الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يعيش القاتل بيننا!

عندما يعيش القاتل بيننا!
17 مايو 2012
بعد تحقيق المخرج الأميركي أوليفر ستون لفيلمه المثير للجدل “قتلة بالفطرة” Natural Born killers في العام 1994 تحول هذا الشريط الهذياني المقلق إلى أمثولة سينمائية صارخة حول شخصية القاتل والتي تتضافر عدة ظروف خارجية قاسية متعلقة بالطفولة، وأخرى داخلية غامضة في تحويلها إلى شخصية مدمرة لذاتها وللآخرين وكأننا أمام دوامة جهنمية تتصادم فيها الغرائز والعذابات والشرور والآلام، ومن دون منطق محدد أو مبرر واضح لكل هذا العنف المفرط ، قدم فيلم ستون أيضا نقدا مريرا لصحافة الإثارة وللوسائط الإعلامية التي تضخم وتمجد هذه الشخصيات السيكوباتية وتحولها إلى أساطير إجرامية، تغري الفئات المراهقة الساعية إلى تقليدها وتتبع أساليبها في مجتمعات ممزقة أصلا ومفتوحة على كل الاحتمالات الدموية والسلوكيات الشنيعة. الفيلم الآخر الذي قارب هذا الموضوع الإشكالي هو فيلم “فيل” Elephant للمخرج الأميركي غاس فان سنت والذي حصد من خلاله سعفة “كان” الذهبية في العام 2003 عندما قدم تحليلا سينمائيا أقرب للتجريب المشهدي والسردي حول المذبحة المروعة التي راح ضحيتها طلبة مدرسة (كولومباين) الثانوية في ولاية كولورادو الأميركية عام 1999. وهي المذبحة التي أثارت نقاشا اجتماعيا وسياسيا واسعا حول قانون حيازة وبيع الأسلحة في الولايات المتحدة، وحول انتشار ألعاب الفيديو العنيفة وأفلام الإثارة التحريضية، وحول نشوء عصابات المراهقين في المدارس والجامعات، وأثارت المذبحة أيضا أسئلة ملحّة حول تأثير الكحول والمخدرات والأدوية النفسية على الطلبة، وكذلك تأثير ثقافة العنف وثقافة الفضاء المفتوح للإنترنت على الوعي الهش لشريحة الشباب، وتأثير أوضاع المنبوذين والمهمشين والأقليات الإثنية وضمور المبادئ الأخلاقية، وغيرها من العوارض الاجتماعية المعاصرة، والأخرى المتجذرة التي يمكن أن تخلق بيئة خصبة للقتلة والمعتوهين والمنتقمين من ذاتهم ومن المنظومة السوسيولوجية المحيطة بهم، دوافع ومسببات قدمها أيضا وعلى طبق ملتهب مخرج الأفلام التسجيلية الشهير مايكل موور في فيلمه الملفت “بولينغ فور كولومباين” Bowling For Columbine الذي قدمه في العام 2002 وأثار من خلاله نقاشا حادا حول القوانين الاجتماعية المساهمة بقوة في تفشي العنف بين أوساط الطلبة والمراهقين. الصدمة الوجودية تماست الأفلام الثلاثة السابقة مع قضية القتل المجاني من جانبه الظاهري الذي يحمل إدانة مزدوجة للتشريعات وأخرى للظروف المعيشية والأسرية التي احتضنت هؤلاء القتلة وهيأت لهم مناخات مشجعة كي يتحولوا إلى وحوش بشرية لا يمكن السيطرة على ردات فعلها الشرسة والفتاكة. وعلى عكس هذه المعالجات الظاهرية التي لامست على استحياء وبشكل عابر أحيانا الدوافع النفسية العميقة للقتلة، يأتي فيلم أنتج العام الماضي وحمل عنوان “علينا أن نتحدث عن كيفن” We Need Talk About Kevin كي يقدم لنا نمطا سينمائيا مغايرا تماما لكل الأعمال التي تحدثت عن عنصر الشر الكامن في شخصية القاتل، ففي حين اعتمدت الأفلام الأخرى على الأسلوب التصاعدي المتعلق بلعبة الزمن وصولا إلى الذروة أو الخاتمة الكلاسيكية، فإن فيلم “علينا أن نتحدث عن كيفن” للمخرجة الاسكتلندية لين رامزي يأتي معاكسا ومتمردا في أسلوبه ورؤيته، فهو أقرب للعمل المفاهيمي أو التركيبي الذي نشاهده عادة في الأعمال التشكيلية المعاصرة، إنه عمل فني وتجريبي خالص، يعيد إنتاج الرواية الأصلية التي كتبتها ـ وبذات العنوان الذي حمله الفيلم ـ المؤلفة الأميركية ليونيل شريفر وحققت أفضل المبيعات في العام 2004 ، فالمخرجة رامزي لم تتبع حرفيا البنية السردية للرواية، وإمعانا في تأكيد وترجمة رؤيتها الخاصة لمناخ الرواية لجأت المخرجة إلى خلخلة النسق الزمني والتراتبي للسرد واستعاضت بتكنيك فريد من نوعه يعتمد بشكل أساسي على الإمكانيات المذهلة لعمليات المونتاج، والقطع، والتوليف البصري الذي يدمج زمن الذاكرة بكل تجلياتها وانكساراتها مع زمن حقيقي ومعاش بكل مراراته وصدمته الوجودية المدوخة، والتي تتمحور حول الأم (إيفا) ـ الشخصية الرئيسية في الفيلم ـ تؤديها بشفافية تصل لحد الذوبان والتماهي الكلي مع الشخصية الممثلة الرائعة تيلدا سوينتون، حيث نراها وهي تستحوذ تقريبا على كل مشاهد الفيلم المنتصرة للعبث المشهدي والتكثيف السريالي والهذياني الذي يورط المتفرج ويدخله إلى متاهات صغيرة تفضي به إلى متاهات أكبر كلما امتد زمن الفيلم من خلال سفر بصري رهيف ومرهق في ذات الوقت بين الماضي والحاضر، وبين ما هو حقيقي وما هو متخيل في الذهنية المضطربة والمكلومة للأم. دوافع شيطانية “دعنا نتحدث عن كيفن” ليس فيلما سايكودراميا بالمعنى الحرفي للكلمة، أنه يناور ويحوم ويتملص حتى لا يتورط في التحليل النفسي والتقليدي لشخصية القاتل والذي ينبعث فيه الدافع الشيطاني بالفطرة ومن دون مسببات واضحة، أثر ونتيجة سوف ينطبعان بقوة على شخصية هذا القاتل كما لو أنهما وصمة أو لعنة لا يمكن الفكاك منهما. يبدأ الفيلم على مشهد لستارة تحركها الريح بصمت جارح وعميق وكأننا أمام لوحة منبعثة من العدم ولكنها في السياق البصري ذاته تبدو وكأنها تخبئ خلفها إرثا من الدم والدموع والصرخات المقبورة في الصدى. في المشهد التالي نرى الأم (إيفا) وهي تترنح بعد استيقاظها من سرير الأرق، وثمة عقاقير منومة تتناثر تحت قدميها، وعندما تغمر وجهها في حوض المياه تختلط ملامحها بملامح شاب مراهق لا نعرف من هو، ولكنه بلا شك يمثل الذاكرة الحاضرة والجارحة في خيالات الأم وفي لاوعيها الممزق والشقي والمفتت. وفيما يشبه الفخ الشائك والمعتنى به جيدا تأخذنا المخرجة وبرفق مخادع إلى متاهتها البصرية كي نقوم كمتفرجين مشاركين في الأحداث، بتجميع المكعبات المفقودة في بنية القصة، لعبة ستكون مثيرة دون شك ولكنها تنطوي أيضا على الكثير من المخاطر والمغامرات المشرفة على هاويات وجروف، ذلك أن المتفرج هنا مرمي في منطقة مظلمة تماما وتنعدم فيها تماما مصابيح التفسير الدرامي للأحداث والتي يراها تعبر أمامه مثل أشباح ضارية وخاطفة، بحيث لا يستطيع مجاراتها والتحاور معها، ولأنه أيضا ــ أي المتفرج ــ سوف يعيش وطوال زمن الفيلم في هذه العزلة القصوى وفي هذه المنامات الكابوسية التي تعاني منها بطلة الفيلم. وفي عملية معذبة تشبه نزع الجلد المحروق، سوف نتتبع وبحذر التفاصيل الأولية التي يقدمها الفيلم بشكل ضبابي حول وصول ضيف غريب وغامض وهو الطفل (كيفن) إلى العائلة المكونة من الأم إيفا، وزوجها فرانكلين ــ الممثل جون ريللي ــ هذا الضيف سوف يكون ثقيلا دون شك لأن الأم التي اعتادت قبل زواجها على حياة الانطلاق والسفر والحرية الداخلية، تفاجأ بأنها على وشك الدخول في طور اجتماعي مختلف وأن عليها ومنذ حملها غير المتوقع هذا أن تتعامل مع حياة جديدة وسلوك مختلف، تكتشف إيفا بعد ولادة طفلها كيفن أن هناك ثمة مشكلة في طريقة تعامله معها، وعندما يكبر كيفن قليلا تتعمق هذه المشكلة وتتفاقم ردات فعله العنيفة وسلوكه العدائي تجاه والدته بالذات، وعندما يخبرها الطبيب بأن طفلها لا يعاني من أية مشكلة جسدية، يبدأ لغز تصرفاته المارقة في التنامي، فهو لا يستمع لتوجيهاتها وبات يفتقد لأي ملمح للبراءة والتواصل العاطفي وبات يستلذ بالعقاب، رغم أنه وأمام والده يقوم بتصرفات مخالفة تماما لتلك التي يبديها أمام والدته، تحاول الأم تفسير هذا السلوك الغريب لكيفن وربطه باكتئابها النفسي أثناء فترة الحمل، وأن جينة الاكتئاب والاضطراب قد انتقلت إلى طفلها، الأب بدوره كان سلبيا في مواجهة شقاوة كيفن ومشكلته المزمنة مع والدته ومع أخته الصغرى بعد ذلك، وكان يفسر الأمر على أنه شي عابر وأنه أمر طبيعي في هذه الفترة العمرية لكيفن. ولكن مع وصول هذا الفتى الشرس والمراوغ لسن المراهقة والتحاقه بالمدرسة الثانوية، تكتشف الأم أن ابنها وصل لمرحلة خطيرة في طريقة تعامله مع المحيطين به، فهو لا يشعر بأي تأنيب للضمير ولا يعرف معنى الألم النفسي الذي يسببه لذاته وللآخرين، كما أن برودته وسلبيته وصمته وغموضه، كلها عناصر نفسية تنذر بكارثة قادمة، ورغم كل الظروف القياسية للأسرة السعيدة المحيطة بكيفن، ورغم محاولات الأم الحثيثة في مصادقته وخلق حوارات معه لاكتشاف نواياه وهواجسه، إلا أن كل محاولاتها تبوء بالفشل، وتشعر بأنها أمام كائن شيطاني مغمور بالظلمات والشرور والشؤم، وهو ما يتحقق فعلا عندما يقوم كيفن بارتكاب مذبحة مروعة راح ضحيتها أصدقاءه في المدرسة مستخدما القوس والسهام التي أهداها له والده، والأقسى من ذلك أنه استخدم ذات السلاح في قتل والده وشقيقته الصغرى قبل أن يغادر المنزل لارتكاب جريمته الصادمة والكارثية، والتي تحولت الأم على إثرها إلى ما يشبه الحطام البشري المقصي من الوجود والمفرغ تماما من أية عاطفة محتملة أو من أي أمل أو مغزى من وجوب الحديث عن كيفن !؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©