيرهم. واللطيف في الأمر أن بعض المتصوفة نظموا أشعارهم بلغة الشعب من أجل تقريب رؤاهم للطبقات الشعبية، رغم قدرتهم على نظم الشعر باللغة العربية، ومن هؤلاء عبدالرحمان المجدوب بالمغرب والشيخ بنعيسى مؤسس الطريقة العيساوية بالمغرب العربي، وكلاهما دفين مدينة مكناس المغربية، ونقف اليوم على أثر الموسيقى والشعر الصوفيين في الفنون الشعبية في العالم العربي فنجده حاضراً في فن «كناوة» الذي يعتمد الإيقاع الإفريقي، و«فن الملحون» وفن «الإنشاد الديني»، الأمر الذي جعل بعض الدارسين يعيدون تطور الموسيقى العربية إلى الموسيقى والإنشاد الصوفي عند المتصوفة، فالتاريخ الإسلامي يخبرنا عن مجالس السماع التي عرفتها الزوايا والتكايا والرباطات بالعالم الإسلامي والتي لا يزال بعضها مستمراً إلى اليوم. ويرى الباحث في التصوف سعيد جاب الخير «أن الشاعر الشعبي.. يمتص جانباً من التصوف ثم يعيد نسجه وتنظيمه وفق ما تزود به من علوم ومعارف دينية». كان للتصوف الأثر البالغ في الفنون الإسلامية التي تعد عنواناً بارزاً على عظمة الحضارة الإسلامية كما أسهم في رقي الإنسان المسلم، ولا يزال هذا الأثر مستمراً إلى اليوم فنجده في الموسيقى والرقص والفنون التشكيلية وغيرها. المولوية من أشهر الطرق الصوفية التي وظفت الموسيقى، «المولوية» التي أسسها جلال الدين الرومي، حيث اقترن الرقص بالموسيقى وإنشاد الشعر، فسمي «رقص سماع»، والآلة التي تم توظيفها هي الناي لشبه صوته بأنين الإنسان، وأكد جلال الدين الرومي على التسامح والمحبة التي نشرها من خلال طريقته القائمة على الرقص والسماع، بقوله: «تعال وكلمني ولا يهم من أنت، ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله»، ولا زالت طقوس المولوية تمارس في العديد من البلدان العربية، ورغم منع مظاهر التصوف في تركيا فهي تمارس اليوم كجزء من الفن الشعبي التركي. تطهير وتحرير الفن لدى المتصوفة وسيلة معتبرة لتطهير الإنسان وتحرر الروح لتحقيق القرب من الحضرة الإلهية، ويتحقق ذلك عن طريق فك قيود «الأنا» الكاذبة حسب المتصوفة والتي تجعل الإنسان يحس من خلالها بأنه متميز ومتفرد عن الآخرين، لكن تحرره من تلك «الأنا» يمنحه القدرة على أن يفجر «أناه» الفعلية والخالدة، والتي هي أساس كل جمال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©